الزعيم “حظه كده.. وبخته كده”

نجيب الريحاني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

تغلق الدنيا أبوابها أمام أصحاب الأفكار والمواهب، ثم تلقي بهم فريسة سائغة لمن يفترس أرواحهم بلا رحمة ولا شفقة، أملاً في سقوطهم بلا رجعة. في هذا الموقف المدمر لنفسية الشخص المبتلى لن يكون أمامه إلا خياران لا ثالث لهما، وكلاهما شديد المرارة، ومدمراً أكثر لأي فرد. فالخيار الأول، هو الاستسلام للأمر الواقع وعدم المحاولة مرة أخرى؛ حتى لا يمنى مرة أخرى بمرارة الهزيمة، وإن كان ذلك يعني النظر دوماً للماضي بحسرة بالغة، تجعل الروح تنتحب، وتشهق بالبكاء والعويل بصوت يعلو على بكاء الأجساد. وأما الخيار الثاني، فهو المحاولة مرة أخرى، والمثابرة في تكرار المحاولات، على أمل أن يصير النصر حليفاً في يوم من الأيام لقاء مجهودات لا تكل ولا تمل، ولربما يمنى الفرد نفسه بالفوز بضربة حظ تجعله يتخلص بسرعة من حياته المذرية، عندما يتبدل فشله إلى نجاح. لكن أيضاً هذا الخيار شديد الصعوبة؛ لأن الفرد لا يزال يكتنز في ذاكرته المرات اللا نهائية من الفشل الذي يمنى به، ويقصم ظهره كلما حاول النهوض. فحتى مع التفاؤل والتوكيد على العزم والمثابرة، يعلو هناك صوتاً بروحه يذكره دوماً أن الفشل ينتظره في أقرب مدى.

فإذا أحسست بمدى مرارة هذه الكلمات التي تحفز ابتسامة مُرة أن تند من بين شفتيك؛ لأنك لا تعلم ما هو الحل إذاً للخروج من هذه الدائرة الضيقة المغلقة، فإنك بذلك تكون قد لامست ما شعر به الفنان الراحل “نجيب الريحاني” الذي استحق عن جدارة، وبدون أن يرى ولو لمرة واحدة ضربة حظ ، أن يلقب ب “زعيم المسرح الفكاهي”. نجيب الريحاني الفنان الذي كان نصيبه الفشل الدائم سواء في حياته الشخصية أو الفنية، انتهى به المطاف أن يكون صاحب أكبر وأفخم جنازة في تاريخ مصر المعاصر – ولربما على مر عصور طويلة آتية – حيث شيعها أكثر من خمسة ملايين فرد سواء أكان مصري أو أجنبي، من كل الأطياف والشخصيات والمناصب، وأمر الملك فاروق بتصويرها سينمائياً في فيلم مدته 18 دقيقة، ليكون من مقتنيات قصر عابدين؛ من أجل أن يتم عرضه على ملوك أوروبا. والشئ المحزن الذي يجعلنا نضحك لهول الموقف – تماماً مثلما يحدث في روايات نجيب الريحاني – أن نجيب الريحاني نفسه قد توفى على إثر إصابته بمرض التيفويد الذي لم يكن له دواء فعال في عصره، والسبب الرئيسي في التعجيل بوفاته إهمال من التمريض؛ حيث أعطته الممرضة المسئولة عنه جرعة دواء مضاعفة أدت لإزهاق روحه في الحال.

وفيما يبدو أن ذلك هو قدر نجيب الريحاني، أو كما كان يردد في أفلامه ومسرحياته “أنا كده، حظي كده.” فلقد ولد الفنان نجيب الريحاني ، أو نجيب إلياس ريحانة (1889-1949) لأبوين مصريين أقباط في حي باب الشعرية بالقاهرة، والتحق بمدرسة الفرير الفرنسية، حيث كان يحرص والده الميسور مادياً على تلقيه هو وأخوته تعليم راقي. ولقد كان نجيب الريحاني تلميذ هادئ الطباع، يذهب المدرسة صباحاً، ليعود بعد الظهر فيدخل حجرته ويغلق بابها عليه. وكانت تسليته الوحيدة هي قراءة الأدب الفرنسي والعربي، وإلقاء الشعر، وإن كان ذلك يتم بصوت جهوري. لكن يوماً، اكتشف موهبته التمثيلية أستاذ اللغة العربية، الذي سارع على الفور على ضمه لفريق التمثيل ليحظى بدرور ثانوي. لكن كانت موهبة نجيب الريحاني الفذة تفرض نفسها يوماً تلو الآخر، لدرجة أنه أصبح رائد فريق التمثيل.

وبعد موت والده، اضطر نجيب الريحاني وأخوته لترك الدراسة؛ للعمل حتى يعيلوا أنفسهم ووالدتهم. فاضطر نجيب الريحاني أن يعمل بالبنك الزراعي كموظف بسيط، لكن كان عشق فن التمثيل لا يزال يسيطر على كل كيانه. وفي البنك الزراعي، تعرف الريحاني على مخرج شاب يسمى عزيز عيد، الذي كان حبه للإخراج لا يمنعه عن ممارسة التمثيل. وبالتأكيد، نشأت بين الريحاني وعزيز عيد صداقة وطيدة جعلت حب التمثيل يتأصل في كيان الريحاني. ومن خلال عمله وصداقته مع عزيز عيد، تعلم نجيب الريحاني فن الإخراج، وإتقان الكتابة المسرحية، واستحضار الفكاهة، وكيفية اقتباس النصوص الأجنبية. وأهم من كل هذا، تعلم فنون التمثيل الاحترافي على خشبة المسرح. بل وأيضاً، أتيح لنجيب الريحاني فرصة التمثيل في أدوار ثانوية أمام كبار الممثلين العالمين على خشبة مسرح دار الأوبرا المصرية، من أمثال سارة برنارد.

