السيّد كاف مُعولمًا في “حلم يقظة” لهيثم الورداني

حلم يقظة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد عبد النبي

“كل رحلة لا تذهب إلى القلب وإنما تعود إليه. كل رحلة لا تحمل أملاً باكتشاف أرضٍ جديدة. وإنما حنينًا إلى مكان يُخيل إليها أنها كانت فيه من قبل. أما القلب فيبقى دائمًا على بُعد خطوة.” ترد الفقرة السابقة في قصة الأرواح الميتة، من المجموعة القصصية حلم يقظة لهيثم الورداني (دار ميريت – 2011)، وبقدر ما تصف الفقرة رحلات إحدى الشخصيات إلى عوالمها  الداخلية في أحلام يقظتها، ربما تصف أيضًا طبيعة الرحلة التي يحاول هيثم الاقتراب منها، فهي ليستْ رحلة مكانية أو حضارية وحسب، بقدر ما هي رحلة داخلية، تتحول خلالها الذات إلى طيف يتذبذب بين الوجود والعدم، يَصير ما يُسمى بالواقع خلالها أقرب إلى حلم يقظة.

يمكن قراءة مجموعة حلم يقظة بوصفها كتابًا قصصيًا لا تنفصل قطعه السردية عن بعضها البعض، مِن ناحية العالَم الذي تتناوله وطبيعة الهموم المطروحة (المهاجرين في برلين من جنسيات مختلفة – الاغتراب الروحي قبل المكاني – أسئلة العولمة الراهنة) ومن ناحية طرائق الاشتغال السردي (الوحدة العضوية للفقرة – شبحية الشخصيات – الانحياز للعالم الداخلي – التخييل المكبوح برفق والملعوب بذكاء – اللغة الرصينة التي تعتمد أحياناً مسكوكات قد تبدو ثقيلة [من نوع: زرافات ووحدانًا] إلى جانب الصيغ العامية والمفردات الأجنبية).

ثمة جهد مبذول في ترتيب النصوص بحيث تتخذ بنيةً ما، لا تقترب رغم ذلك من قصدية معمار الرواية أو المتتالية القصصية، ولكن السيميترية واضحة. وإذا عمدنا إلى تقسيم نصوص الكتاب إجرائيًا سنجد في القلب القصتين الأطول والأهم، الأرواح الميتة ومسلسل “النائمون”، وهُما أهم من حيث درجة وضوح هموم الكتاب وأسئلته، من خلال دراما شخصيات معلقة في فراغ كوني، فراغ تتخذ فيه مدينة غريبة شكل هذا الكوكب بكل نزعاته وأطيافه. شخصيات هي غالبًا أسيرة مؤسسات كبرى، مؤسسات ذات بُعد كوني كذلك، حيث تختلط الألسن والأديان والعقائد. لا مهرب لمثل تلك الشخصيات إلا أحلام اليقظة أحيانًا، وسرعان ما يتحول هذا المهرب في قصة الأرواح الميتة إلى وسيلة مبتكرة للانتقاد والمواجهة : تحويل أحلام “بي” إلى كتاب مزوَّد بالصور التي يلتقطها جرجس زميلها من الشركة. في القصة نفسها نلمس كيف تتحول علبة لبن في ثلاجة في بوفيه مؤسسةٍ ما إلى بؤرة للنقاش حول حدود الملكية الخاصة في مقابل الموارد المتاحة للجميع، وكيف نتعامل، على مستوى فردي وجماعي، مع استبداد الإدارة، كل إدارة على إطلاقها.

موقع الفرد وعلاقته بمَن حوله وما حوله نغمة أساسية تتردد بتوزيعات مختلفة خلال قصص الكتاب. في القصة الأخرى، والتي جاءت أقرب إلى نوفيلا، وهي مسلسل “النائمون”، مواجهة المؤسسة الغربية تتمثل في التخطيط لأعمال إرهابية ضخمة، توقظ النائمين، وتطول النقاشات حول هدف التدمير، هل يكون موقعًا تاريخيًا له دلالته الرمزية أم سوق تجاري عصري كتجسيد للحداثة التي تشوه وتقتل وتسلب الخصوصية؟ يبقى الأمر في حدود التخطيط والنيات والعزم، حتى يختلط الحلم باليقظة – هنا وفي أغلب قصص الكتاب – فلا يدري أحد إن كان الهجوم قد وقع بالفعل أم تظل الشرطة في حالة استنفار مرابطة بجوار المبنى المهدَّد تحسبًا للاحتمالات. بعض شخصيات الكتاب تتآكل أطرافها، تختفي ببساطة، ومنهم من يختفي وجهه فعليًا وتتخذ أجسادهم ردود أفعال مَرَضية للتكيف مع هواء المدينة.

