مؤمن سمير
يتميز مسعود شومان عن أفراد جيله من الشعراء الذين ارتبطت تجاربهم بما يسمى ” بقصيدة نثر العامية ” ، تلك الكتابة التي تبدت إرهاصاتها عند الرائديْن فؤاد حداد وصلاح جاهين ثم صياغتها النظرية والإبداعية عند الراحل مجدي الجابري ، بعدة خصائص منها اتساع دائرة تجربته وحراكها الدائم وطرقها للعديد من مسارب الخريطة الإنسانية عامة ، كذلك تقديمها للأسئلة الكبرى بنفس قدر محاولتها اقتفاء الشعرية المخبأة في كل الكائنات من جماد وحيوان ونبات .. الخ كما أن تجربته كباحث في الفلكلور يتضح صداها في اندغام القصيدة بالروح المصرية الثرية . إنه يقدم أجزاء في قصائده موقعة دون أن يعتبر ذلك انحرافاً في آليات إنتاج النثرية لأنه يصدر عن مفهوم أكثر اتساعاً للشعر ، مفهوم متجاوز يمتص كل ما حوله ثم يعيد إنتاجه مُشَعّراً ، دون أن أي تأطير يضيق أفق التجربة .
وفي ديوانه الخامس ” قبل ما يردمو البحيرة ،2004″ الصادر عن مطبعة الأمل ، يواصل حلقات مشروعه التي تتواصل عبر مظاهر موضوعية أو شكلية .. فتأتي آخر قصيدة في كل ديوان ، مثلاً ، وهي تحمل مفتاحاً يفضي لتجربة الديوان التالي ، كما أنه يبرز (أو يضمر) شفرة أو علامة كبيرة في كل تجربة يمكن عن طريق التعلق بها الانسراب إلى عالم النصوص .
وفي هذا الديوان يبدأ الشاعر بتصدير جملة دالة هي ” ما قصدتش اجرح الجبل اللي نايم بعيد ” بعد اسميْ الإهداء ، وكأنما يود لنا أن ندخل الديوان من تلك العتبة بالذات ، أو لنقل يصنع معنا مدخلاً آخر بعد عتبة العنوان . هذه الجملة يظهر فيها الجبل كدال أساسي ، بعيد ، يتفاعل معه البطل بأن يجرحه دون قصد بدلاً من أن يتلقى هو الفعل منه ، أي أنه يعكس مصادر القوة فيغدو الإنسان فاعلاً والجبل متلقياً ،وهذا بالطبع إذا كان دال الجبل أحادياً وليس رمزاً للهموم أو الذكريات المتراكمة .. الخ ، مثلاً ، لكننا بعد ذلك نكتشف أن هذه الجملة جزءاً من قصيدة ” كهف مهجور” التي يبدأها بنفي تحقق المقصود ” مش كهف مهجور اللي رجلي راحت له ، ما قصدتش اجرح الجبل اللي نايم بعيد .. ” إنه يفاجأ بأن هروبه ، المتخيل ، للمكان المجازي ، لا يتم وفق السيناريو المُعد سلفاً في ذهنه ” كان نفسي أركن ضهري ع الصخرة .. ” فتختلف نظرتنا لتلك العلاقة بين البطل والجبل حيث اللعبة كلها غير مقصودة لذاتها وإنما تتحرك في دائرة التمني الذي لم يتحقق حتى على مستوى المتخيل ، فتقل بالتالي فاعلية البطل في جرح الجبل أو بالأحرى جرح سكونه واستقراره في رمزيته المهيبة ، تلك الفاعلية التي وصلتنا من الإهداء .
إن الجبل هنا يختصر في مجرد كهف للذات تنكفئ فيه أو حتى تهرب منه في تبادلية تتراوح بين الانسحاب والجموح الذي يُضمر تفتتاً للذات فينقلب انكفاءً ، يقوم بالتخييل ليصير حراً .. ثم تأتي بعد ذلك قصيدة ” رضيت بالجبل اللي ابتدت تطوله العتة أو الشاعر/ الكتابة ” فيكون الإنسان وهو يلبس حال” الشاعر” ، هو من يرضى بقدرية علاقته بالكتابة ، ذلك الفعل الذي كان يشبه الجبل في عليائه ثم أضحى شموخاً ينهار من داخله .. تبدأ القصيدة بجملة ” عن دودة فضلت طول عمرها القصير تعمل قز” ثم بعد عدة جمل تحمل عدة أفعال تقوم بها تلك الدودة يكمل” رضيت بالجبل اللي ابتدت تطوله العتة ويحاصره جيش البق ” لتتحدد العلاقة الثنائية غير المتكافئة بين الدودة وجبل الخيوط ، الذي كلما ينهار تصبح تلك العلاقة متكافئة ، حيث من يقوم بالفعل هو الدودة التي ” بتلم التراب والقش ” أو كل أوهام اصطفاء فعل الكتابة واضطلاعها بدور راسم الأحلام والموصل للأمنيات على أي مستوى ، لكن العلاقة رغم كل هذا بينهما قدرية حتى وإن اتخذت شكل كون الشاعر هو الشاهد على انهيار نبوية تلك القيمة .