لكن فيما يبدو أن الحظ ليس بالحليف المثالي لنجيب الريحاني الذي كتب عليه القدر أن يشق طريقه بكل صعوبة. فلقد تم طرده من عمله في البنك الزراعي ليجد نفسه بلا راتب يستطيع أن يرتكن عليه. وعندما عمل في شركة السكر بنجع حمادي، لم يلبث أن تم طرده بعد عدة شهور أثبت فيها كفاءته. أضف إلى هذا، دب الخلاف بينه وبين عزيز عيد، فوجد نفسه بلا عمل ولا يستطيع حتى أن يجد قوت يومه. ومن ثم دفعه حبه للتمثيل أن ينتسب لفرقة مسرحية بدائية تجول القرى، وهناك كان يقوم بكل شئ؛ من ترجمة روايات، واقتباس، وإخراج، وتنفيذ. ولقاء هذا العمل المرهق كان أجره مجرد “لبن وبيض”. وبعد هذه الرحلة الشاقة التي استمرت لعدة شهور بحياة وضيعة كان بها يفترش الأرض لينام، أتته أمه بخبر إمكانية مواصلة حياته الكريمة بالرجوع للعمل بشركة السكر، فوافق على الفور بعد أن صار منهكاً. واستمر هناك لمدة ستة أشهر لا يفكر في فن التمثيل ولا إلى الرجوع إليه، إلى أن أغواه عرضاً من فرقة جورج أبيض. فترك عمله، وانتسب لفرقة جورج أبيض، لكن لم يستمر عمله هناك فترة طويلة.

أخذ نجيب الريحاني ينتقل من عمل تمثيلي لآخر، وطوال الوقت كان مستقلاً بذاته كممثل، وكون في ذاته مؤسسة تمثيلية، وكان يسجل النجاح أينما ذهب، إلى أن يبتليه القدر فيأخذ كل شئ أنجزه مرة واحدة. ففي يوم يجد نجيب الريحاني نفسه ممثلاً كوميدياً يشار إليه بالبنان، وتكتب أخباره في أكبر جريدة رسمية بمصر بجانب أخبار الأمراء وكبار رجال الدولة، ويمتلك أموالاً طائلة تقدر بالآلاف، ثم ينقلب حاله ليجد نفسه مفلساً تماماً، دون عمل أو مأوى.

لكن لم يعني أن تلك الأزمات كانت لا تصيغ شخصية “زعيم المسرح الفكاهي”، حيث كانت كل أزمة وما يتبعها من مرارة فائقة تجعله يطور شكل الفكاهة في مصر، فجعله ينتقل من لون هزلي Farce خالي من المحتوى الجاد وقائم على الاستعراضات والنكات، إلى دراما حقيقية تقوم على كوميديا سوداء تنقد المجتمع نقداً لاذعاً، فتبكي عيون البشر بينما تنتفض أجسادهم بشدة من القهقهة. فلقد كانت أعمال نجيب الريحاني في مرحلة نضجه الفني عبارة عن ميلودراما راقية مغلفة بغطاء من الضحك، مما جعل الجمهور يقبل على مسرحه، ويشاهد مسرحياته لعدة مرات دون أي ملل. أضف لذلك، كان نجيب الريحاني أول ممثل يطلبه الملك دوماً ليمثل أمامه وأمام الأمراء في القصر الملكي.

حياة نجيب الريحاني كلها مفارقة مضحة محزنة في نفس الوقت، تجسد سخرية القدر؛ فكلما كان يطمح للخير والرخاء، يجد الفشل. وأما عندما كان يحاول النهوض على قدميه، كانت تزجره الدنيا بكل شدة. لكن في كل كبوة ومحاولة، كان يتشامخ طولاً وقامة، فيضحك بسخرية على قسمته، ويعجب لما يؤول إليه حاله. حياة نجيب الريحاني، وحتى موته، سلسلة من الفشل المتوالي وغدر الزمان التي حرمته من الاستمتاع بنعيم المجد، والمال، والبقاء في زواج من يعشق. ويتفاقم كم سخرية القدر بمشوار حياته، عندما تكون السينما التي يكرهها وقام فيها بالتمثيل على مضض عدد “عشرة أفلام فقط” — إما لمسايرة الموجة وإثبات نفسه ممثل سينمائي قدير كما هو حاله في المسرح، أو لأسباب مالية بحتة عندما كان في حاجة للنقود — هي من خلدت اسمه، ولم يخلد اسمه المسرح عشقه الأوحد لأن مسرحياته الغزيرة لم تكن بالتأكيد مسجلة. ويكفي القول أن جميع مسرحيات نجيب الريحاني قد أعيد تقديمها سواء على خشبة المسرح مرة أخرى، أو على الشاشة الفضية من قبل نجوم مثل اسماعيل ياسين، وفؤاد المهندس، وفنانين شوام لتلاقي نجاجاً كبيراً وتصنع منهم نجوماً لامعة، دون أن يشير أحدهم أن صاحب هذه الأعمال الذي صاغها في هذا الشكل هو نجيب الريحاني. لقد أخذ القدر من نجيب الريحاني كل شئ، لكنه أيضاً أعطاه كل شئ في معادلة غريبة صنعت منه زعيماً لن يتكرر، وفناناً موهوباً لا يشق عليه غبار بكل المقاييس.

مقالات من نفس القسم