الحكايات الستة عن “ريحانة”

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد ثروت

المدينة

 تفتح المدينة ذراعيها وساقيها للعابرين.. يعبرون تاركين من أرواحهم شيئاً ما.. لحظةً ما..وماكثين فيها حتى النهاية؛ و يظل العابرون بلا نهاية و تظل المدينة في انتظار الفاتحين و العابرين وأصحاب التجارب الناقص. يدخلونها ليكتملوا .. أو لتكونَ درجةً في سلم يصعدونه نحو الكشف أو الاكتمال.. لم يكن يقطنها العاديون أو يعبرها العامة والغوغاء، لم يعبرها إلا كل مغامر وكل صاحب حكاية؛  ولم يتخذها مستقراً إلا اصحاب البحث عن الكشف والحلول الصعبة النهائية .

كانت المدينة شوارع ضيقة و حارات و بيوتاً ؛ و شجرة زيتون استقرت وسط المدينة تماماً منذ خمسة و ثلاثين عاماً ، لم يتبق لها سوى أعوام خمسة لتصل ذروة عطائها و قمة نضجها ، تمتد جذورها أمتاراً تحت الرض ملتفة دائرياً بقُطر هائل حول ساق الشجرة من أسفل .جوار الشجرة من جهة مسجدٌ متهدم في أغلبه ، كرجل في التسعين من عمره ، و من جهة أخرى بيت متبق من عصور زائلة لا يسكنه أحد منذ زمن ليس بقريب . و كما كان البيت العتيق لا تسكنه روح و لا يملؤه جسد ؛ كان المسجد ” الأوسط لا يرتاده إلا عجائز ثلاثة يؤمهم عم ” حسن ” الذي يؤذن و ينظف و يراقب .

 لم تكن ككل مدينة ؛ و كانت ككل مدينة ؛ تنبت الأحلامُ فيها كل لحظة ؛ ثم تموت ذابلة قبل ان يرويها ماء أو تدفئها شمس. لكن الباحثين لم يسأموا يوماً ، و العابرون كانوا يتزايدون مع كل غروب ؛ يعبرون أو يمكثون.

عمّ ” حسن ” نفسه كان عابراً لحظة غروب ما ، كان أصغر سناً و أقل شيباً بكثير، يحتضن مزماره الذي كان يسميه ” الغاب” و الذي صنعه بنفسه من ” البوص حين أدخله النار يسخن و يرتعد و يمتليء بالحنين حتى يصبح جاهزاً للحكيو البكاء و الغناء  ثم فتحه من أعلى فتحات عدة و سماه ” الغاب، يحمله في كفه الممتلئ ؛ و عيناه لا يثبتان نحو اتجاه . يعزف و يغني و يحكي ، و لا يوقفه إلا موعد الآذان فيُصمت مزماره و يؤذن بصوت دافئ.

كان يسكن المسجد أوقات الصلاة و ما قبلها بقليل ، و يعتلي سطحه باقي الوقت ؛ يعزف و ينزف و يبتسم و يعبس و يحكي بغابه ؛ لا يسمعه أحد سوى الطير و المخلوقات الصغيرة ذوات الأذان الأكثر حساسية ؛ كان يحكي و هو يراقب ، يغني و عيناه تمسحان المَشَاهد أمامه و حوله ، تبعث عيناه تسجيلات فورية و تطمئن فؤاده أنه ما زال حياً ، فقد كان يحب الحياة و لا يريد تخيل انتهائها ، يعلم المعجزة و ُقّدر المنحة و يقّدس الروح فيه ، ربما كان توثيقه للحكايا وسيلة للبحث عن الثغرة ، عن النقص الذي يجلب النهاية و يُعجّل بالانتهاء ، فالروح واحدة ؛ والأجساد لا نهائية و التجارب لا تكتمل أبداً .

 ولأستمرَ في الحكي ؛ فرضٌ أن أستمر في المشاهدة.

 

كرامة

كانت الطفلة السمراء ذات الشعر الأسود و العينين السوداوين ساكنة بين ذراعي أمها ، عيناها تكادان تدمعان لكن يمنعهما كبرياء أو قدرة على المواجهة قد التصقت بها منذ بدء هجوم المرض المراوغ على دمائها، كانت ترتعد و هي تُلصق نفسها بصدر أمها الدافيء رغم أن جسدها كان يصرخ من ارتفاع حرارته ؛ من غليانه ، تحملها أمها بين ذراعيها تجوب بها المكان الضيّق علّها تنام فيسكن شعورها بالوجع فترة .

كانت خفيفة كفرخِ طائرٍ خرج للعالم فوراً .حين استكانت قليلاً و بان أنها نامت ؛ حاولت أمها وضعها على السرير الخشبي العريض ؛ كانت أصابع الأم تلمس كدمات و بقع زرقاء انتشرت في جسد طفلتها دون سبب ظاهر ،كانت الطفلة تئن من الجوع في خفوت لكنها ترفض الطعام لأنها تعلم أنها ستعيده مرتجعاً من فمها مرةً أخرى ،  و لم تستطع النوم سوى لحظات ؛ فقد انكتم نَفَسُها و شهقت و زفرت بصعوبة و ضيق.

