آلاء حسانين
لقد سارت حياتي كلها على نحو مماثل، أستطيع أن أقول بأني لم أكن طفلًا مشعًا، ظنّني الكبار مطيعًا، إلا أن السبب لخمولي يرجع لرغبتي في عدم فعل شيء، حين كنت أجلس على درج المنزل، فيما أبناء الجيران يلعبون بالكرة أمامي في الباحة ويركلونها نحو قدميّ، لم أكن أعيد ركلها في الغالب، حتى حينما يزعق أحدهم من بعيد بصوت خشن طالبًا أن أفعل، ولم أكن أنفعل، عندما يجيء لاستعادتها وهو يدلق كل ما تعلم من شتائم.. لم أحب أحدًا أو أكره أحدًا، كنت طفلًا يجلس طوال الوقت ولا يفعل شيئًا، أذهب للمدرسة بضجر وأعود منها بضجر أكبر، أجلس على طاولة الغداء ولا أتذمر إن تأخر الطعام قليلًا، لكل الأطعمة مذاق واحد، أو هكذا بدت لي، فلم أشكو يومًا من أي صنف وكنت آكل من أي شيء يوضع أمامي..
أقضي المساء غالبًا بالاستلقاء على السرير، دون فعل شيء محدد، وحالما يدخل شخص غرفتي ويستأذن للمكوث قليلًا، فأنا لا أرفض، ولا أقبل أيضًا، وغالبًا يختار الجلوس بتردد ويبدأ حديثه بسؤالي عن دروسي ثم ينتهي بالشكوى من أحزانه.. ونادرًا ما كنت أظهر أي تأثر أو استجابة، حينها يغادر بنفس التردد أيضًا وهو يعرب عن ندمه لأنه دخل إلى بقعة الجحيم هذه، وسواء كان هذا الشخص والدي أو ابن الجيران الصغير أو جدتي المتذمرة فالأمر يبدأ وينتهي بنفس الطريقة أيضًا.
قضيت مراهقتي بقدر أقل من التعاسة، لا أدعي بأني كنت سعيدًا، الأمر برمته هو أني لم أكن أفكر كثيرًا بأشياء مماثلة، في طفولتي طلبوا مني أن أصلي، وحين كبرت استمررت بذلك، ثم توقفت بعد مدة وكان الأمر نفسه بالنسبة لي.. وحين كان أصدقائي يبكون من الحب لم أكن أتمكن من فهمهم، إذ لا فرق بالنسبة لي إن جلست بجانبي فتاة جميلة أو رحلت، لا ألحظ وجودهن أغلب الوقت، لكن في حال طلبن أن أوصلهن إلى منازلهن فأنا أفعل ذلك، وفي حال غيرن آراءهن فأنا أستجيب لذلك أيضًا، كل الفتيات اللواتي رافقنني كن يشتطن غضبًا بعد فترة وجيزة، لأني مثلا لم أكن أبالي إن غيرن تسريحة شعورهن، ليسرح كل شخص شعره بالطريقة التي يريدها، ما المثير في ذلك؟
عثرت في أوقات فراغي على بعض المواهب التي أنشغل فيها، بعدما قال لي أحد أصدقاء الطفولة بأن أفتش في نفسي بدلًا من الجلوس طوال الوقت.. لم أفهم ما يرمي إليه في البداية، لكنه أوضح قائلًا بأن أحاول اكتشاف الأشياء التي أحب فعلها.. ولأجل ذلك جربت القيام بأعمال كثيرة، كأن أفرغ الصناديق من شاحنة متوقفة على جانب الطريق، أو أن أغرس بضع شتلات أمام المنزل، وكان الأمر جيدًا، لم تشعرني هذه الأعمال بالسرور، لأني عددتها في مصاف الأعمال التي نقوم بها دون الشعور بشيء معين، كأن يكون المرء مارًا فيقوم بغلق النافذة، أو يحرك ساقه من هذه الجهة إلى تلك.
قضيت غالبية أيامي التالية في منزل والدي، وحين وصلت إلى عمر معين عرض عليّ برفق أن أبحث عن عمل، ردد قائلًا: أصدقاؤك تزوجوا، بينما ما تزال جالسًا على الكنبة. ولم يزعجني الأمر إطلاقًا ووعدته أن افعل. بعد أيام وجدت عملًا في متجر صغير، ليبدأ بعدها والدي بسؤالي برفق عن سبب عدم زواجي، وأجبته بأن الأمر لم يخطر على بالي من قبل، ثم وعدته بأن أفكر بالأمر.
