الرواية الرقمية الجديدة.. الكلمة والصوت والصورة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 23
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.مصطفى عطية جمعة

 وفيها يتخذ المبدع - الذين يمكن وصفهم بالمبدع المصمّم - من بيئة الحاسوب والإنترنت مجالا للتصميم والتشكيل، فأصبح القرّاء أمام أشكال لا عهد لهم بها من قبل، أشكال تتماشى مع طبيعة التقنية الجديدة، ولا يمكن قراءتها إلا من خلال الحاسوب ، وهي أشكال سردية ؛ لأنَّها اعتمدت في نسيج تصميمها على عناصر السرد القصصي، وعلى رأسها الكلمة، لكنها لم تكتفِ بها بل أضافت إليها عناصر ومؤثرات أخرى تناسب وسيطها الجديد، من هذه النماذج التي تُعدُّ من البواكير الأولى للإبداع العربي في صورته الرقمية. 

إذن الرواية الرقمية تتمايز عن الأشكال السردية الأخرى ، فهي أولا غير ورقية وإنما تقرأ على الحاسوب ، من خلال تحميلها مباشرة ، أداتها التعبيرية الكلمة ، والصورة ، والصوت ، والمؤثرات الحاسوبية البصرية والسمعية ، أي أنها مبنية على المنجز التقليدي للرواية ممثلا في السرد بالكلمات ، ثم ما يتيحه الحاسوب من إمكانات تقنية ، يوظفها المبدع في نصه . لذا ، فهي تحتاج إلى طراز خاص من المبدعين ، يمتلكون مهارات الحاسوب من ناحية ، والموهبة القصصية من جهة ثانية ، فمعلوم أن الشكل والمضمون وجهان لعملة واحدة ، فالمبدع يفكر في ضوء الأشكال المتيسرة له ، والقادر على استخدامها ، وإلا يصبح تفكيرا نظريا فقط .

    ويشير ” محمد السناجلة ” أبرز مبدعي الرواية الرقمية إلى كونها رواية تقنية بالدرجة الأولى ، فهي مغامرة في الزمن الرقمي الافتراضي وفي المكان الرقمي الافتراضي وفي الواقع الرقمي الافتراضي، وحول اللغة في الرواية الجديدة، يرى السناجلة أيضا أن لغة الرواية التقليدية عاجزة عن الاستجابة لحاجيات نظيرتها الجديدة التي يجب أن تتحدد بسمات خمس: أولا: تجاوز اللغة المكتوبة إلى مكونات أخرى: صورة، صوت، مشهد سينمائي وحركة. ثانيا: على اللغة أن تكون شاهدة على أحداث الرواية في بُعديها المادي والذهني أي تعبر عنها وعن حركتها بشكل واضح؛ ثالثا ورابعا : على اللغة أن تكون سريعة بحيث لا تتجاوز المفردة فيها أربعة إلى خمسة حروف وعدد صفحات الرواية المائة صفحة، والجملة من ثلاث إلى أربع كلمات على الأكثر. خامسا: على الروائي تجاوز مجرد معرفة الكتابة إلى الإلمام بهذا القدر أو ذاك بمجموعة من البرامج الكفيلة بتحقيق النقطة الأولى، ناهيك عن استخدام الحاسوب التي تعد من نافلة القول.

   الملاحظ في تنظير السناجلة أنه واع تماما لدور التقنيات الحاسوبية في بنية الرواية الجمالية ، فنصّ على تقليل الكلمات والأحرف وعدد الصفحات ، لأنه مدرك  أن الصورة والصوت يغنيان عن كثير من المفردات ، التي يراكمها الروائي التقليدي في روايته ، وإن كنت أرى أن المنجز الروائي الرقمي للسناجلة لم يحقق طروحاته النظرية بشكل مبتكر ، فجهاز الحاسوب فيه من الإمكانات التقنية الكثيرة التي تمكّنه من إخراج نصه بشكل مبهر ، ولا بأس من الاستعانة بشخص تقني أو أكثر في الحاسوب، ليكون العمل بروح الفريق الثنائي أو الثلاثي ، فالمهم أن تتحقق الدلالة كاملة . خاصة أن هناك مبدعين في عالم الحاسوب يمكنهم رسم الصور الثابتة والمتحركة ، والإبداع الموسيقي والصوتي ، بعيدا عن استعمال الصور المتداولة ، والموسيقى المألوفة ، وساعتها سيكون النص مبهرا ، لأن الصور أو المرئيات المتحركة ستكون مصممة خصيصا حسب نص الكلمات ، ومعها أيضا الجانب الصوتي، وبالتالي تصبح الكلمات أشبه بالسيناريو ، ومعها ما يصوغ دلالاتها مرئيا وسماعيا . ونؤكد أن هذا يتطلب خبراء ومبتكرين في كل مجال حاسوبي ، ويمكن الاستعانة ببرامج المونتاج في هذا الصدد مع تطوير القدرات الفنية للروائي ذاته ليكون واعيا بأهمية التشكيل البصري والصوتي ، وساعتها ستكون رواية مختلفة نصا وشكلا ومؤثرات .

    جدير بالذكر أن السناجلة راكم عددا من الروايات والأعمال التي تطور فيها فكريا وإبداعيا وتقنيا، كما أن لديه موقعا إلكترونيا ، يتواصل فيه مع قرائه ، ويضع فيه مجمل أعماله ، وأيضا مختلف الدراسات النقدية التي تناولتها .

  وإذا أخذنا مثالا على عمله ، ويجدر بنا في هذا الصدد ، أن نتناول أحد أعماله وهو رواية ” شات ” ، ويأتي اختيارنا لها ، لأنها تعبر بجلاء عن رؤية السناجلة نحو إنسان الغد ، الذي سيكون إنسانا رقميا ، ويستعرض فيها رحلة الإنسان من الرمال والخيام إلى عصر الديجيتال والتفاعل عبر الإنترنت .

   يأتي الفصل الأول معنونا بـ ” العدم الرملي” لنشاهد بصريا صورة لليل شديد الظلمة ، ومع بزوغ الشمس وانتشار أشعتها التي تتهادى على الصحراء الشاسعة في رمالها ، وكثبانها اللانهائية ، إنه مشهد في صحراء سلطنة عمان ، حيث يعمل بطل الرواية في إحدى الشركات متعددة الجنسيات ، وتصور الرواية جدب هذا الواقع وفقره ووحدة الإنسان الفرد أمام جبروت الرمال . ينتقل البطل من وجوده في العالم الواقعي إلى كينونة جديدة وهي الإنسان الرقمي العائش في المجتمع الرقمي الحديث ،وتتتابع المشاهد كلوحات مبهرة مع أنغام الموسيقى، برسالة جلية مفادها أن العالم الافتراضي هو الذي سيشكل مستقبل البشرية ، عندما يكون الحاسوب بكافة تقنياته هو المتحكم في حياتنا القادمة ، في رؤية تميل إلى المستقبلية في الأدب .

   ولكننا  نختلف معه بلاشك ، لأن الإنسان الحديث والمعاصر يشعر بالاغتراب الشديد ، أمام هجمة المدنية والعصرنة والآلية ، وهو محبوس في بنايات شاهقة ، وشقة ضيقة ، حياته العملية آلية ، ويومه يبدأ في الصباح الباكر، حين يغدو إلى عمله ، ويعود منهكا في نهاية اليوم ، فيخلد إلى النوم . يعاني من تمزق العلاقات الاجتماعية ، وسيادة المادية ، وتفكك العائلات الكبيرة ، ومعاناة الأسر الصغيرة ، وهذا لم يكن موجودا في حياة الصحراء ، التي كان الإنسان فيها سيدا لنفسه ، سعيدا بالانتماء القبلي ، حرا في توجهاته ، يشعر أنه يعايش الطبيعة وتعايشه ، بهواء نقي، وطعام صحي وإن كان بسيطا ، ونفس الأمر مع الإنسان العائش في الريف أو الجبال أو حتى الغابات ، فمن العبث أن يسقط الروائي في ثنائية متضادة بين الصحراء والرقمية ، وكأن الإنسان في تاريخه على الأرض ، عاش البداوة ثم الحضارة الحديثة فالعصر الرقمي ، وهذا لم يحدث من قبل ، فكم من الحضارات التي تتابعت على الإنسان ، وجلبت له السعادة ، وهذا لا يمنع من وجود تعساء وفقراء ومنكوبين ولكن أن نتخيل أن المستقبل السعيد لإنسان رقمي هو رؤية قاصرة.

    وإذا ، نظرنا إلى باقي أحداث الرواية ، نجد أن بعد العدم الرملي ونغمات ” إس إم إس ” ، تنقلنا الأحداث في فصل بعنوان ” التحولات 1″  إلى بلدة عمانية اسمها صور، حيث نلج مع البطل “نزار ” إلى مقهى إنترنت في شارع فرعي شبه مظلم بالقرب من بنك مسقط الوطني . وهنا نجد النقلة المرادة من المؤلف من صحراء جرداء ، إلى عالم الإنترنت ، مما يوجد شعوراً لدى المتلقي أن الصحراء تحمل قيمة سلبية تتمثل في الوحدة والانزواء والضجر، ويحمل المكان الثاني قيمة إيجابية ، مع الأخذ في الحسبان أنه على الضدية في الفكر والإحساس ، خاصة أن البطل يتصل عبر الانترنت بالمرأة التي تؤنس وحدته في حياته الضجرة بفعل الإقامة في الصحراء، يدور حوار بينه وبين صاحب المقهى حول إيميل البطل  على ياهو أم على مكتوب ياهو ، ومن ثم يستفسر منه عن: المعرف، وكلمة المرور ليتمكن من الدخول إلى الماسنجر ، ومحاورة المرأة التي يعشقها .

   إن عنوان الفصل مباشر في دلالته ، كما أننا نجد أنفسنا أمام مستويين للغة أو بالأدق التعبير السردي ، فقد استخدم السارد لغة تقليدية ، أقرب إلى لغة السرد المكتوب لتصوير معالم الشخصية في عزلتها ، ثم انتقل بنا عبر لغة مزيج من الفصحى والعامية في حواره مع المرأة ، وهي عراقية الأصل، تسكن في أمريكا، ونلاحظ أننا بضغطات عديدة على الأيقونات في النص ، نقرأ الشات الدائر بين الاثنين ، وكيف أنهما في حالة من الانسجام الروحي والفكري .

   ربما أراد الكاتب من مزج الفصحى بالعامية أن يعبر عن حقيقة ما يجري من حوارات في عالم الشات ، وما أكثر العاميات به ، ولكننا أمام نص أدبي ، يجدر به تفصيح التعبيرات ، وإغناء المفردات ، والتقليل من العامية ، فهو إبداع أدبي .

    يدخل نزار بعد ذلك إلى موقع «مكتوب» ومنه إلى غرفة «السياسة» لنقرأ ألوانا من الصراعات الفكرية والاتجاهات السياسية ، التي تعصف بين أبناء العروبة، وتتحول بهم إلى مقاتلة وليس مناقشة . سنجد السارد ، ومن خلال بطله ” نزار” ، يدير حوارات عديدة ، مع شخصيات استقدمها خياليا من الواقع ، ونلاحظ بالطبع نوعا من التعسف الخيالي ، فلا يعقل أن تدخل شخصيات من مثل : ابن لادن، وصدام، وجيفارا، وامرأة مسلمة، وأخرى متحررة، ويبدو السارد حيادياً وهو يعرض آراء شخصياته . لقد تلاعب السارد بنا بين في واقعه الافتراضي ، فجعلنا نحاور شخصيات حية وميتة ، مما يفقد الرواية بعضا من إيهامها ، حتى ولو جرت في إطار متخيل ، فلو كان الحوار مع شخصيات تابعة لهذه الاتجاهات يكون أكثر إيهاما ، خاصة أن كل شخصية تقدم فكرها الخاص من خلال مفرداتها الشائعة .