حملتها الأم مرة اخرى بين ذراعيها ؛ حملتها بين عينيها الواسعتين ؛ بين قلبها و روحها ، ثم جلست بها و هي تستند جنب السرير ، تطاردها أمنيات الشفاء  أو الخلاص ، تلاحقها كل لحظة مشاهد موجعة لطفلتها التي تواجه اختبارها المكتمل قبل أن تعي نطق جملة كاملة . كانت تجربة . كان الألم ؛ و كان الأمل في ألم أقلَ فقط ؛ ذلك حلمها كل لحظة . كان الوقت قد عبر منتصف الليل بمرحلة واسعة ،

و لم يتبق على الفجر سوى ساعة أو اقل أو أكثر قليلاً ، الأفكار في رأسها لا رابط بينها سوى الخلاص أو العودة لنقطة ما قبل الصفر ، قبل الخلق ، أن لا تكونَ أصلاً ؛ فلا تكونُ طفلتها و لا يكون الألم . جرّبت كل ما نُصحت به و اختبرت كل وصف و دواء ؛ ذهبت لأطباء و شيوخ و قساوسة .

من أعطاها علاجاً للمعدة و من وصف لها دواء للبرد أو مهدئاً ، أشعة مقطعية و سينية وإيكو و رنين و غيرها بأسماء كثيرة و مصطلحات بلا نهاية .و الناتج دوماً كان خواءً أو تساؤلاً متعجباً عن الحالة الغريبة .

 كان الوقت سواداً و الأصوات منعدمة تقريباً إلا من احتكاك سيارة مسرعة بالأرض المتربة ؛ أو نباح متقطع لكلب بعيد . لم يتبق لها من طريق سوى الغريبة الأخيرة التي اندسّت في المدينة الصغيرة بزيّها البدوي الغريب على العين ؛ بابتسامتها الرائقة ؛ و نظرتها التي تحتضن عين الناظر المنظور إليه ، لن تخسر شيئاً ، فأسوا الاحتمالات ليست اكثر سوءاً مما تعيشه و يحتويها هي و طفلتها الصامدة .

ريحانة ” ربما تكون الحل . حتى لو كانت الطريق الأسرع للنهاية ؛ فالنهاية السريعة أكثر رحمة من الشفاء المأمول كحلم لن يتحقق أبداً .

حين طرقت الباب طرقة واحدة حادة ؛ كانت تضم طفلتها لصدرها بقوة الخائف المرتعد ، فتحت لها الباب ” ريحانة ” بنفسها فخفضت ناظريها و ازدادت رعشتها كأن ارتعاد جسد ابنتها الضئيل قد مسّ روحها أو كأنهما صارا جسداً ملتفاً حول ذاته .

حين مدّت ” ريحانة ” ذراعيها لتحمل الطفلة ؛ تقدمت لها الأم برفق مستسلم ، بعينين آملتين ، احتضنت ” ريحانة ” الطفلة و أدارت ظهرها متجهة للداخل تتبعها الأم في خطوات ثقيلة سكرى . كانت الأضواء بيضاء واضحة ، تُظهر الأرواح من تحت أجسادها ، ترى القلوب أجسادها في وضوح و تلذذ شيق ، حين جلست ” ريحانة ” على الأرض و هي تحتضن الطفلة الواهنة ؛ جلست الأم متربعة أمامها تماماً ، تواجه ما لا تعرف ، و تأمل فيما لا تفهم ، كانت عيني “ريحانة ” قد غرقتا تماماً  في جسد الطفة ، في كل تفاصيلها ؛ التقيتا بعيني الطفلة و امتزجتا ، كانت تلمس أناملها الهادئة الواثقة كل خلية و كل نقطة من جسد الطفلة ، لم يكن توهج الصغيرة بالحياة مفاجئاً أو دفعة واحدة ، بل كان تدريجياً هادئاً منظوراً ، كانت أنفاس الطفلة تعلو ، تتضح ، اتسعت عيناها للحظة لتشمل الكون كله ، لتشهد البداية و المراحل في ومضة محببة للنفس مريحة للروح ، كان صوت عم ” حسن ” يتردد في السكون مؤذناً لموعد الفجر ؛ و الطفلة قد سحبت أمها خلفها من ذراعها و هما تخرجان من الباب بخطوات خفيفة ؛ مودّعين ” ريحانة ” و المدينةَ ببسمة صافية واثقة ، يحملان بضعاً من ” ريحانة” ؛ قَبَسَاً من روحها .

لم تكن الأم ضئيلة الجسد و ابنتها السمراء كملاك مسالم أول الفيض من كرامات ريحانة ” وأعاجيبها ؛ بل سبقهما كل أهل الحي و بعض سكان المدينة ، كانت تمسح على رؤوس النساء لينجبن ذكورا أو ليشفين من العقم ؛ كانوا يصنعون قطعاً مختلفة الأشكال من الخبز كقلوب أو أجنحة ملائكة ؛ كانوا يسمونه ” عيش ريحانة” ، يضعون الخبز في الأواني البلاستيكية المتراصة لصق الجدران داخل بيت ريحانة. لم تمتلئ الأواني بالخبز ابداً و لم تفرغ منه ، حين أيقن الناس من قدرة روحها على النفاذ لأرواحهم ؛ على انقاذها من ضربات الحياة المؤلمة ؛ كانوا يغنون لها ، كان الزائرون يدورون حلو منزلها ثلاث مرات و هم حاملين قطع الخبز الجافة ، يحلمون و يغنون :

يا وردة الريحان      يا وجهة الغلبان

يا ام الشال اخضر    يا شافية للتعبان

تسعى لك قلوب دافية    ما تهاب من السجان

كان عم ” حسن” يراها في أوقات متناثرة متجهة نحو الطريق المؤدي للمدينة ؛ تظهر حاملة قُلّة للعطشان أو خبزاً للجائع ؛ و كما تظهر فجأة تختفي بدون أن ينتبه أحد ؛ كانت روحاً لا تستقر و لا تهدأ سوى بين جدران منزلها المجاور للمسجد ، و كأنها ولدت و تربت و نمت و عاشت فيه طوال عمرها ، و كان هذا من أعاجيبها ؛ فقد اتفق الناس على عدم المرور جوار المنزل الفارغ من عصور ولّت ؛ و لم يكن يمر جواره سوى العجائز الثلاثة المصلين و عم ” حسن ” . أما ” ريحانة ” فقد  أقامت فيه منذ دخولها و ابيها و حمارها ؛ دون أن تخاف شبحاً أو ترتعد من ذِكر  جن أو مخلوق سفلي ؛ فلم تكن تلتفت لكلمة من أحد .

 

***هكذا دخلت ” ريحانة” باب المدينة الموارب للعابرين :

يَلوحُ خيال مهتز في الأفق ، يرنو من بُعد ، حمار يجرّ عربة ؛ و العربة تعلوها عصّي من الغاب ، تقع على أطراف الكارو ، و تلتف حولها قماشة بلا لون تقريباً ، بكل الألوان ، و الحمار يتهادى ببلادة اعتيادية جارّاً وراءه الخيمة المحمولة ؛

كانت تخفي ما تخفي ، و ظلت حتى النهاية تخفي ما تخفيه ” ريحانة ” عن الجميع. متى انتبه أحد لوجودها ؟ متى أدرك أحد استقرار كيانها في المدينة ،

لا دليل و لا برهان سوى حكاية عمّ ” حسن ” الذي يراقب المدينة ليل نهار من فوق المئذنة العتيقة ؛ قال انها استقرت بالركب الصغير  لوهلة جوار عربة ” عبده ” الفكهاني ، كانت أصغر الركب الضئيل سناً و حجماً  لكنها كانت تقودهم ؛

ثم استكملت سيرها متمسكة بيد امرأة عجوز يتبعها أبوها في تسليم راضٍ نحو البيت المجاور تماماً للجامع ؛ و الذي استقرت فيه حتى خروج روحها للأكثر رحابة الذي يسعها و يسع أمنياتها .

و كما رآها عمّ ” حسن” خيالاً مهتزاً يرنو من البُعد نحو المدينة حين قدومها ؛

 رأى روحها خيالاً مستقراً فوق سماء المدينة يحيطها بذراعين أبديين حين رحيلها .

……………………

ما قصّه “عبده ” الفكهاني عن معرفته الحكاية من أولها :

لا مكان لها ؛ و تتعلق بكل مكان ، و بكل واحد ؛ ثم ترحل دون أن تحاول أن تعرف عنه شيئاً ؛ إلاّ هنا . تعلقت روحها بمدينتنا و لم تتركها إلاّ لتعود لعالمها الأصيل . جاءني أبوها يوماً يسأل ستراً و رزقاً ؛ فهديته للسكن و ” نصبة” الشاي ، لم أسأله عن حكايته يوماً ؛ لكنها حكت لي ، رغم طفولتها كانت تعلم الكثير . كانت تروي لي في سلاسة موت أمها تحت “حديد القطر “، صراخ أبيها ، محاولته رمي نفسه مثلها،  كيف قيّده المحيطون ، كيف صارت أمها قِطَعَاً، كيف ظلت عينا أمها تنظران نحوها ، كيف ظلّ ذراعا أمها يحملانها ليلاً ؛ تمشي أنامل الأم بين شعر رأس ” ريحانة ” الطويل الأسود ، تحكي لها حكايتين ، تطير بها فوق كل الأحداث ، تروي لها ما صار و ما سيصير ، تخبرها عن مدينتنا ، عن الجامع و المحبين و حكايات الليل، عن موت أبيها بعد سنين تحت نفس الحديد ، عن الأطفال و القطط و الملائكة ، و عن ” حسن ” مرآة الليل و الأسرار ، حكت لها عن النيل  و عن العابرين و عن زواجها و موتها .

 دُهشتُ ساعتها من خيال فاق خيال العاشقين ،  لكّن الأيام أرتني ما رأَتْ و ما حَكَتْ .

كانت ” ريحانة” تحب الأطفال و تصادقهم ، تلاعبهم و تقص عليهم حكاياتها ، و كان الأطفال يحومون حولها و يتمسحون بساقيها كصغار حيوانات أليفة أخلصت لمُطعمها ، كانوا يصمتون حين تحرك شفتيها أو تنظر لهم ناوية الكلام ، كانوا يشعرون بأنها ستقص عليهم خبراً لم يألفوه ؛ أو حكاية تملؤها الأعاجيب .

و هي كانت تحبهم أجمعين ؛ و تفضل عليهم الطفلة ذات الشعر  الأسود و العينين السوداوين – كانت تشبه أمها –  ، و الطفل الأسمر – كان يشبه أباها – . حكت لهم مئات القصص و آلاف العِبَر و عشرات البطولات، حكت لهم عن ” عبده ” و عن ” حسن ” و عني ، حكت لهم عن أمها و أبيها  و عن القطار و حديده ، علمتهم الرسم و غنّت معهم ، روت لهم قصة ” حمارهاو عربتهم  ” الكارو ” و لم تحك لهم قصتها هي سوى مرة واحدة . مرة أخيرة .

كان يوماً بارداً ممطراً و عاصفاً ، صوت الرعد متقطع متكرر ، و السماء تضيء بغضب للحظات ، كانت ” ريحانة ” تحس دنو يومها ، قرب تحقق نبوءة أمها ، ستحكي حكايتها و ترحل في جلال هادئ .

 حمدت ربها و شكرته كثيراً و قبّلت كفّها الأيمن ظاهراً و باطناً .. ثم نظرت للأعلى و حمدت ربها ثانية ، و قالت :

لم تلدني أمي ؛ إنما خرجت من ضلعها ، كنتُ جزءاً منها و كانت كلّي ، و الوقت لا يتكرر ، إنه المنحة الوحيدة في الحياة التي لا نستطيع استعادتها ، اللحظة ستعبر بأي حال ؛ إن كانت جميلة فاقتنصها فلن تتكرر ، و إن كانت مظلمة فتكيف معها لأنها ستعبر ايضاً ، الوقت منحة ؛ و الحياة منحة ؛ نحن مُختارون ، We are chosen   ؛ لا أوقن أين سمعت هذه العبارة أو قرأتها ، لقد تم اختيارنا نحن تحديداً لنحيا ، لننجو طالما استطعنا لذلك سبيلاً ، أؤمن أن هذه المنحة لن تتكرر ، لن تتكرر بهذا الشكل ، بي كما أنا و بكم كما أنتم ، النِعَم كثيرة و المتعة متاحة كل لحظة ، تذوقوا الحياة يا أبنائي ، جرّبوا مذاق كل شيء ؛ فربما لا تنعمون بهذه التجربة ثانيةً ، و ربما تنعمون بها فتكون لكم خبرة بمذاقها ترشدكم للطريق ، فتعلمون اين تضعون أرواحكم ؛ و أجسادكم الفانية ، الروح هي الأصل و الجسد لباسٌ بفترة صلاحية محدودة ، لكنه جزء منك ؛ فأرحه و أسعده ، روحك هي أنت ، خفيفاً باحثاً عن السر في كل ركن .

 

الموظف

متمهلاً يمشي جانب الطريق ، تعبر السيارات حوله  مُسرعة عند النقطة جواره تماماً ؛ فتنقبض روحه لوهلة ، ثم يكمل مسيرته الصباحية ، فتستقبله في نهاية طريقه أمواج من البشر و الموتوسيكلات و التريسيكلات و عربات الكارو و عربات النقل الضخمة المحملة بالمجهول ، تقابل عيناه الأرملة و المطلقة حديثاً و ابنة الهارب و ابنة المسجون ، يميزهن من ملابسهن و طريقة نظراتهن للموظفين الصامتين كأصنام عتيقة ، بسهولة يميز زملاءه ؛ حتى الذين لا يعرف وجوههم –فهم كثرة- من  اصطناع واضح كهزل كرتوني سينمائي ،  يعبر الطريق الأخير قبالة البوابة الهائلة و هو يقبض بكفّه داخل جيب بنطاله اليمين على جهاز اتصاله المحمول ؛ يتأكد من وجوده كل لحظة ؛ ثم يخرجه واضعاً إياه داخل جهاز التفتيش وسط البوابة ، فيتلقاه من الداخل و قد اضطرب قلبه لحظات غياب الجهاز عنه ؛ يكمل خطواته المتمهلة نحو المصعد الحديث ، ينتظر دوره في استسلام بين مجموعة متباينة من مخلوقات الرب الرحيم ، و هم يتوقعونه موظفاً من نظراته المتارخية و رائحة ملابسه النظيفة المختلطة ببخّات لعطر هاديء فيسألونه عن الطابق الذي يعمل منه الأستاذ ؛ يشير لنفسه بسبابته ؛ فيتنهدون عميقاً .

عاوزين الورقة لاجل ترتاح في مكانها

انتم الورثة ؟

مالهاش مخلوق .

يتبعون خطواته في اضطراب ناظرين لحذائه الرياضي ؛ يجلس خلف مكتبه الخشبي مسترخياً ؛ ثم يطلب منهم أوراقاً و توقيعات فيقدمون له غلافاً ورقياً ممتلئاً بأوراق ذات أحجام مختلفة يقرأها كلمة كلمة و هو يتلذذ بقهوته الأولى ؛ و الثانية ؛ و السابعة ، و لا يرفع بصره نحوهم أبداً .

 يقرأ و يرشف و يقلب شفتيه ؛ يطالع أختاماً و خطابات رسمية و أوراق صفراء و صوراً باهتة ، يُقلّب شهادات حكومية و كتابات بخطوط طفولية ، قصاصات و أظرف و بطاقات أعياد و صور قديمة . انسكبت حياتها بين أنامله و تسربت لكل خلاياه ؛ ذُهل و ابتسم و بكى ، تألم و صمت و تأوّه ، كان اسمها موجوداً في كل ورقة ، كل قصاصة ، كل جزء من ورقة ، ” ريحانة ” ؛ كلما قرأ اسمها استراح و هدأت روحه .

 وسط قراءته رفع بصره فجأة نحوهم و سأل عن عمّ ” حسن ” كان واقفاً أمامه تماماً يتقدمهم جميعاً بجلباب سماوي باهت و فوق كتفه قد التفت عباءة ذهبية كالحة كوشاح سميك ؛ أمر الجميع بالرحيل ثم طلب منه الجلوس على المقعد المواجه للمكتب الخشبي . لم يسأله أو يوجه له أي إشارة بأي فعل .

اكتمل غرقه بين الأوراق و الحكايات الناقصة ، ذاب وسط البدايات التي بلا نهايات و النهايات التي لا تبدو بداياتها واضحة اندفع يلتهم ما بين يديه ؛ عيناه تروحان و تصعدان و تجريان يميناً و يساراً كان جسده يلاحق عينيه ؛ يحاول إعادتها مرة أخرى ، لكنها كانت تهرب سريعاً راكضة وراء الحروف و الصور ، كانت عيناه تلاحق ” ريحانة ” في كل لحظة مرّت بها ، و جسده يعدو خلف عينيه ، عيناه تعدوان خلف ” ريحانة ” ، و ” ريحانة ” تحلّق عالياً ، تبتسم و تحيطه بذراعيها الدافئتين ،و هو عالق لا يستطيع انعتاقاً .

فقد الزمن لفترة لا يعلمها إلا العليم القادر ، ثم وجد نفسه مكانه يتصبب عرقاً من كل ذرة في جسده ، وقّع على الورقة المطلوبة ، ختمها ؛ ثم طلب من عمّ ” حسنأن يسمح له بتصوير كافة الأوراق و الصور .. منحها له بعده في صمت ؛ و انصرف الرجل .

مضت ساعات عمله و كأنها دهر بلا نهاية ، حمل ثروته تحت ابطه يحيطها بذراعية رقيقاً ؛ حتى وصل منزله و غرفته و أغلق بابه خلفه ، عاد يقرأ بتمهلِ مسافر قبل التاريخ بتاريخ ، حينها تجلّت ” ريحانة ” أمام ناظريه و احتضنته عميقاً حتى ذهبا سوياً يكشفان ما حدث .

ما كان بين عم ” حسن ” و ” عبده ” الفكهاني : –

و ماله .. كل سقطة و ليها لاقطة

كان صوت عم ” حسن ” مهتزاً خافتاً و هو يوميء برأسه لأسفل و أعلى مرات ؛في حين كان ” عبده ” الفكهاني حاسماً في وقفته ، حاسماً في نظرته ، لا يهتز و لا يلين ؛ و قال لحسن :

 تقرا مزاميرك على مين يا داوود” ؛ لمّا تشوف هتوعى .

يتذكر عم ” حسن” اعتراضه على سكن ” ريحانة ” و أسرتها الصغيرة البيت الملاصق للمسجد ، و لم يكن لرأيه أهمية بكل الأحوال ، لكن ” عبده” أخبره من باب اللياقة كجار للقادمين الجدد ، و ” حسن ” أعلن اعتراضه كون ذلك سيُغضب السكان الاصليين من مخلوقات الرب التي يُهدئها بأذانه و ” غابه ” لتظل على حالها لا تؤذي أحداً ، كانت كلماته في أول الأمر حادة مضطربة تتكيء أساساً على خوفه من أن يراقبه شخص آخر .

كيف يحدث له هو هذا  و هو المُراقب و المُشاهد للراحين و الغادين ، و المغامرين و الهاربين من حيوات لم تعد تُحتمل . و لم تكن كلمات ” عبده ” أو ثورته على حسن ” هي سبب تراجعه و خضوعه ، لكنهما العينان ، لكنه الصوت ، عينا الصغيرة الملائكية ” ريحانة ” و صوتها الباعث للحنين و الدفء ، هي من تقدمت أسرتها و هي من تحدثت ، و هي من كبّلت كل من واجهها بعينيها السحريتين اللتين تحويان زهوراً و ألواناً و أغان لا يُسقطها الذهن أبداً . عيناها اللتان ترى فيهما حلمك متحققاً لا ينقصه سواك ، كان حسن يذكر أول مرة رآها تراقب و رأته يراقب ، كانت بعينيها تحوي المشهد كاملاً أما هو فكان جسده يتضاءل و روحه تتمدد ليعزف بآلته البدائية خلفية شارحة ، مُنبئة ، مُوثّقة لما يصير ، امتزج ” حسن” كجزء صغير في عالمها دون اعتراض أو رفض ؛ بل برجاء لاستمرار لا ينقطع . و بينما كان يرى و يشاهد ليحكي يوماً ما ، ما صار و ما جرى ، كانت هي تراقب لتعرف الحلم و تفهم الرغبة و الأمل ، تنسج أنشودة من حياة فسيحة تكفي الجميع ،و تفيض بأحلامهم بين أيديهم و أمام عيونهم .

بدأ يحكي لعبده ما يراه كل ليلة ، غير مهتم بغضبه الأوليّ كون ” حسن” يراقبه هو ايضاً ، لكن ” عبده ” حرّك ” القوالح ” بالماشة” الصدئة بعد أن هدأ و استكان ، ثم أمره أن لا يتكلم في هذه السيرة مرة أخرى ،

           دي سيرة بهيّة .. اللي يشوفها يتفرج في سكات .

و كان ” حسن ” يُطيع ” عبده” بلا نقاش دوماً .

هكذا أنهى ” عبده ” الحديث عن ليال المراقبة و الرؤية ؛ تاركاً عم ” حسن ” يدخل العالم البهيّ وحده ، مكتفياً بالحذر في خطواته القادمة التي يراقبها

 حسن ” و تعلمها ” ريحانة.  

ما حكاه عم حسن عن ” ريحانة ” :

عمّ ” حسن ” يتذكر ” ريحانة ” يوم أجبرت أباها على أن يُفّصل القماشة القطيفة الحمراء التي اشتراها لجدتها فستاناً لها هي ، مع أنها لم تكن تعدّت العاشرة؛ قال عم ” حسن ” أنها 🙁 كانت بنت حرام من يومها ) ،

و أنا ضحكت و قلت له ( اتق الله يا شيخ الجامع ) .

آخر الليل جلست معه نحاول اختراق الظلام بعيون صامتة ، ينخلع قلبانا نحو المدينة فنراها مجتثة من رقبتها ، مواربة ساقيها للعابرين .

كانت أيدينا تصفق للعرض الكلاسيكي و في ذات الوقت تضرب بقوة فوق أقفيتنا ، لكن دماءنا تنكمش مذعورة ، تفّر من أنوفنا و أفواهنا ، فنصير كممياوات أبدية ، تهتز ضمائرنا بعنف ، كمدمني حلقات الذِّكر ، نردد كلمات بمعان لا نهائية ؛ و لا نفهم معنىً واحداً .

