السنجة.. نعي الأحلام المجهضة

السنجة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

عالم مجهول لم تلجه من قبل طالما كنت تقبض على جوالك الذكي وتقرأ الآن هذه المراجعة، فسكانه ليست لديهم رفاهية قراءة أي نوع من الكتابات فضلا عن الكتابة الإلكترونية.

ولكن هل وصف هذا العالم الغريب كان هو القصد النهائي للروائي الراحل أحمد خالد توفيق، بروايته “السنجة” أم أن هناك قصدية أخرى أعمق من ذلك.

أحمد خالد توفيق من مواليد 1962 وصل لسن التمييز الفكري ككل جيله بذروة الغليان الشعبي بثورة يناير الأولى 1977 وتأثر بكل تلك الأحداث وما تلاها من زيارة السادات لتل أبيب ثم توقيع معاهدة كامب ديفيد، والارتداد على مبادئ الاشتراكية والقومية، ثم الهزة الاجتماعية المزلزلة المتمثلة في الانفتاح، والتطلع الاستهلاكي الرهيب الذي سيطر على المجتمع المصري والذي هرع جزء كبير منه للخليج الناهض بأرباح النفط الخيالية، لم يأت بالفيديو والمروحة والسيارة فقط وإنما بمنظومة فكرية متكاملة مجافية لثقافة مصرية خالصة تصور كل مناحي الحياة وما بعد الحياة، في ظل انسحاب تدريجي للدولة حيال مسؤولياتها الاجتماعية والاقتصادية، مما خلق فجوة طبقية واسعة جدا بين طبقات المجتمع والتي كانت قد تقاربت جدا بالحقبة الناصرية…لتخلق مجتمعات عشوائية بعيدة عن متناول الدولة عن عمد وغير عمد، مجتمعات “كدحديرة الشناوي” ارتدت لعشوائية جامحة، غارقة في الجوع والبلطجة والمخدرات الرديئة، وتتمدد تلك المجتمعات كالثقوب السوداء لتلتهم كل القيم التي تربى عليها “العراب” وجيله، تمتد لتخلق قيما غريبة وأيضا نماذج بشرية أغرب…كل هذا كان في ذهن “العراب” ليكتب”السنجة” لتبدأ بلغز اختفاء “عصام الشرقاوي” الأديب والروائي المحطم،  والذي يهرب من قيمه البرجوازية الأنانية، من مجتمع المثقفين المغلق الغارق هو الآخر باغتراب لايقل في درجته عن اغتراب ساكني تلك العشوائيات الصفيحية المهملة…يصعد “عصام الشرقاوي” للهاوية بقدميه، يبحث عن روايته الأخيرة “بدحديرة الشناوي” غير عابئ أو مدرك لخطورة تلك الخطوة. “عصام الشرقاوي” كاتب وروائي محطم، أتم عقده الخامس، يتذكر دائما أحداث 1977 فهو كان من جيلها، ميدان التحرير، الكعكة الحجرية التي خلدها “أمل دنقل” بقصيدته، وأيضا “أحمد خالد توفيق” قد أتم عقدة الخامس بذات العام الذي كتب فيه روايته “السنجة” 2012.

يأتي “عصام الشرقاوي” بقدميه إذن لهذا العالم، يحاول الاندماج وفهم شخوصه، ولكنه في كل محاولة للاقتراب يقابل برفض جاف عنيف، إلى أن تنتحر”عفاف” تحت عجلات القطار الحديدية، ولكنها قبل ذلك بثوان تكتب بالاسبراي الأسود كلمة تحتمل معان كثيرة” سبحة، سيجة، سنجة، سرنجة، سرجة” يحاول بطل الرواية فك لغز هذا الطلسم المغرق في الغموض، فنكتشف معه أن كل لفظة تمثل مدلولا ومحطة بحياة “عفاف”. وفي تداخل أزمان غريب مناسب لجو المخدرات المغشوشة، يلاحق “عفاف” فتاة أحلام الدحديرة الأولى،بداية من سني حياتها الخمس الأولى!، بقوامها الملتف، وملامحها السمراء العذبة، ليتسائل “عصام” كيف للطعمية والكشري خلق كل هذا الجمال، ذات السؤال الذي سأله “نجيب محفوظ” حين تحدث عن “حميدة” ب”زقاق المدق” وإن كان العملاق يعبر عن قيم آخرى؛فتلك القيم والتطلعات الجديدة لم يعاصر إلا إرهاصاتها الأولى بعد عقود من كتابته لرائعته” زقاق المدق”.

