الزمّار

الزمّار
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

 رانيا مغاوري 

فرغ لتوه من وصلة خطابية طويلة بح فيها صوته الجهوري بعد أن رج أرجاء المكان. صفق الحاضرون بشدة خاصة منظم الحدث الذي دعاه لإلقاء الخطبة العصماء. ابتسم الخطيب في زهو ونشوة انتصار وهو يتصفح وجوه جمهوره السعيد..كان يقلب في وجوههم وعلى وجهه ابتسامة تقول:"يالكم من أغبياء منافقين". أسرع خارجا من القاعة بخطى ثابتة صانعا لنفسه أهمية يحرص على أن يستشعرها الآخرون. مر سريعا أمام مرآة ورأى وجهه المتورد وكرشه المستدير فابتسم في ثقة وأشاح بوجهه وأكمل سيره..كان يعلم تماما كم هو زائف.

توجه إلى مائدة الطعام الحافلة بما لذ وطاب, كم يعشق الطعام!  أسرع يملأ طبقه بكافة الأصناف كأن المائدة على وشك الإقلاع. اتخذ مقعدا في مكان بارز كعادته كي يرى الناس ويرونه فيحييهم بين الحين والآخر بابتسامة أو إيماءة من رأسه..لم يبذل جهدا في إخفاء الطعام الذي يطل من فمه النهم..كان يدفع الطعام في فمه بطريقة لا تتناسب وأناقة المكان وكونه ضيف الشرف. أخذ يأكل بشهية وكأنما يريد أن يبتلع كلمات الزور التي فرغ من إلقائها على الحاضرين. بعد أن انتهى أشعل سيجارة واخذ ينفث دخانها في كبرياء وهو جالس على المقعد الفاخر يحتسي فنجانا من القهوة واضعا ساقا فوق ساق موجها قعر حذائه في وجه المارين مؤكدا لنفسه أنه رجل عظيم. كيف لا وهو يرتدي ثيابا فاخرة ويحضر الندوات ويتم استدعاؤه لإلقاء الخطب؟ كيف لا وقد نجح في خداع الجميع حتى نفسه؟!!

ظل طوال عمره أسير الحرمان..عاش حياته فقير النفس حاقدا يتطلع إلى ما في يد غيره ويتمناه..لم يتميز في شيء ولم يبرع في شيء ولم يتعلم شيئا.. كان يكفيه أنه حي يرزق ..من أين يرزق؟ لا يهم..طالما لديه قوت يومه وراحة باله..يغط في نوم عميق ويستيقظ ليتلقى يوما يشبه الأيام السابقة لا يأخذه إلى جديد..غير أنه لم يرتح يوما ولم يهدأ له بال..كان يعلم كم هو فاشل ولا يصلح لشيء ولم يبذل جهدا ليفلح..كان ينفق ويستدين ليصبح مثل فلان وعلان..بنى قصورا من الوهم وظن أنه يعلو بالرغم من أنه ثابت في مكانه منذ سنين..

كان يسير مع القطيع يهز رأسه موافقا ويصفق للفائز مع أولاد حارتنا..لم يكن يملك غير ذلك فبداخله خواء..أصبح "معزوما" رئيسيا في كل الاحتفالات يأكل على كل الموائد..تعلم كيف يقول ما يريدون سماعه ويزيد عليه من مبالغاته..ما أن يسمع عن مناسبة حتى تراه وقد ارتدى حلته البهية وتصدر صفوف المدعوين ليحظى بالحظ الأوفر من الصور..وإذا جاءت الفرصة للحديث عن نفسه فلك ان تحصى مرات استخدام "أنا" في جمله فهو يعشق أن يحمد بما لم يفعل.

ظل معزوما يفرض نفسه على المناسبات حتى اكتشف نفسه وامسك بالمزمار..وكانت نقطة التحول..فقد خبر عشق الناس للطبل والزمر والتهليل..أتقن النفخ في المزمار وفي النفوس الضعيفة فازدادت تضخما.. برع في تشويه كل ما هو جميل وإخفاء كل ما هو عذب وراء جلبته..وفي ساحة الزمر اختفى الأوفياء والأصفياء والأنقياء وبرز هو..عشق رنين العملات وهي تتساقط في قبعته المهترئة..وأسكرته كلمات المديح الزائفة فأخذته الجلالة وزاد من صخبه وغنى بصوته القبيح.. وصفق المنافقون والسذج.

لم يملك يوما صوتا عذبا ولا لحنا..كل ما امتلكه كان مزمارا ينفخ فيه لمن يدفع اكثر!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتبة مصرية

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون