جيهان عبد اللطيف بدر
عرض الفيلم القصير الألمانى “الراكب الأسود” للمخرج بيبى دنكوارت فى افتتاح مهرجان الاسماعيلية عام 2018 حيث أنه فيلماً يستحق عن جدارة أن يعرض فى الافتتاح … وقد عرض الفيلم فى نفس المهرجان فى المسابقة عام 1993 وحصل على الجائزة الكبرى ثم نال بعدها جائزة الأوسكار لأفضل فيلم قصير وما زال الفيلم يحقق عدداً ملحوظاً من المشاهدات.
تدور أحداث الفيلم لمدة عشر دقائق فى مشهد واحد لا يتغير داخل الترام حيث يجلس رجل أسود يجانب امرأة عجوز يبدو على وجهها ملامح القسوة تجلس على مقعد بجانب شاب أسود. وتتحدث بتعصب شديد عن السود المهاجرين إلى ألمانيا وأصبحوا من سكانها الذين ويحملون الجنسية الألمانية وتقول أن السود كسالى ورائحتهم سيئة ويحملون مرض الإيدز وتواصل هذا الانتقاد للسود والتقليل من شأنهم بكلمات جارحة فى حين أن الرجل الأسود بجانبها لا يقوم ابداً بالرد عليها بل على العكس فيبدو كأنه يتجاهلها تماماً أو لا يعى ما تقوله السيدة وينشغل بمضغ كيس تسالى ، بينما يستمع ركاب الترام لحديث السيدة العنصرية ولا ينطقون أو يعلقون بكلمة رفض أو تأييد للسيدة … وقد يتسائل المشاهد هل الصمت يعنى الرضا عن موقف السيدة أم عن عدم المبالاة لكلامها .
عندما يحين مرور مفتش تذاكر الترام تحدث المفاجأة الكوميدية والتى تعبر عن قوة موقف الرجل الأسود حيث يقوم الرجل فى لمح البصر بخطف التذكرة من يد السيدة العجوز قبل أن يقترب منها المفتش ويمضغها في فمه ثم يبتلعها فيبدو على السيدة ملامح الدهشة والقلق ، وعندما يسألها مفتش الترام عن تذكرتها ، تقول إن الرجل أكلها. ولكن الرجل الأسود ينظر للمفتش بهدؤ وابتسامة تدل على تخريف السيدة العجوز ويقوم بإعطاءه تذكرته . وتصرخ السيدة العجوز فى الركاب لينطقوا بما شاهدوه ولكن لا أحد يرد أو يشهد معها وتنزل من الترام فى صحبة المفتش… وهنا تأتى الإجابة إن صمت الركاب لم يكن عن قناعة أو رضا عما كانت تقوله السيدة للرجل الأسود ولكن عن رفض للموقف كله.
ما يلفت النظر فى هذا الفيلم القصير تصرفات الرجل الأسود غير المتوقعة. حيث أنه لم يجادل المرأة العجوز أو يرد عليها بعصبية ولكنه تجاهلها تماما حتى رد عليها بالضربة القاضية وأكل تذكرتها ،وتبين أنها الطريقة المثالية للتخلص منها. إن هذا الرجل يعلمنا درس فى الصبر على أخذ الحقوق حتى ولو كانت بأبسط الطرق..كما يلفت النظر موقف الركاب الصامت …فللأسف ظلت العنصرية بمختلف أشكالها تتوغل فى أوربا وأمريكا وسط صمت الكثيرين الذين كانوا ولا يزالون ضد العنصرية . فلم تظهر العنصرية فقط بسبب اختلاف لون البشرة ولكن بسبب هجرة الكثيرين إلى تلك الدول مما أعطى الاحساس للسكان الأصليين أن الدخلاء يشاركونهم فى أرضهم وأمواهم أى يقتنصون منهم حقوقهم الشرعية . ولكن بدأت تتغير تلك النظرة الآن إلى حد بعيد بسبب انصهار الأجناس المختلفة فى دولة واحدة … وهذا ما جعل ركاب الترام يسكتون ولا يقفون بجانب السيدة العجوز لعل يأتى يوم مثل يومنا هذا بعد مرور أكثر من عشرون عاما ينطق فيه الكثيرين بصوت عالى ضد جميع أشكال العنصرية دون خوف أو لا مبالاة.
إن روعة هذا الفيلم واستحقاقه نيل جائزة الأوسكار ليس فقط فى فكرته ولكن فى أن المخرج استطاع خلال عشر دقائق فقط فى مشهد واحد من خلال تصوير أبيض وأسود أن يعبر عن الفكر العنصرى وضرورة التصدى له بمنتهى الهدؤ حتى لا تضيع الحقوق وسط الصراخ والعصبية … كما أن آداء الممثلين ساعد على نجاح الفيلم حيث بدا على ملامح السيدة العجوز القسوة وكانت تعيش فى الكلمات التى تنطقها وكأنها على يقين وإيمان تام بكل ما تقوله .. أما الممثل الزنجى فقد نجح فى التعبير عن عدم رضائه عمّا تقوله السيدة بالرغم من عدم العصبية أو حتى النظر إليها مما جعلنا فى حالة اشتياق وتأهب لرد فعل الرجل الذى جاء خارج توقعاتنا. والأهم هو أن أحداث الفيلم تدور داخل ترام وكأنه رمز لمجتمع بكافة أشكاله يسير للأمام وعندما تظهر السيدة رمز العنصرية ينتهى بها الموقف لاستياقها خارج الترام مطرودة منه وتستمر مسيرة المجتمع للأمام بلا عنصرية .
إنه فيلم جدير بالمشاهدة عشرات المرات دون ملل .