محمد فرحات
وكان عَزِيزٌ بْنُ السَّيِّدِ عَطِيَّةَ البنداري مُتَوَلِّيًا لِكَافَّةِ شُئُونِ الْعِزْبِ، وَالْأَرَاضِي الْوَسِيعَةِ، والالتِزامْاتِ الشَّاسِعَةِ، وَتَصْرِيفِ أُمُورِ الزراعاتِ وَالْأَمْوَالِ، وَالْوَارِدِ، والمُنْصرِفِ، وَكَان حَلَقَةَ الْوَصْلِ بَيْنَ أَبِيهِ الْوَلِيّ المُحتجِبِ، وَالْحُكَّامِ مِنْ مِنْ مَمَالِيكَ الْإِقْلِيمِ والعَاصِمَةِ .
وَكَانَ عَلِيٌّ بْنُ السَّيِّدِ عَطِيَّةَ البنداري سِرَ أَبِيِهِ وَخَادِمِهِ، يَسْتَيْقِظُ مُبَكِّرًا، يُشْعِلُ النَّارَ، يُعِدّ طَعَامَ الْإِفْطَارِ لِأَبِيِهِ، وَيدفئُ مِيَاهَ وَضُوُوُءه، وَيُدِيمُ الْبَرَّ بِمُرِيديِّ الشَّيْخِ. ومُتَوَلِّيِ دِيوَان فُقَرَاء، وَيَتَامَى، ومساكينَ الْإِقْلِيم، وَمَنْ انْقَطَعَ لِلْعِبَادَةِ، فِي خَلَوَاتٍ طينيةٍ، تُحِيط بِخَلْوَةِ أَبِيِهِ.
كان أحدهما عقل أبيه، والثاني قلبه.ولم تكن الدنيا عند السيد عطية غَيْر وَسِيلَةٍ، وَمَمَرٍ إلى آخرته، ولم يكن من شئ يشغله عَنْ مَآلِهِ، وَلِقَاء رَبِّهِ، والورودِ عَلَى حَوْضِ نَبِيِّه، كانَ الفَرَحُ بِالْقُرْبِ جَمَالًا يغشى روحه وقلبه، فتفيض يده بالإحسان كأنه رِيحٌ مرسلة مُتَشَبِّهًا بنبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من شئ يؤرق لياليه سوى بعده عن روضة سيده البدوي، وقد حان وقت مولده، وقد تقدمت به السنون، ولم يَعدْ بَعْدُ مِنْ جَهْدٍ ، ولا وافر قدرة على الرحيل. وكان الوقت وقت خليفة البدوي سيدي عبد العال. وكان الأخير نفحة علوية، ورحمة ربانية لتلامذة البدوي ومريديه، ولولا عبدالعال لهلكوا شَوْقًا لحبيبهم، وأستاذهم البدوي، ولَتَغَشَّاهم الْحُزْنُ حنِيْنًا لسيدهم، ووليهم الأحمدي . فكان عبد العال مُنْجِيِّهم مِن اسْتِبْدَادِ الشَّوْقِ فالهلكةِ، وسلوتهم من الحنين، والغرق في بحار الحسرة. يذكرهم بسيدهم، ويسير فيهم بسيرته، فكان عوضهم عن سيدهم، وسندهم.
فكان عَلِيٌّ رَسُولَ أبيه لروضة سيده، وقائد قافلة محملة بكل ألوان الخير، والنعمة؛ وجهتها طندتا طنطا، ورسالة شوق، ومحبة من أخ لأخيه.
وكان وقت تجديد الالتزامات، وتسديد الضرائب والحساب قد أَزَفَّ، وكانت الدنيا قد دانت لعلي بك الكبير شيخ بلد مصر، والمتحكم في سياستها، ودفة حكمها، وكان عبدالعال قد بشره من قبل بتلك المنزلة، في وقت اشتد فيه المماليك يطلبون رأسه على عادتهم وقت خلافهم، واستضعاف فريق لفريق منهم، فآواه عبدالعال، وأحسن إليه في شدته، وبشره أن مشيخة البلد ستكون من نصيبه، فتعجب علي بك الكبير، وقال لنفسه《كيف والطِلابُ قد اشتد على رقبتي، ولا أمَنَ لي، ولا مُسْتَقَرًّا أَكِنُ فيه، فكان حاله بين النكران والإيمان، وما عليه، فلعلها بشرى. والشيخ واضح الصلاح، وَيُقَالُ عن شيخه العجب! فلعله ينال بقربه الفلاح…》. ولما تحققت البشرى، جاء علي بك الكبير لعبد العال عَارِضًا عليه الدنيا من مال، ومنصب، وقرب، وجاه.
فضحك عبد العال وقال《 لم تكن، يَوْمًا، لنا ببغية.》، فقال 《إذن، كيف أكافئ سابق معروفك، وعطاء يدك؟!》 فقال《هذا مقام سيدي، ومسجده فانظر كيف ينبغي أن يكون حاله؟.》، فوسع على بك الكبير جامع البدوي وزخرفه، حتى كان أعجوبة زمانه، وأهدى ضريحه مقصورة نحاسية بديعة الصنع، بهيجة المنظر، وأعد لعبد العال برزخًا منيفًا، ومقصورة خشبية منيرة مقابلة لروضة البدوي، إذا حَمَّ القضاء، وحان الأجل.