“عفاف” عاملة الكوافير، أم جاذرة الدجاج، أم بائعة الطرح أم أم…هي شخصيات كثيرة بشخصية واحدة تجسد تلك الشخصية الشائعة جدا من فتيات تحمل الشهادات المتوسطة ترتد لشبه أمية أولى…وتكدح وتهدر آدميتها مقابل تأمين حد أدنى من الكفاف، ولكن عفاف تقع في الشغف ب”حسين” شاب يدور على المقاهي والشركات والميادين كمندوب يروج لسلع صينية تافهة، لايكاد يقيم حياته يقع باستغلال الجميع من أول بائعة الدجاج، للشركات الوهمية التي يعمل لها مندوبا، نهاية بالدولة نفسها، ليقرر في لحظة غضب ويأس عارم أن ينتقم لنفسه.

وبوسط شبكة من الأحداث والشخصيات المركبة الموحية بأن حدثا مزلزلا سيحدث عما قريب، يحاول “عصام الشرقاوي” التقرب لهذا العالم إلا أنه يفشل وينال “علقة موت” نهاية حتمية للاتقاء عالمين غريبين عن بعضهما البعض، نهاية معبرة عما وصل إليه المجتمع “المصري” المعاصر وهل يصح إطلاق لفظة “مجتمع” على كل تلك الطبقات التي لايربطها أدنى رابط، تكاد كل طبقة تكون مجتمعا أجنبيا عن الآخر بكل ما تحويه كلمة “أجنبي” من معان.

يحدث الزلازل وتنطلق ثورة يناير2011، يعايشها “عصام الشرقاوي” آتيا من خلفية ثورة ينايرية سبعينية آخرى بذات المكان”ميدان التحرير” وبذات القيم” الخبز” وكانت “انتفاضة خبز” و”الحرية” وكان قد تحول الواقع إلى سجن كبير، “عدالة اجتماعية” وكان الارتداد عن شعارات العدالة الاجتماعية بذروته. لايكاد “عصام الشرقاوي” يفرق بين الثورتين…وكما كان مآل الأولى كان مآل الثانية.

يقتل “حسين” قبيل “موقعة الجمل” بسنجة أحد البلطجية المانعين إياه من دخول الميدان أمام عين حبيبته”عفاف” لتنهار عفاف انهيار الثورة، وتصل ذروة انهيارها باختطاف عصابة”حماصة” لها وتناوب عشرات البلطجية على اغتصابها بمقر حكم “حماصة” السرجة القديمة. تنتحر عفاف.

فهل كانت عفاف معادلا للوطن، وهل كان “حسين” هو الثورة المقتولة، وهل كان “حماصة” هو القابض على كل الخيوط؛ يقتل الثورة، ويغتصب الوطن.  وهل كانت “دحديرة الشناوي” هي مصر الأخرى؛ غير مصر الكومبوندات عالية الأسوار، المحصنة بالحراسات الخاصة، والمنتجعات الفارهة؟!

يحل “عصام الشرقاوي” اللغز، كانت تقصد”السرجة” فيذهب بقدميه ل”حماصة” بسرجته” ويختفي هو الآخر.

كان “عصام الشرقاوي” هو نفسه” أحمد خالد توفيق” كان العراب ينعي نفسه بهذه الرواية، كما نعى حلمه والذي تجسد بثورة مجهضة مقتولة مغتصبة.

مقالات من نفس القسم