في أوقات قليلة كان يخيم عليّ ظل كئيب، ولم أكن أفهمه، مرة جلست إلى جانب أحد أصدقائي ورحت أسأله، إن كان يشعر أحيانًا بوجود خفاش ميت في قلبه، قال بأن هذا ما يسمى بالتعاسة، واقترح أن أذهب لناد رياضيّ، وفعلت بادئ الأمر قبل أن تبدأ جثة هذا الخفاش بالتضخم، وكنت أصحو من وقت لآخر، وحين أستشعر أنه ما يزال موجودًا أعود للنوم مجددًا، يشبه الأمر وجود شخص ما ينام على سريرك، وتمضي أيامك بالاستلقاء على الكنبة في انتظار أن يغادر، وكان يغادر في الغالب، ولم يسبق أن افتقدته، أما عن كيفية دفعي له للمغادرة، فقد كنت أقف النهار بطوله أمام النافذة حتى تُعمي أشعة الشمس عينيه، فينهض متأففًا.
يتحدث الناس عن الأشياء بعمق أكبر من اللازم، مرة أخبرت والدي بأني أريد الانتحار، سمعت هذه الكلمة في التلفاز ذات مرة، وفهمت أنها توجه ضد الأشخاص الذين غادروا لأن شيئًا لم يدفعهم للمكوث أكثر، وبدأت أفكر ما الذي أفعله هنا؟ وأدركت أنه قد يكون خيارًا جيدًا أن أرحل، ففي نهاية الأمر لم أجد في الحياة متعة كبيرة، وطالما أحسست بأنها مثل حذاء ضيق.. لكن والدي أصبح مهتاجًا “في البداية كنت تجلس طوال الوقت، والآن تريد أن تنتحر؟” ولم أفهم إذا ما كان الانتحار خطرًا إلى هذه الدرجة، لأنه عرض عليّ الذهاب إلى طبيب نفسيّ وخمنت حينها أني قمت بشيء سيء، ألا يشبه الانتحار الذهاب في نزهة مثلًا؟ ظننته أمرًا مماثلًا، لكن لم لا يصبح والدي مهتاجًا بالطريقة ذاتها حينما أخبره أني سأغيب عن المنزل لعدة أيام؟ ما استطعت التوصل إليه هو أن الناس يستطيعون اختيار الرحيل أو البقاء إذا أردوا، وما أفهمه عن الانتحار هو أنه يشبه أن يخرج المرء من المنزل إلى الباحة، يشبه التجول في الخارج ولو قليلًا.
توقفت عن التفكير في الأمر بعد مدة لأني لم أكن أحب الشجار، إذا لم يرد والدي أن أذهب لمكان يراه سيئًا فلا داعي لأن أجادل أكثر..
بعد مدة صار والدي مهتمًا باصطحابي للحفلات والسينما وزيارة كل قريب يخطر على باله، اكتشف ذات مرة أن أحد أبناء عمومته يعيش في أتلانتا وسألني عن رأيي في الذهاب لزيارته، لكني قلت بأن الوقت قد تأخر وعليّ الذهاب للفراش، ولم يقل شيئًا.. في الصباح التالي كان قد أقام حفلة بسيطة ودعا إليها مجموعة من الجيران، وحين سألته عن الأمر قال بأن اليوم يوافق عيد ميلادي، فقلت حسنًا، ثم سألني إذا ما كنت أشعر بالسرور ولم أعرف كيف يبدو ذلك، لكنّي ابتسمت برفق.
هناك بعض الأحداث السيئة في حياتي، فقد رباني والدي بمفرده، وبعد وصولي إلى سن معين شرع بالقول كيف ماتت زوجته منذ زمن، وتضايقت لأني لا أحب أن يموت الآخرون، وحين لم أبدُ متأثرًا بشكل كبير قال بأن زوجته هذه تكون أمي، فعبست قليلًا لأني سمعت سلفًا أن موت الأم شيء سيء، لكن وقتها لم يكن سيئًا جدًا، مجرد خدر بسيط امتد إلى أطرافي لعدة ثوان ثم تلاشى.
من الأحداث الأخرى التي لا أفضل تذكرها هو أني قلت ذات مرة لامرأة أعرفها بأن عينيها جميلتين، ولم أكن أرغب بشيء آخر، مرة أخبرت أحد جيراني بأن حذاءه جميل أيضًا، ووقتها لم أرد أيضًا شيئًا من وراء ذلك، لكن تلك المرأة بدأت تتصرف بارتباك، وحين تقابلنا بعد عدة أيام أخبرتني أنها تفضل الذهاب برفقة شخص آخر، فشعرت ببعض الامتعاض، لأني لا أحب أن يخبرني الناس عن أمور لا أبالي بمعرفتها، لم تكن أكثر من عينين جميلتين على كل حال، وبعد هذا اليوم توقفت عن التفوه بكل ما أفكر فيه، رغم أني بطبيعتي لا أفكر كثيرًا.
