الراحل شاكر عبد الحميد.. لا وداع لمن نادي بالنهوض

حسين عبد الرحيم وشاكر عبد الحميد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

مفكر الغربة والغرابة والتغريب..

دكتور شاكر عبد الحميد..

هل أماتته العزلة الإختيارية.؟!

أظن أن الحدث الجلل يفرض الكثير من التأويلات فيما يخص هذا الكيان الفريد في تكويناته وطروحاته وعلاقته بالكثير من الأفكار والرؤى والمعرفة والإبداع، وليس آخرهما علما نفس الاجتماع  والأدب وجمالياتهما بسبر أغوار خطاب معرفي ناهض وفريد للمعلم والاستاذ المحنك الرفيع والبسيط المتواضع في آن.

رحل ولم يرحل العالم الجليل شاكر عبد الحميد الذي كنت اليوم على موعد مع الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد للسؤال عنه سوياً، لنكون قريبين من عزلته التي اختارها منذ أن حط الفيروس الملعون “كوفيد 19″على أرض  البشرية ليزيد من رؤى الباحث عن ما وراء تلك المتاهة التي ساهمت في طرح  أبعاد اخرى للوحدة والغربة والاغتراب والغرابة، وهي تلك المصطلحات العلمية والفلسفية التي سنها، وكان دائما ما ينصهر بأطيافها ونتاجاتها وتنصهر به.

عالم جليل الذي قدم للمكتبة العربية أكثر من أربعين عنوانا  في مسارات الفكر والفلسفة والفن ولغات الصورة والبصيرة والبصر منها: الفنون البصرية وعبقرية الإدراك.. الدخان واللهب، الخيال من الكهف إلى الوااقع الإجتماعي، الفكاهة وآليات النقد الاجتماعي، الفن والغرابة، الحلم والرمز والأسطورة، الفكاهة والضحك، الأدب والجنون، الآثار السيئة للمخدرات من الناحية العلمية، التفضيل الجمالي، السهم والشهاب.

شاكر عبد الحميد

في لقاء فريد في مكتب رئيس مجلس إدارة جريدة  الدستور دكتور محمد الباز استقبلته بالورد في يوم الحب وكم كان صديقي محمد الباز فرحا بحضوره وقبل أن نعقد  معه  لقاءً خاص نشر على صفحتين بالجورنال وبدعوة لاقت قبولا من ناحيته، كانت هناك الدلالات التي تؤكد الفارق بين داخل المفكر شاكر عبد الحميد وخارجه. ما باح به ولم يبح، قال في ذلك اليوم: أنا أستاذي دكتور مصطفى سويف وليس غيره، ولم أقدم في فترتي القصيرة في وزارة الثقافة إلا ما يمليه علي  ضميري ورؤيتي ويضيف لبنية الثقافة والمثقفين الحقيقيين وليس تجار الشعارات.

وأضاف: بل إنني لم يمهلني الظرف ولا ال 150 يوما من فعل ما كنت أريد تحقيقه..، عن فترة تولية لحقيبة الثقافة لمدة خمسة أشهر في وزارة دكتور “كمال الجنزوري” عقب الثورة والتي قدم فيها الكثير من عتبات تخص المناداة الحتمية بتجديد الخطاب الديني وتوزيع وتثوير الثقافة الرفيعة والطليعية والحداثية ووصولها لكل بيت وقرية وزقاق لتتواءم مع الافكار العميقة التي تخص المنتظر من الثورة، شارحة أبعادها، تستوعب كل الخارج عن المعقول يريد ركوب الثورة بالباطل وخطابات الغوغاء والمتسلقين والمدعين. ومن قبل وبعد كان لقاء آخر ظهرت فيه أسنة الرماح بعنفوان من قبل خروجه الوحيد عن هدوئه وصمته ورقيه الذي عرف به ومن خلاله كعابد وناسك في محراب العلم والأفكار، وذلك يوم أن تعالى صوته في ندوة عن الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر ليصرخ بجنبات حزب التجمع وبقاعة خالد محي الدين، انتفض في برية الوحشة خارجا عن النص: ” الناس ماشية في الشوارع تكلم نفسها..؟!!”.

يومها خشيت أن أكلمه أو أراجعه. وكيف يراجع طالب العلم أستاذه، والمريد مولاه، الزاهد والمصيب والمؤكد لمسارات الحق والنزاهة والتجرد عن أي شبهة في مكاسب رخيصة أو أطماع شخصية تهوي بالسياق العلمي والمعرفي والتنويري المستنير الذي خطه الراحل لنفسه منذ أن عرفته الأوساط العلمية والفكرية الثقافية داخل مصر وفي أنحاء الوطن العربي مساندا ودودا مرحبا محتويا كل أنواع الكتاب والكتابة الموهوبة بحب ومساندة وتخليق رؤيوي جمالي في نسق بل أنساق تخصه، نحت هو مصطلحاتها، لم يهو الزعيق أو التفتيش في النوايا والضمائر والخبايا رغم علمه واطلاعه على الكثير من خبايا كواليس الثقافة والسياسة وأحوال وسلوكيات البشر في غالبية الأوعية المستترة والمنتديات الثقافية والإعلامية، ولكنه كان دائما ما يفضل الاحتفاظ بها لنفسه بعيدا عن التشهير ببروباجندا فارغة.

