ما أمتع الكلام، لكن ما أضيعه، وما أصعب الكتابة فيما تحتاج إليه من أدوات، لكن ما أبقاها وأدومها، وما أشد فضلها على العلم كله، إذ بها اكتسب العلم والإنسان سمة من أهم سمات تطورهما، ألا وهي التراكم المعرفي الذي يتيح للاحق أن يضيف لسابق. لكن ما أضيع الكتابة في زمن ما زال ينتشي بحلاوة الكلام ولذة المشافهة، وإن ضاعت فما ضاعت أكثر من ضيعتها عند «أستاذ» يدغدغ بها آذان «مريديه»، كأنه شيخ طريقة أو قصاص من قصاصي الكوفة الذين نهرهم علي بن أبي طالب ذات يوم. المشافهة بعيدة عن العلم كبعد شاطئي المحيط عن بعضهما البعض، أو هي – في أحسن حالاتها – كالمشهيات على مائدة طعام، لا تصلح للتغذية وإن صلحت التغذية بدونها، لكنها – ولشديد أسف – صارت آلية جديدة في عالم عربي تدنت فيه نسبة القراءة بالمستوى نفسه الذي تدنى فيه احترامهم لحقوق الإنسان ولأنفسهم، فصارت أهم آليات الخطاب الديني عند الفريقين المعنيين بحديثنا، أقصد دعاة الفضاء و«علماءه»؛ إذ يتفق الفريقان في ميلهما الشديد للشفاهية، وهي سمة لا تعني فقط أن جهدهم «العلمي» يتم تناقله واكتسابه عن طريق المشافهة، بل إن الشفاهية طريقة في التفكير والأداء تعبر عن مرحلة من مراحل تطور العقل والعلم، ليس في العالم العربي فحسب بل في العالم كله، أي أنها سمة لم تطبع الحضارة الإسلامية في مرحلة من مراحلها فقط، ولكنها طبعت كل الحضارات الإنسانية في مراحل مختلفة من تطورها، لكن الإنسان في كل مكان على وجه الأرض تخلص منها إلا في شرقنا العربي، لا أستثني منه بلدا، فكلنا في الهم شرق. والشفاهية طبيعة ذهنية تعول على الحفظ وعدم الاهتمام بالتوثيق؛ وهي آلية لا تعرف التراكم المعرفي، اللهم إلا في حدود ضيقة يستوعبها العقل البشري، كما أن الجزء الأكبر من المخ البشري مسخر لحفظ المتون التي تكفلت الكتابة والحواسيب بحفظها، وتركت للعقل الإنساني بذل جهده الأكبر في الابتكار وصناعة الأفكار.
إن هذه السمة الغالبة على الفريقين، يكشفها أكثر ما يكشفها، ميلهما معا للمناظرات الكلامية، وهي آلية كلاسيكية جدا في تاريخ المعرفة البشرية، يمكن العثور عليها دون جهد في كثير جدا من كتب التراث العربي وأدبياته، وكثيرا ما كانت ضمن آليات الصراع الآيديولوجي بين الفرق الإسلامية، وكتب علم الكلام مكتظة بمثل هذه المناظرات.
والفريقان وإن اتفقا في ميلهما معا لهذه الآلية، بسبب شفاهية خطابهما العلمي – مع الاعتذار لكلمة علمي – فإن لكل منهما طبيعته الخاصة؛ حيث يميل الفريق الأول (دعاة المدينة) إلى الدعوة لمناظرة الفنانين والسياسيين أحيانا، والإعلاميين أحيانا أخرى، مثلما حدث بين السيد خالد الجندي والممثل عادل إمام، وهي دعوة للمناظرة صنعت صدى كبيرا وقتها.
أما الفريق الثاني، فمهموم بالدرجة الأولى بمناظرة الكتاب والمفكرين المعروفين الذين يشاع عنهم – لأسباب أكثرها غير علمي وغير شريف – ميلهم للعلمانية أو الكفر حسب قولهم. وعناصر هذا الفريق، في الحقيقة، لا يقرأون، بل يمكن التغرير بأكثرهم في اتخاذ مواقف من كتب لم يقرأوا منها شيئا، وهو ما بدا جليا في موقف القنوات التي يطلون منها من دكتور نصر حامد أبو زيد (مع الاعتذار لبعضهم الذي ظهر معلنا أنه قرأ كتاب مفهوم النص «من الجلدة للجلدة»! وله معنا وقفة خاصة؛ إذ إنه تحول نوعي في طبيعة خطاب هذا الفريق).