بعد هذا يأتي الجبل مرادفاً للوعي ، في قصيدة “الجبل اللي اتملا بالحكمة والأوهام ” فيقول الشاعر “حاسب وانت بتطل ع الجثث ، هنا الجبل اللي ملاه بالحكمة والأوهام ” لأنه ” مش قادر يفهم معنى دبيب النمل وحفيف الورق .. ” إن جبل وعي البطل الذي تراكم من المراقبة العيانية للعالم أو مقاربته عبر فعل الكتابة سيتضح في لحظات الانكشاف ، النضج أو الشيخوخة أو الصمت الايجابي المتأمل ، أنه لا يصلح لأن يكون المرفأ الذي يتكأ عليه ، بل هو جبل هش قابل للسقوط قطعة قطعة بإزاء العالم الذي هو أكبر من أي يقين و أي امتلاء ” .. رمل بيسقط ببطء ..” .
ثم ترتبط الخيانة بالجبل في قصيدة ” جبل تلج عالي” وهي الجملة التي يقرر البطل أنه ” قعد يرددها ” بينما يتذكر ” مش ده اللي باقي من صوتها” ثم يستدعي ” منديلها الورق” مثلاً . إنه بطل ذو مسرح ضيق ومغلق عليه وحده بعد الحبيبة التي غابت لكنها تركت ذكرياتها معه لتربطه بها رغم الغياب ، فيلعب هو لعبة مراكمة اللحظات الرائعة ليصل بها إلى أن تصير جبلاً يعلم أنه سينكشف بمجرد الاكتمال ، مجرد ” جبل تلج” قابل لأن يسيح إذا طلعت عليه شمس الكشف والحقيقة ! إنه يلعب لعبة يستعذبها وتزينها له وحدته ، لتشاركه فيها ، فتعود الحياة / الروح التي اختفت ، ولو على سبيل الوهم .
ويتزيا الجبل بالزي الأبدي للزمن في قصيدة “حجر تقيل اسود ” هذا الزي الذي مهما ارتداه الإنسان لابد سيخلعه أو بمعنى أدق سيتهدل عليه قبل أن يسقط منه وتستلمه الأرض .. ” كل ما ينزل م الجبل يتكتل عليه النمل ويشيله ” . تكون البداية عند النزول من الجبل / الرحم ثم تبدأ رحلة الحياة ” ويبدأ الغُنا وتكتر الحواديت ..” لكنه يصطدم بالأشباه ” قد إيه ماتوا ، وهما طالعين” فيرتبط فيرتبط فعل النزول من الجبل بالحياة والصعود إليه بالموت وانتهاء الرحلة ، وهكذا يثبُتْ الجبل في أبديته بينما يتحرك عليها البشر صعوداً وهبوطاً ، والنمل هو الوسيط ” النمل يقدر ع اللي ماقدرتش عليه ” ذلك الكائن الذي يبدو مشوشاً وهو الثابت الحقيقي الذي يكافئ ثباته ثبات الجبل ذاته ، ثابت في دوره وفي تأكيده الدائم على عجز الإنسان “وكل ما بيبيض شعرك ، يسوّد جواك ، ويدوب الحجر ويبقى خفيف على النمل” فكلما تآكل عمر الإنسان لوّح النمل منتظراً ومتأهباً .
واتساقاً مع كل ما سبق لا يكون اختيار عنوان “الجبل” للقصيدة الأخيرة مصادفة إنما هو اكتمال الدائرة التي بدأت بالجبل وانتهت به وبينهما كان البطل يجرب الحياة والحب والخطأ والموت ، فكان الجبل معادلاً للمتخيل ثم لفعل الكتابة ثم للوعي ثم للخيانة ثم للزمن ذاته . تقول القصيدة ” كان فيه جبل ” إنه يحن إلى جبله الخاص الذي ” تحته حبة خضرة ” كانت تسقي الطفولة والبراءة والأحلام وتتقاطع مع الاغتراب والحرب ” كانوا بيسيبوا طابور تراب بيلف بالبيادات ” أي أنه يحن للحياة ذاتها . إن الذي مضى حتى وإن امتلأ بكل ما يجثم على الروح ، يظل نابضاً تحت الجلد، كما الغياب لا ينسى أن يرمي بالحنين ، ذلك الذي لا تنمحي علاماته ….
وبهذا فإن دال الجبل في هذا الديوان يكتسب قيمة مركزية تصلح لأن تدور حولها وتتشابك معها الشعرية، وإذا رصدنا تجليات مفردة الجبل ، من أحجار وكهوف وحصى ورمال وطرق ….. الخ ستتأكد تلك المركزية وتثبت في مكانها ، القلب ، قلب النص وقلب الإنسان ، ذلك الذي يصعد ويهبط الجبل منذ الأزل ..
……………………..
* فصل من كتاب ” الأصابع البيضاء للجحيم : قراءات في محبة الشِعر”– دار “ابن رشد” 2019