    أما نزار فينفرد ببناء غرفة خاصة للعشاق على غرار غرفة السياسة ، إلا أنه يعود خائباً من مملكة عشقه الرقمية ، فيأخذه الشوق إلى زوجه، وتكشف مراسلاتها الإلكترونية له عن إيمانها بالحب، فيستخدم في نهاية الرواية اللون الزهري المصحوب بموسيقى رومانسية؛ ليظهر عودة الحب الذي غاب عن حياته ، ولندرك في النهاية  أن الحياة الرقمية ظل للواقع الطبيعي ، وتكون الرسالة جلية ، أساسها أن وجود مملكة البطل الحقيقية وهم متخيل . الملاحظ أن الرواية لم تحفل في ختامها بمصائر الشخصيات فظلت الشخصيات معلقة كما ألفيناها في السرد ، وتلك طبيعة شخصيات الفضاء الإلكتروني ، تبدأ وتنتهي على الشات ، لا نعلم الكثير عنها ، فحياتنا معها مجرد حوارات تمتد بعض الوقت : قليلا أو كثيرا ، ثم تنتهي .

    وبالنسبة شخصية نزار فهي تعود بنا إلى واقعه حيث تسلم إشعار بفصله من الشركة، فيقرر بعده شراء مقهى الإنترنت الوحيد في دلالة على عشقه لمملكته المفترضة، فيشهد التصويت على بقائها مملكة للعشاق، أو تحويلها إلى جمهورية، فيخرج كل المصوّتين حتى نزار عبر خيار اللاحق ليحيل المتلقي إلى شاشة سوداء مظلمة لا نعلم من ورائها شيئا ، وتنتهي أحداث الرواية ، بنهاية مفتوحة ، تكرس العالم الافتراضي وتنتصر في ثناياها للعالم الواقعي الذي مهما تناءينا عنه وغرقنا في فضائه الإلكتروني ، فإننا في النهاية نحيا بأجسادنا وذواتنا في العالم الواقعي .

     يلاحظ على إبداع السناجلة أنه مبدع بلاشك ، وقد سعى إلى تنظير تجربته في مقالات ودراسات وكتاب نظري ، وعدد من الروايات الورقية وأيضا الإلكترونية . ولكن تظل مجموعة من الأسئلة ، تتصل بجوهر تجربته ، فالملاحظ أنه يمكن طبع  أعماله الإلكترونية في نسخ ورقية ، مع الاستغناء عن الجانب الصوتي دون تأثير، وتضمين الصور ، أي أن الصوت والصورة مجرد حلى مضافة ، وليست جزءا من بنية العمل السردي ذاته ، بحيث أننا لو أزلناها من النص ، تتأثر دلالته ، وترتبك أحداثه .

     أيضا هناك أخطاء لغوية وإملائية عديدة في كثير من نصوصه ، وهذا عائد لعدم المراجعة اللغوية الدقيقة من قبل عين أخرى ، فالمبدع في النهاية مهموم بالإبداع ، وقد لا ينتبه للسقطات اللغوية ، بجانب سوء كتابة الكلمات وتنسيقها . أيضا  فإن فكره الإبداعي والفلسفي يحتاج إلى المزيد من التعميق ، وقراءة أحوال الإنسان المعاصر وأزماته ، فليس الخلاص في الحياة الرقمية ، ولا في العيش بين الحواسيب والآلات وفي الناطحات ، وإنما السعادة كل مركب ، الجانب المادي جزء منها ، والثورة التقنية قد تكون يسرت على الإنسان الكثير ، ولكنه تظل في إطار كل ما هو مادي ، وتبقى الروح متخبطة .

 

مقالات من نفس القسم