أحببت المشي على العشب دون حذاء والخروج دون مظلة في جو ممطر، ومن المشاهد التي كانت تؤثرّ فيّ قليلًا أن أذهب للتمشية ليلًا وأجد شخصًا يجلس بمفرده، قلة من الناس يتمكنون من الجلوس بمفردهم لوقت طويل، ولا أقول بأني أكره مشهد الناس حين يسيرون في جماعات، لكني أتجنبه، ولأني أظن بأن الإنسان كائن وحيد، فلم أستطيع اعتياد هذا المشهد، لا أؤمن بالكثير من الأشياء، ولا تخطر في رأسي أفكار عديدة، لكن إحدى الأفكار التي أظنها هي أن الإنسان يفقد نفسه حين يوضع وسط الآخرين، أتخيل عالمًا يصبح التواصل فيه أمرًا مستغربًا، ربما لأني لا أجد كلامًا أقوله حين يجلس بجانبي شخص ما، لا أجد متعة في الحديث عما يفعله الآخرون، ولا عما أفعله، وإذا زارني شخص لأكثر من تسع دقائق فأنا أطلب منه أن يغادر.
أخبرت والدي ذات مرة أن يتوقف عن الحديث إليّ، سألني لكم من الوقت؟ فقلت له: دائمًا، ثم سألني مرة أخرى عن السبب وأجبت بأنه يضجرني.
أحتقر الناس الذين يقضون وقتًا طويلًا من حياتهم في البكاء على شخص ما، وطالما أحسست بأنهم يبكون على أنفسهم.. بعد هذه الحادثة أخبرني أحد الجيران بأن والدي توفي قبل ساعات في حادث سير، فقلت له حسنًا.. وبعد عدة أيام نسيت الأمر تمامًا، شخص مات وانتهى الأمر، وبالنسبة لي فقد تخلصت قليلًا من بعض الثرثرة.
حين وصلت إلى أعتاب الأربعين، أخبرني أحد الأطباء بأني أصبت بسرطان في العظام، ونظرت إليه بوجه جامد، فظن أني مرتاع، وحين حاول أن يخفف عني بأن يربت على كتفي أصبحت مهتاجًا، لأني لا أحب أن يلمسني أحد، لكنّي عدت لهدوئي بعد دقائق وقلت: سرطان في العظام؟ حسنًا. وحين سألني عن خطتي العلاجية قلت بأني لا أحبذ الأمر، وأخبرته أني كنت سأذهب في رحلة مماثله حين كنت يافعًا، لكن والدي قال بأنها فكرة غير محببة، وحين خرجت من عنده فكرت بأن والدي غير موجود الآن، وأستطيع فعل ما أشاء..
في المساء اشتريت بذلة جديدة بألوان حيادية، أعني تلك الألوان التي لا أحبها ولا أكرهها، وفي اليوم التالي ذهبت إلى محل للأسلحة واخترت مسدسًا بشكل عشوائي، وفي طريق عودتي للمنزل مررت بجانب النهر الذي يجري في البلدة وأصبت بالحيرة، وكانت هذه المرة الأولى في حياتي التي أشعر فيها بشعور مماثل، فدائمًا كنت أستطيع الاختيار بين أي شيئين، وكنت أفعل ذلك بعشوائية، إذ كان كل شيء يشبه نقيضه.. بعد لحظات تفاقم ضجري أكثر، فعدت للمنزل وقررت أن ينتهي هذا الأمر بسرعة، وبعد ساعات بدأ الضجر المتراكم في دمي بالتضخم، ولاحظت أن عروقي أصبحت أكثر بروزًا، وشعرت برغبة في أن أفتح النافذة.. فتحت كل نافذة أراها لكن عروقي كانت تضخم أكثر، ذهبت للدور العلوي ودسست نفسي تحت الفراش، كنت أرتجف و أزداد تعرقًا وأشعر بضجر لا مثيل له، في النهاية لم أتمالك نفسي وذهبت للقفز من النافذة، وفكرت لوهلة بان هذا لن يعجب والدي، لكنّي استمررت بالسقوط وأنا أشعر بالضجر من ذكراه، من التفكير في ما يعجبه وما لا يعجبه، وللمرة الأولى في حياتي تمكنت من الشعور بالارتياح حين سمعت صوت ارتطامي وشعرت بكل جزء في جسدي يتهشم، وحين تدفق دمي للخارج وسال ضجري معه تمكنت من إغماض عينيّ أخيرًا.
12 يونيو 2017