الطبقة الثانية من الكتاب تتمثل في ثلاث قصص تحمل اسم السيد فهمي: ( السيد فهمي يذهب إلى العمل، السيد فهمي يذهب إلى حفلة، السيد فهمي يركب المترو). هذه القصص لا تأتي على التوالي، لكن مواضعها من الكتاب تؤكد السيميترية. والسيد فهمي هنا أقرب ما يكون إلى السيد كاف في بعض أعمال كافكا، الإنسان العام الذي تبتلعه أو تمسخه ماكينة المؤسسة ومتاهة الشمولية وألغاز الوجود الإنساني. السيد فهمي أكثر بساطةً ومرحًا مِن كاف كافكا، شخص بلا ملامح واضحة، مجرد مهاجر عربي بسيط يعيش وحيدًا، يُضاف إلى خلفية المدينة حتى يكاد يندمج بها تمامًا، يعمل كومبارس حيث يظهر في أولى القصص الثلاث جالسًا إلى البار، مع صديقته إيستر، بينما يتم تصوير مشهد سينمائي، فيما نتابع الحوار الدائر بينهما وهما يحاولان ألا يغفلا الإشارات بالأيدي اللازمة للمشهد… تُحدثه هي عن ضجرها من كونها صارت مجرد صورة باهتة تطفو على سطح كل مدينة ترحل إليها، يحاول من جانبه إقناعها بإمكانية البقاء في عالم الصور وقتًا أطول، طالما أنها لن تجد سواه في أي مدينة تذهب إليها. في القصص الثلاث نتابع مع السيد فهمي أفكاره وهواجسه حول الهجرة والاغتراب، من قبيل نظرية الثلاجة حيث تتجمد المعرفة بمزحات وقفشات الوطن عند لحظة الرحيل عنه، ومن ثم يتم تجميدها واستعادتها كما هي، طوال الوقت، بصيغتها القديمة المجمَّدة. في القصة الثالثة فقط ينشق الديكور الواقعي للمدينة المحيطة عن سلخة من فانتازيا سوداء، لحظة اقتحام الديدان الكثيرة لعربات المترو واندماجها مع الركاب، وفي سياق مشهد مطاردة الهارب من مفتشي المترو، تندغم أوهام وهواجس الذات في المشهد العام بلا انفصال، تمامًا كما تتسرب ذات الرائد الفضائي إلى الفراغ الكوني في القصة الأخيرة من الكتاب.

ثم نأتي للطبقة الأساس من الكتاب وهي القصص الأربع التي تحمل على التوالي عناوين: اليوميات والحوارات والأعراض واللقاءات، إنها تحيط بالكتاب في أوله وآخره، كما تتخلله، وهي أقرب إلى وقفات تأملية سردية، بدون شخصيات ولا أحداث بالمعنى المتعارف عليه، مُعتمدة على وحدة الفقرة الواحدة في إنتاج الدلالة، مع وجود روابط بين فقرات كل نص. اليوميات ترسم صورة بانورامية لمدينة برلين، انطلاقًا من كتابات الجدران وكيف تعكس ما بداخل سكّان هذه المدينة من تباينات واختلافات سياسية واجتماعية، على حيطان الشوارع أو فوق جدران المراحيض العامة يتحاور المجهولون وقد يتبادلون السباب، معلنين عن توجهات تتراوح من الفاشية إلى الفوضوية. وبينما تكتمل تلك اللوحة البانورامية لا تعكس الحركة في المدينة نفسها ذلك الصخب الصامت، لا تعكس الجملة التي كُتبت في الشارع “أنا لن أموت في صمت”، بل نرى مجموعات المهاجرين وسواهم أقرب إلى كائنات شبحية أو مسرنمين. كأنَّ الحرب باطنية، بلا وجهٍ مكشوف، ويبقى العجز عن تحويل صمت فترات ما بعد الظهيرة إلى سَكينة حقيقية، “ويورث هذا العجز شعورًا مُربكًا بفوات ميعاد لا يمكن تداركه”. 

في مقابل الحرب الصامتة على الجدران العامة نسمع في نَص (الحوارات) كل الضجيج الممكن المخبَّأ تحت صمت الشوارع ووراء شعارات الجدران. في فقرات متتالية يُحيط بكل منها قوسي عبارات القول، نستمع إلى ما يقترب من شهادة توثيقية قصيرة في فيلم صغير عن المهاجرين، أو فضفضة حميمة من أحد المعارف في سهرة ودية، بلهجات عربية تنتقل بين فلسطين ولبنان ومصر، ورغم انفصال هذا الصوت –الكلام عن مصدره الأصلي، عن شخصيته ذات الملامح والحدود الواضحة، فهو لا يعني مع ذلك تجريده إلى مجرد قضية، يظل صوتًا إنسانيًا له خصوصيته.

في آخر قصص هذه المجموعة (اللقاءات)، وهي آخر قصص الكتاب، يعتمد الورداني صيغة الفقرة الواحدة في أوضح صورها، الفقرة كوحدة عضوية سردية تكاد تكون مستقلة بذاتها، ترسم مشهدًا فانتازيًا أو تحكي حكاية طنين رأس عائشة أو رائد الفضاء الذي أرسل ليدور حول الأرض لالتقاط أكثر الصور الممكنة نقاءً فنزف ذاته في الفراغ أو نزف الفراغ إلى ذاته.كل فقرة تتصل بالفقرات الأخرى بخيطٍ رفيع، لعله مجالها الدلالي، أو أسئلتها المتكررة التي قد تتخذ أشكالًا سردية أو تصويرية متباينة، يصدق هذا على فقرات هذه القصة الأخيرة، كما يصدق بالقدر نفسه على قصص الكتاب كلها. بين غلافي حلم يقظة تجربة عميقة ووعي مرهف بلحظتنا الإنسانية الراهنة، تجربة لا تُتيح نفسها بقراءة سريعة أو بقراءة واحدة.

 

مقالات من نفس القسم