السكير

عبد الرحمن أقريش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

مضى زمن طويل، لذلك يبدو الأمر بعيدا الآن، بعيدا جدا.
كان الحي عبارة عن بيوت بسيطة وواسعة، مشيدة بالحجر والطوب الطيني الأحمر، تخترقه أزقة ضيقة وملتوية مثل ممرات النمل، من الخارج تبدو البيوت متشابهة، بعضها شيد بإحكام، وبعضها شيد كيفما اتفق وبحرص أقل، مجرد أحجار متراصة بعضها فوق بعض، وطبعا كان بياض الجير يغطي عيوب البناء…
آنذاك تبدو الحياة بسيطة، والناس أيضا كانوا بسطاء، لسبب ما لم تكن تعنيهم كثيرا مسألة الفقر والغنى والتمايز الطبقي، ربما بسبب الأصول الفلاحية لأغلب الأسر، ربما بسبب الوازع الديني، وربما أيضا بسبب احتقار الناس للمظاهر والاستعراض والبهرجة…
لا يظهر الاختلاف إلا عندما ندلف إلى الداخل، حيث الزليج، وأفرشة الحلفاء، والصينية، وأواني الزجاج، وحدها تلك تفاصيل تخلق الفرق، وترسم حدود التراتب الاجتماعي بين الأسر.
يقف الصبي أمام الباب الخشبي، ويده تمسك خيط (الساقتة)، يشاهد الأطفال وهم يلعبون الكرة، يدحرجون إطارات معدنية، يدفعون سيارات وشاحنات بعشرات العجلات مصنوعة من علب حليب (بوريسيما) المعدنية، لها مقود، ومرايا حقيقية…
لسبب ما يجهله لم يشارك الصبي أبدا في عالم الأطفال ذاك، لم ينخرط أبدا، يقف هناك على بعد خطوات، يشاهد فقط، يتفرج كما لو كان الأمر يتعلق بعالم افتراضي غير قابل للتملك.
إلى اليسار يجلس (عمي الحاج) وصديقه (بابا العربي) أمام الحانوت، يتحدثان عن الماضي، وعن زلزال المدينة في الستينيات، يتذكران كيف مسحت المدينة في لمح البصر وأصبحت أثرا بعد عين، يتحدثان بألم، يتذكران بكثير من الحزن، فقدان الأهل والأحباب، وموت الصبايا والرضع…
يتحدثان بهدوء، ينخرطان في حكايات لا تنتهي، كلام يستدعي بعضه بعضا، ينصت الطفل، ينظر إليهما بإعجاب.
الرجلان من معالم الحي القديمة، تعود علاقتهما إلى زمن بعيد، علاقة نسجتها الصدفة وتقاطعات الحياة، جوار، صداقة، تقارب في السن واختبار الناس والحياة، واختلاف كبير في الأصول والمستوى الاجتماعي، (عمي الحاج) رجل ميسور الحال وبمعايير ذلك الزمن هو من الأثرياء، أما (بابا العربي) فيبدو كما لو كان قادما من عالم آخر، رجل بسيط، فقير، بالكاد يملك قوت يومه، ولكنه متدين بعمق، هادئ، متفائل، متصالح مع ذاته ويكفيه القليل لكي يكون سعيدا…
ثم، تلمع عيونهما فجأة وهما يسترجعان ألغاز الموت والحياة، كيف مات الكثيرون ونجا البعض بمعجزة، وكيف استخرجت جثث الأزواج والعشاق ملتصقة بعضها ببعض.
يتحدث (بابا العربي) عن ليلة الزلزال، يتذكر الأصدقاء والأحباب الذين غيبهم الموت، يتحدث عن الجيش والمتطوعين الذين اشتغلوا ليل نهار في عمليات الإغاثة…
ثم يرسم لحظة صمت…
ترتسم على وجهه الخطوط الأولى لتعبير غامض، مزيج من الحزن والألم والكبرياء، يتذكر بالخصوص كيف وقف أبناءه الثلاثة بين يديه، ينظرون إلى المصحف المفتوح، يؤدون القسم قبل الالتحاق بصف المتطوعين، يحلفون يمينا أن يشتغلوا بشرف وأمانة، وألا تمتد أيديهم وأعينهم إلى أموال الناس وأعراضهم الأموات منهم والأحياء.