وزاد صمتي، ولكنني وبعد أن انتهت الندوة همست في اذنه: مالك يا بروفيسور؟ اليوم كنت غاضبا، فقال لي: عذرا إن كنت نسيت دوري وما جئت لأجله ولكنها بعض الغصات التي تعذبني..، عفوا يا صديقي فقد اختلط الخاص بالنقدي والإبداعي.

تفهمت واستوعبتت ما آل إليه الرجل من سوداوية لم تكن يوما تجرؤ على تهديد سكينته أو تصرفه أو تلون خطابه وعلمه وبحثه الدؤوب عن سبب العلة في طغيان الاستبداد وتوالي القهر والعصف بالكتابة والكتاب الجدد ومن قبلهم الفرد / الإنسان العادي والمصري “البسيط ” والذي يستحق حياة أفضل تحديدا فيما يخص عيشه وحريته وبنيته الإنسانية الرحيمة في مأكل وملبس وحلم بسيط بالعيش سالما آمناً.

لن أعزيه. بل أعزي نفسي وكل أجيال الكتابة والفكر والثقافة المصرية والجامعة وأكاديمية الفنون وطلابه في كل مسارات التلقي للأدب والعلم والفكر والمعرفة والفن وكل من رميي ثمة بذور في مسارات شتى في نهر الإبداع كانوا هم شغله الشاغل ونهجه ومنهاجه وطريقه للترقي والسمو والخلود والتي تواصل معهم وساندهم وخذ بأيديهم، المفكر الجميل المتواضع الخلوق الرحيم شاكر عبد الحميد والذي كان حصوله على جائزة الدولة التقديرية بترشيح من جانب إدارة “أتيليه الإسكندرية” وليس من قبل أكاديمية الفنون ولا أية جامعة أخرى، ليبتعد عن أية ثمة شبهة،  في مجاملته، في منحه أقل شيء أستحقه الراحل.

ومنذ خمسة أشهر أو يزيد كانت وقفته مع مصطلح ” الكوررونيالية” الذي نحته شاكر عبد الحميد وطرح فيه رؤيته لساسات العالم وسياساته العالم والمتحكمين في تدوير البشر بين فكي الرحى، نعم هو لم يتحدث عن مؤامرة ما.. بل أفاض في إتجاه المؤشر نحو المزيد من عزلة الفرد وتكميم فمه وحتى أنفه وترهيبه بالرجرجة والتأرجح ما بين صورة الواقع وثانية للإعلام وثالثة لم تكن وهماً، للأشباح والظلال والعدم بآليات ترتسم وتتسم بالرعب وقتل لا تحتاج إلا لصمته مع نفسه وصولا لصرخة وحيدة وأخيرة ليذوب ويتلاشى ويندثر. تسود الروح أو تزهقها في ثنايا صرعة السياسة  ومجمرة الأفكار، لتطويق الإنسان فهل كانت العزلة هي بدايات صهر كينونة الراحل بالجسد.. الباقي بروحه وفكره وضميره وعلمه ودراساته وحضوره العفي الثقيل العميق خفيف الروح والظل.

أظنني أحسست ذلك بشكل شخصي وحدثي وحسي وهو الذي لم يشتك من شيء يوما ما عن حاله أو مكانته التي كان يستحق أضعافها، مما وضع فيه من قيمة ومكانة علمية وتحليلية بخطابات بليغة وأسلوبية رفيعة وفريدة تبغي التحليق والتجلي بكل جميل وفني ونفسي، قامة صنعها بدأب وعصامية وجلد واستغناء.

دكتور شاكر عبد الحميد والمولود مع ثورة يوليو في العام 1952ورحل بالأمس عن عمر ناهز التسعة وستين عاما ترك الكثير من مشاريع أفكار ودراسات  وكتب كانت طي الكتابة منها مخاطبباته الأخيرة مع لوحات التشكيلي الراحل عبد الهاي الجزار بدأها بديالوج وحوار مع لوحة السريالية “المجنون الأخضر” كرمز للجمال والنور والخير والنهوض من الكبوة في محاولة منه لشحذ همم من حوله..

اسع وتجلى، فلو صعدت لاخترقت ولو دنوت لاحترقت. أظن أنها الحياة التي دائما ما تأتي برياح لا تشتهيها سفن الأحبة ولا تفرق بين بخار الطعام وأبخرة نفير سفن الرحيل التي دائما ماترمي بالحسرة والوجع على أغلى البشر.

مقالات من نفس القسم