وجاء حاكم الإقليم، وجنوده للحساب، فاستقبلهم عَزِيزٌ بالهدايا، على عادة أعيان، و ملتزمي زمانه، ودُقِقَ في الحساب، وإحصاء الضرائب، وعدّ الذهب والمُنجَلِب، فكان أوفى الْتِزَامًا، وأدق ضَبْطًا، إلا أن الحاكم قد سأله عن والده السيد عطية، وعبر عن رغبته في لقاءه. فتحرج عَزِيزٌ من الاعتذار إليه باحتجاب أبيه بخلوته، وانشغاله بتسبيحه وصلاته، ولعلم عزيز باعتزاز هذا المملوك بنفسه، وقسوته إن رَدَّ له طلب، وكيف سيقولون إن اعتذر الشيخ عن مقابلته. فقال لنفسه《 وما عليه إن خرج من خلوته للترحيب، ومقابلة الحاكم، وحفظ ماء وجهه، وصون رجاءه وطلبه ..؟!》، وكان من عادة الشيخ ألا يدخل عليه أحد خلوته غير علي؛ وعلي قد ذهب لطندتا فما العمل؟! فكتب عزيز رسالة لأبيه يخبره برغبة حاكم الإقليم في التبرك بمقابلته، ومن خَلَلِ باب الخلوة أسقطها، فرد عليه الشيخ بورقة لم يكتب فيها غير عبارة《أخرج من معية الحق، لمجاملة الخلق؟!.》.
ولما تعذر اللقاء، حسب الحاكم أن ذلك تَحْقِيرًا لمقامة، واسْتِصْغَارًا لشأنه، وإهانة لمركزه، فغضب، وتوعد، وهدد، وأَرغَى، وأَزْبَدَ، وأمر أن يأتيه عَزِيزٌ من غد بالدفاتر، وأوراق الالتزام، وحدود الجفالك والأبعاديات، وكان معنى ذلك في عرفهم سحب الالتزام منهم .
***
وقع عزيز في حيرة شديدة ماذا يفعل، والشيخ قد أغلق دونه خلوته، هل يسلم الالتزام، أم يلحق بالحاكم رَاجِيًا، ولكن الشيخ قد أرسل إليه للقائه، ولما قَصَّ عليه عزيز القصص، أمره أبوه بترك كل شئ واللحاق بأخيه إلى رحاب البدوي. والحقيقة أن عَزِيزًا لَمْ يَكُنْ بِأَقَلَّ مِنْ أَخِيهِ وَرِعًا وَمَحَبَّةً، فهما صنوان من أصل واحد، إلا أن ما أُلْقِي على كاهله من نعومة أظفاره لم يكن بالشئ الهين، فَغَلَّبَ فيه النزعة العملية، والحنكة في تدبير الأمور، ومسايرة ما يجد من أحداث، وعلم السيد عطية ذلك فكأنما أراد أن يروح عنه، ويريه من آيات ربه.
وصل عَلِيٌ إلى رحاب البدوي بأول أيام المولد، بعد رحلة غَيَّبَ تَفَاصِيلَ مَشَقَّتِهَا شَوْقٌ لا ينقطع وحنين لا يزول، نزل أَوَّلًا يتفقد سيده عبد العال ويبثه محبته، ويسلمه رسالة أبيه، ثم وصل الشوق بالشوق فتوجه إلى ضريح البدوي يُسِّرُ إليه لَوَاعِجَ حنِينِه.
وصل عزيز في الليلة الختامية من مولد البدوي، ليجلس بجانب أخيه في حضرة سيدي عبد العال، ويدخل بعدها على إثره موكب كبير على رأسه على بك الكبير ذاته، وحكام الأقاليم، وعلى رأسهم حاكم الشرقية، وبعد انتهاء الحضرة يدنو علي بك الكبير من السيد عبدالعال يسأله أن يأمره بما يرضيه، فيجيبه عبدالعال مُشِيرًا نحو عزيز وأخيه، 《سل حاكم الشرقية عن سبب غضبه..!》 فيشير إليه علي بك، وما أن تقع عيناه على عزيز، حتى يعلم سبب استدعائه، فيقول《والله ما طلبته إلا أن أضاعف التزامه…》فيبتسمُ عَزِيزٌ رَاضِيًا مَرْضِيًّا، ويوجه عبدالعال حديثه للجميع 《 اعلموا أنه لَا يُزَارُ وَلِيٌ إلَّا بِإِذْنِهِ، وما أدراكم من هو عطية البنداري …》
وعندها سألت الشيخ 《 كَيْفَ تَجْتَمِعُ الْوِلَايَةُ مَعَ كُلِّ هَذِهِ الدُّنْيَا ؟،فقال:- كَانَتْ الدُّنْيَا كُلُّهَا بِأَيْدِيهِم ، وجافتها قُلُوبُهُم…》