ثم تمر فتاة مراهقة…
شابة في حدود العشرين، جميلة بلباس عصري، قميص أبيض من خيوط الصوف المشبك، وسروال بلون كستنائي، لصيق من فوق وفضفاض من الأسفل، يصمتان، يتابعان خطواتها بكثير من المتعة والفضول.
يعلق (عمي الحاج)
– زوينة، خسارة، مسكينة، أنا أشفق عليها…
يسأله (بابا العربي)، يسأل صامتا.
– …؟
– حب الشباب خسر لها الزين ديالها !!
ينظر إليها (بابا العربي) يهز رأسه موافقا ولا يعلق.
ثم، يعم الصمت فجأة، تتوقف الحركة للحظات، تسمع أصوات آتية من بعيد، أصوات تقترب فتزداد قوة ووضوحا، صياح وهتافات، أصوات قوية ومنفلتة.
– السكايري بوقرعة، باع أولادو بربعة…
– السكايري بوقرعة…باع أولادو وشرا قرعة…
– السكاري بوقرعة…!!
يلتفت الصبي إلى مدخل الزقاق، يرى حلقة نصف مغلقة من أطفال الحي، أطفال ومراهقون من كل الأعمار، يتوسطهم (المحجوب) وهو في حالة سكر طافح، من بعيد، يبدو شخصا قويا وأنيقا، قامة طويلة، حذاء أسود بكعب عال، قميص أبيض، وبدلة عصرية مكوية بعناية، يتمايل الرجل، يتفصد عرقا، يبدو مذهولا، وبين الحين والآخر يتوقف، يميل رأسه إلى الأسفل، ينظر إلى سرواله المبلل، ثم يرفع رأسه بصعوبة، ينظر للفراغ، يتمالك نفسه، يعتدل…
يشتغل (المحجوب) في الميناء تقنيا في ورش لبناء السفن، متزوج وأب لأسرة صغيرة، هو واحد من (يا أيها الناس)، لا يبدو مختلفا عن كل هؤلاء الذين نحتتهم الحياة وقسوة العمل، هؤلاء الذين يغادرون بيوتهم فجرا ولا يعودون إلا وقد عم الظلام، يكسب قوته بعرق جبينه، ينفق على نفسه وعلى أسرته بسخاء، ولكن الرجل مع ذلك يعيش حياة مزدوجة، فبين الحين والآخر يخرج من جبته رجل آخر مختلف تماما، رجل دنيوي يحب الحياة، يسهر، يشرب، يسافر، يعدد الخليلات، يختفي لمدة، وعندما تنتهي مدخراته يظهر فجأة ويعود إلى الحي…
يمشي بصعوبة، يبتعد الأطفال قليلا، تتوسع الدائرة، يفسحون المجال أمامه.
يتقدم خطوة، يتراجع خطوتين، يميل يمينا ثم يسارا، يفرمل حركته بحثا عن التوازن، يتفرس في وجوه الصغار، ينظر حوله كأنه لا يرى، ينظر للبيوت باحثا عن باب منزله، تضيق عيناه المحمرتين، يفتحهما بصعوبة.
ثم يتعرف عليه أخيرا.
يدق على الباب الخشبي، يدق مرة ثانية بقوة، لكن بدون جدوى، فقد أحكمت زوجته (فطومة) إغلاق الباب من الداخل.
ينظر إليه الرجال بشماتة، تطل النساء من النوافذ، يغرق الأطفال في الضحك.
يدق مرة أخرى، يتسلق الباب، يمسك بالشباك، من الداخل توجه إليه المرأة ضربات محكمة بقضيب المكنسة، يتألم، ينفخ على أصابعه، يعود للباب، يدقه بعنف، لكن الباب لا ينفتح.
ثم يتوسل إليها، يستجديها.
– واتي حلي يا حليمة !!…(إفتحي الباب يا حليمة)
يصفق الأطفال، يضبطون الإيقاع، يرددون اللازمة بصوت واحد، وبكثير من المجون والسعادة.
– واتي حللليييي يا حليييمممة !!
– واتي حللليييي يا حليييمممة !!
ينظر إليه (بابا العربي) بغضب أبوي، يتأسف.
– لا حول ولا قوة إلا بالله…الرجل نسى الاسم ديال مراتو !!
يسأله (عمي الحاج) باستغراب.
– شكون هاذ حليمة ؟! (من هي حليمة؟)
– إوا شكون فنظرك؟ …هي واحدة من ذوك لي على بالك !!
يضحك (عمي الحاج) بسعادة، يمسح دموعه ويقول.
– إوا هاذي زوينة…قصة والله !!

عندما غادر الصغار واستعاد الحي بعضا من هدوءه، جلس الرجل على عتبة بيته مهزوما مكسورا، أمسك رأسه بين كفيه وراح يبكي بصمت.
كانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها الصبي شخصا سكرانا.
جرت مياه كثيرة تحت الجسر، مات الكثيرون، غادر آخرون، رحلوا دون عودة، تغيرت معالم الحي…
في كل مرة يسترجع الصبي تلك الصور، تتملكه مشاعر متناقضة، يفكر ويحاول أن يفهم، يسأل نفسه.
– من أين يأتي كل هذا العنف؟ لم يبك الرجال؟ لم يبدو عالم الكبار قاسيا ومدمرا؟
يسأل وفي كل مرة يصل دوما إلى نفس النتيجة: هو لا يدري.
مالت الشمس نحو المغيب، توارت خيوطها خلف أسوار المدينة القديمة، يهيمن الليل تدريجيا…
يغادر (عمي الحاج) مودعا.
في الخلفية بعيدا يرتفع صوت الآذان.
يغلق (بابا العربي) دكانته في حركات منتظمة ومحسوبة، يتمتم، يردد كلمات الآذان بداخله.
توقف للحظات، التفت إلى (المحجوب)، بدا مترددا وكأنه يفكر أو يحدد وجهته، اقترب من الرجل، ربت على كتفه برفق، وخاطبه بهدوء.
– سأعود بعد الصلاة، انتظرني، سأرى ماذا يمكنني أن أفعل؟
ومضي في اتجاه المسجد.

مقالات من نفس القسم

علي الدكروري
تراب الحكايات
موقع الكتابة

المارد

amr al batta
تراب الحكايات
موقع الكتابة

الهانم