يصاب الفريقان نتيجة هذه السمة الغالبة عليهما بالإقلال الشديد من الكتابة، سواء بمعناها المادي المباشر القريب من التدوين أو بمعناها الثقافي الحضاري العميق، بمعنى ترتيب الأفكار وتراكبها وتراصها بشكل علمي، تؤدي فيه المقدمات إلى النتائج، أقصد بالمعنى الذي يقترب من المعنى الأكاديمي، الذي لا يمكن لصاحب عقل شفاهي استيعابه أو التعاطي معه.
قلنا يتفق منتسبو الفريقين في هذه السمة، غير أن منتسبي الفريق الثاني يميلون أحيانا – خاصة أتباع الحويني – إلى الكتابة بمعنى التقييد أو التدوين، لكن دون التخلي عن شفاهية خطابهم كسمة أساسية فيه، وهو ما يتم بطريقة مثيرة للعجب فعلا؛ حيث – كما قال الحويني في أحد لقاءاته التليفزيونية مجيبا على بعض الأسئلة وناصحا بعض تلامذته -: «توجد أشرطة لشرح هذه الكتب.. يجيب هذه الأشرطة.. ويسمع منها.. ويراجع مع الكتاب. وعليه أيضا أن يقيد العلم بالكتابة، لا يترك لذهنه لأن الذهن خوان، والحفظ خوان، ممكن يتفلت العلم».
وعلى الرغم من اعتراف الحويني هنا بضعف الذهن عن حمل العلم، فإنه ما زال يعتمده آلية أولى ورئيسية للتعاطي العلمي، وهو ما يعطي للفظ الكتابة هنا معنى شكليا يوحد بين مصطلحي الكتابة والتدوين، كدأب أهل علوم الحديث الأوائل.
وفي سبيل تأكيد شفاهية هذا الخطاب، يؤكد أبو إسحاق الحويني على أن الدين سماعي، ولو كان الدين سماعيا كما قال أبو إسحاق في بعض دروسه، لما أمر عمر بن عبد العزيز ابن شهاب الزهري بجمع وتدوين الحديث. لكن الحويني في الحقيقة يدافع عن الآلية التي يفهمها، وهو في سبيل ترسيخها يحدثنا عما يسمى بفقه النفس، ويقصد به أن يسأل الطالب عن شيخه قبل أن يذهب إليه هل هو حليم أم غضوب.. إلخ، حتى يستطيع أن «يدخل لشيخه» ويستفيد من علمه. وفي ذلك روى حكايات عن ابن حبان وشيخه ابن خزيمة الذي كان ينهره لكثرة سؤاله.
إن شفاهية هذا الخطاب تنبع من متعة وسهولة أن يجلس من يسمي نفسه عالما إلى من يسمون أنفسهم طلبة علم، يوثق إن أراد التوثيق أو استطاع، ويترك التوثيق إن تفلتت المعلومة من ذهنه، وهي آلية ما أمتعها حقا، لكن ما أخطرها أيضا. وهكذا يصبح الاقتراب من الكتابة أو معاناتها أمرا محالا وغير مرغوب، ولذا يصعب أن تجد عند هؤلاء كتبا بالمعنى العلمي لكلمة كتاب، وجل ما يخرج عن هؤلاء مكتوبا ينقسم إلى نوعين:
الأول: شروح على الشروح، وتخريج لما هو مخرج، وتعليق على ما هو مؤلف من قبل، يستوي في هذا أقطاب الفريق الثاني وشيوخهم الذين أخذوا عنهم العلم.
الثاني: مجموعة قليلة من المخطوطات التي قاموا بتحقيقها، وعملهم في هذا الجانب يتسم بأنه تحقيق غير منضبط يفتقد لأدنى درجات الأمانة العلمية وأقل شروطها طلبا للتحقق، بالإضافة إلى كونه – في الغالب – تحقيقا لنصوص محققة أصلا. وهو ما سنرى له مثالا واضحا بينا في تحقيق الحويني لكتاب فضائل القرآن لابن كثير.
ــــــــــــــــــ
خاص الكتابة