قال لي ” هل تذكر زمن الخطابات ؟ ” ، هذه الأوراق البيضاء و الملونة ، المحلاة بزهور أو ألوان شفافة ، تلك الغارقة في بقع من العطور الهادئة أو الزاعقة . صرنا كباراً فجأة ، باتت طفولتنا و صبانا تاريخاً ، ربما يُحكى و ربما لا . لم نكن وقتها نتراسل برسالة الكترونية ، لم يكن في بلدنا جهاز كهربي أصلاً ، كنا نُحّس ، كانت لنا مشاعرنا الخاصة ، لم تكن هناك رنّات موبايل تتغنى باسم حبيبتك ، و لم تكن هناك نماذج جاهزة لرسائل تُعبّر عن العواطف ، رسائل حب مُعدّة سلفاً ، نماذج تختار من بينها أقربها لإحساسك ، لا يتركون لك حتى فرصة الشعور الحر ، عليك أن تختار قالباً يخصهم ليُعبّر عنك ، فلتختر ألوان قيودك و مقاساتها .

ريحانة ” كالخطابات القديمة ، لها لون و رائحة ، الخطابات القديمة حيّة ، و ” ريحانة ” حيّة” دوماً .

كان عشاقها يزحفون وراء ظلها ، يتنسمون نسائم احتكاك جسدها بالهواء ، تهبهم نظرة كل فترة تطول أو تقصر ؛ فيُذهلون عن مواضعهم ، لكنهم لا يقتربون منها أو من بيتها ؛ كأن سياجاً كهربائياً يحيطها يصعقهم حين اقترابهم فيبتعدون ؛ يحومون و يحلمون و لا يقتربون . إلا هو ؛ لم ترفع عيناها عنه أبداً ، ذاب بروحها و امتزجت بروحه ؛ تناغما و تماسّا ، اختلطت أرواحهم و عظامهم و انسكبت دماء كل واحد منهما في جسد الآخر ، حين وقف أبوه سداً أمامهما هددّ و توعّد بالبابور و الكبريت ،سكب الجاز في انتظار تراجع الأب أو احتضان الأم ، أشعل حياته في لحظة ؛ و انتهى . لكنها لم تذبل و لم تتوار ،  تزوجت لتّصمت الجميع ؛

 انتقته أكثرهم عجزاً و أضعفهم ، بُهتوا و هللوا لكن سياجها الكهربي اتسع ،كانت تبحث عن المحبين ، تمنحهم المكان و الوقت و السترة ، تنقلهم لعالمها ، يدخلون و لا يخرجون .

طويل عريض هذا الشارع ؛ و مسدود من الناحيتين بالبشر ، أكوام من الناس متلاصقين ، كلهم ينظرون لأعلى كلهم مبحلقة عيونهم متسعة أحداقها ، غمغماتهم تطغى على اصوات الميكروفونات وبائعي الخضار ، حتى اصطكاك صاجات بائعي العرقسوس صمتت ، أمّا نداءات بائعي الخبز و شجارات السائقين فتوقفت ، كأن سهام آلهة الصمت أُطلقت من السماء تُلصق شفاههم ببعضها ، شهقة جماعية فغمغمات فصمت ، فشهقة.

كان المسجد ، و فوق المسجد مئذنة ، جوار المئذنة تمتد أسلاك الكهرباء ، و بين الأسلاك ، تتمدد قطة .

لا يعرف أحد كيف وصلت هذه القطة لهذا الوضع الغريب ، أظافرها ناشبة حول السلكين المتطرفيْن و بطنها تمددت فوق الأوسط ، لم تكن تموء ،لكّن رعب العالم كله استوطن عينيها ؛ فأطلقته نحو الجمع ، هل استوعبَتْ أن الكهرباء ستقتلها إن لم يقتلها السقوط من هذ العلّو ، أم أنها كانت مرعوبة من كل هذا الحشد الناظر إليها ، ماذا يريد الحشد منها ، كلما زادت غمغمات الواقفين ارتبَكَتْ ، تكاد الأسلاك تلتصق فيشهقون ،كانت نهاية الأسلاك من ناحية اليمين بيت عال ؛ فوق سطحه تربّعت ” ريحانة ” ، وضعتْ أمامها طبقاً مُليء ” لبناً” ثم بسبست بصوتها ذي البحّة التي تدعوك للعناق ؛ فصفّق الجميع ، و هي انتظرت حتى أتت القطة كبهلوان رقيق ، ثم انتهت من لعق اللبن و الطبق و فمها .

 بعدها مدّت ” ريحانة ” يدها و أمسكتها من ظهرها بلطف .

 ثم ألقتها من فوق السطح بهدوء .

…….

حشرات كثيرة .. بق و قمل و براغيث تجوب رأسي ، تأكله و تحرقه حرقاً ، تنخر دماغي و تُعشش في ثقب جمجمتي ، فأشتعل ؛ و لا يحميني سواكِ ، حين تنحني رأسي بين ذراعيك ، تهدهدين أفكاري في صدرك ، ثم تعيدينها لي منقاة مرتبة صافية ، حين تضمين شفتيك السماويتين ، فقط لو تكوّرتُ و سكنتُ قلبك ؛ فقط لو يتركني العالَم بكِ قليلاً ، حينها ، سأكون أنا ، أنا الذي اعتدتُ أن أنظر أولاً لقدم الشخص أمامي ؛ لأصابع قدميه ؛ تحديداً لأظافره ؛ ربما كانت عقدة نفسية ، أو خللاً في عقلي ، ربما كان حتى اضطراباً في أمعائي ، أو أي مما يقذفه أصحاب الكلام في أذنيّ ، لكنني اعتدت هذا مذ كنت صغيراً أحبو بين أقدام الكبار ؛ أعبث بأظافرهم الصلبة الناعمة، المختلفة تماماً عن ألوان جلودهم الوردية أو الغامقة ؛ كنت حتى أحاول قرضها بأسناني ؛ فيضحك مني الجميع ثم يحملونني و يقذفون جسدي الصغير لأعلى كي أضحك ؛ فأبكي . و لا تترك عيناي هذه القطع الصغيرة الصلبة أبداً ؛ لكّن أظافر ” ريحانة ” كانت كالبللور ، شفافة باردة ، عندما أضغط عليها بأصابعي الصغيرة تثور كوجنات الصبايا الخجلات ، كنت أراها كوجهها تماماً ؛

و كذلك كنت أرى وجوه الآخرين في أظافر أقدامهم ، أظافر عابسة أو ضاحكة ، عنيفة أو رقيقة ، أظافر خبيثة و أخرى ساذجة ، كنت أحب ” ريحانة

لأنها الوحيدة التي لم تكن تقذفني لأعلى حين أعبث بأظافرها ، كانت تتركني أضغطها و أتأملها أو حتى أُقبلّها . كنت أحب ” ريحانة ” و كنت أيضاً أُشفق عليها .

…………………..

ما رويته بنفسي لنفسي :

ساخراً كان النيل و صامتاً ، ناظراً نحوهما في حكمة العارف المستمر ، كانت عشش الدجاج و أبراج الحمام مصفرة مكفهرة من الهواء المُحمّل بالتراب الناعم ، و كل واحد منهما يعيش على أحد طرفي النيل الذي يقسم المدينة لنصفين متنافرين ، متوازيين .

قال لها أن قلبها باتساع حياته ، باتساع الحياة ، عيناها بَراح الزمن ،و صدرها الدفء كله ، كانت رحبة كجنة أبدية ، و فائقة الروعة كاكتشاف لون جديد للوحة جديدة ، حكاياتها أذهلتهُ و لم يكن ليُذهل من حكايا أنثى ، أو حكايا ذكر ، يراهم جميعاً عالقين في المنتصف دوماً ، يرهبون الهبوط و يستميتون في النزوح فوقه ، و يهابون الصعود خشية فقدان ما تحت أقدامهم ، رغم هشاشته ، يظلون هكذا ، و تظل هي شذوذ اثبات القاعدة ، كان النيل يفصل بينهما ؛ و تجمعهما ” ريحانة” ، في بيتها يكون اللقاء ، و بين جدرانه تتولد الحياة ؛ و ينتشي المحبون ، كانت تأوي الصادقين ؛ و تحب المحبين ؛ تمنحهم من الحياة حياة و للحياة حياة .

كل ليلة منتقاة نترك أرواحنا تحركنا ، نسير مبتهجين نحوها ؛ و دوماً تنتظرنا ” ريحانة ” أمام بيتها غير عابئة بالعيون الساخطة أو الحاقدة أو الجاهلة ؛ و بينما تكون هي جنتنا كنّا نحن نيرانها و عقابها الدائم ، كانت ترانا نخلق كل يوم حياة من حياة من حياة و هي ترنو بحسرة نحو تجاعيد ذراعيها المكشوفين ؛ و رعشات يديها النحيلتين

…………

الزوج:

آخر فرد في الشارع و الحي و المدينة كلها يحسبونه حين يعدّون الرجال الأشداء أو الشباب الفحل أو الذكور ذوي الشخصية الواضحة أو أصحاب الأموال المعقولة ؛ لم يكن موجوداً بمعنى أدق . كان مجرد جسد ضئيل يسكن رِفق أمه غرفة منزوية خلف المسجد ؛ يتنقلون طوال النهار تبعاً لوجود البنايات الحديثة ؛ كحارس لمواد بناء نهاري أو كمساعد لأمه في تقديم الشاي و المياه للعُمّال ، كان نكرة بالنسبة للجميع حتى مقارنةً بأقلهم شأناً .

لم تنم عيناه أبداً ، نصف مغمضتين لكنهما يقظتان دوماً ، يبحثان عن حياة غير الحياة ، عن حلول أو عطايا . كانت ” ريحانة ” بالنسبة له شمساً حارقة أو نجماً بعيداً لا يفكر في مجرد التفكير فيه ، لكن عينيها امتزجتا بعينيه مرةً فلم يبرحاهما ، احتضنت روحه – التي لا يراها و لا يحسها أحد – روحها الطليقة التي يراها الجميع دوماً في أحلامهم و أمانيّهم ؛ اختارته دوناً عن شوارب عريضة و أصحاب محال و شباب مشتعل بمستقبل منتَظَر .حين أصابه العجز في يده و ساقه بعد زواجهما بفترة قصيرة ؛ أيقن الجميع أن نظراتهم الحاقدة قد أتلفت الزوج المسكين ؛ لكن فرحاً خفياً و حقيقياً تسرب بين الجمع ؛ كونها ستحتاج ذكراً ثانية ؛ كون الفرصة متاحة لمحاولة اخرى ، لكنها تشبثت بروحه اكثر ؛ تعلقت به كأمل وحيد للنجاة ؛ و ربما كان عناق روحيهما هو ما زاد قدرتها على لمس أرواح الضعفاء و اكتساب آلامهم ، كانت تمتص داخلها كل انكسار و وجع ؛ لتخرجه أملاً و حباً في حياة تراها فرصة الفرص و أفضل الممكن و المستحيل ؛ و كان هو متقطعاً متشظٍ بين آلام جسده الذي يتضاءل أكثر و بين روحه التي تحمل همّاً و غمّاً لا ينتهيان . كان يفكر كيف لو أن اختفاء ” ريحانة” من حياته ربما يعيد له حياته ؛ لكنه كان يجزع للفكرة رغم أنه يراها خلاصه الوحيد و الطوق الاعجازي الذي يجب أن يُقدم له . لكن الحياة كانت قد اتخذت خياراتها من قبل الأزل  بأمد طويل.و لم تكن أفكاره الموؤدة لتتحقق و لو تمناهاو جاهد من أجل تحقيقها عمراً فوق عمر ؛ لولا أن الحياة قد قررت ذلك فعلاً .

 

***ما رويته بنفسي لرفاقي :

لم أكن صغيراً بما يكفي حين كنت أذهب لبيت ” ريحانة ” ، أمكث عندها من صباح الله حتى تأخذني أمي لأنام جوارها ، تُراجع عيناي ما تفعله طوال اليوم فأدمع و أبتسم مندهشاً .

كانت تستيقظ من صباح ربنا لتغسل وجه زوجها بقماشة مبللة بالصابون ، ثم تجففه ، لكي يتكيء على كتفها الرقيقة و كأنها تحميه ، تذهب به للحمًام تساعده على قضاء حاجته و تُنظفه ، تستنشق عرقه و يُغرق فخذها بولُه ، حين تتساقط بقايا الطعام من فمه تمسحه بجناح ملائكي ، ثم تُجلسه فوق مقعده ذي العجلتين ليتمتم بآيات الله حتى الظهر ، و تنظر نحوي ، فأقترب ، أرى زوجها بنصف فم و ذراع واحدة سليمة ، بساق واحدة تتحرك ، ينظر نحوها و هي تُطعمني ، فيقذفها بلعناته و ساقه السليمة فوق جسدها المكدود ، فلا تفعل هي شيئاً سوى أن تبتسم في وجهه ، تحتضنه و تُقبّله في شفتيه ؛ فيكاد يطير فرحاً بكرسيه الثقيل ، لكن وجهه يتجهم بقية اليوم ، كذكر عربي مسلم أصيل ، و لا تنبسط عضلات النصف وجه إلا حين تأتي أمي لتأخذني ؛ فيقول لها ( ما تسيبيه يونّسنا ) ؛ و هو يخبط على قفاي بيدٍ كالمطرقة .

في الغرفة كنت أواصل فُرجتي ؛ ملابسها القليلة النظيفة و هي معلقة خلف الباب ، بيض الدجاجات الي جمَعَته من فوق السطح صباحاً ، الكانون ، الفحم ، أكواب الشاي الصغيرة مغسولة و مقلوبة على وجوهها ، صورة زيتية باهتة – معلقة وسط الجدار- تُظهر رجلاً بملابس بدوية يضم طفلتين بين ذراعيه ، الرجل ينظر للفراغ

و يبدو حارساً لطفلتيه من خطر قريب ، كتاب لتعليم الحروف و الكلمات الأولية مستلق فوق منضدة خشبية لا يزيد طولها و عرضها عن نصف متر ، و تقف جواره زجاجة شفافة تحمل سائلاً ما داخلها ، كما لفت نظري عميقاً أشكال عجائبية من الخبز الجاف  التي تملأ طبقاً عريضاً يتمدد فوق ” الكانون” المُطفأ ،كان جو الغرفة ناعماً هادئاً نقياً ، يحمل ذرّات الاسترخاء و الأمان ، كان الجو مريحاً للروح ،و كنت أتمدد في الزاوية المجاورة للفحم و الكانون المطفأ أتأمل الحياة الغريبة عن هذه المدينة الساذجة ، و لا أفكر أبداً في الذهاب من هنا ، كانت ” ريحانة ” تبتسم لي بطريقتها ،ثم تقدم لي قطعاً صغيرة من الخبز الجاف  ساكنة فوق باطن كفها الناعم .

………

في هذا اليوم حكت لي ما كانت تراه في سكونها اليومي ؛ حكت لي كل شيء ؛ اكتمل فهمي يومها فاكتمل وعيى ؛ صرتُ  رجلاً فجأة ، ساعات فصلت بين طفولتي الساذجة و بلوغي المؤلم ، كشفتْ لي الحياة  و كشفت لها الحلم ، كانت رحلة مختلفة عن كل يوم ؛ تكشط الركام و ذرّات الواقع من فوق روحينا ،  حدّثَتْني أكثر و أكثر ، حدثتني عن كل شيء سوى الموت. أسكَنَتْني حكاياتها ؛ و زادت عوالمُها المحكية من اشتياقي و نشوتي ، هنا تمنّيت لو يدور الزمان حول نفسه ؛ لا يتقدم و لا يتأخر .

…………………………

قالبان من الطوب المحروق ؛ استقرت فوقهما الأرجل الثلاثة للبابور ذي العين الكبيرة أعلاه وعاء من الألمونيوم قد رُبطت يده البلاستيكية السوداء مثنى و ثلاث و رباع بسلك غليظ ، كان الوعاء مملوءاً بماء ممتزج بذرات تراب و عُفار خفيف  ، على يمين القالبين المحترقين يسكن النصف السفلي لجركن بلاستيكي به ماء لغسيل الأكواب المتسخة ، أما الأكواب العريضة القصيرة فمتراصة فوق طبق أصفر باهت ، كل كوب به ملعقة شاي ناشف و سكر كثير ، بينما كان أبوها جالساً فوق نصف لوح من الخشب أمام كل هذا .

ملعقته الصدئة كانت تدور بسرعة و بلا انتظام ، تخبط في جنبات الكوب فيكون سائلاً بنياً أقرب ما يكون للسواد ، و أعلاه فقاقيع شفافة و بيضاء متلاصقة ؛ -كان يقول أنها تجلب الرزق – ثم يرص الأكواب فوق الطبق المستطيل الأصفر الباهت كيفما اتفق،  يوزعها على السهرانين ، يرشفونه سريعاً كي يضاعف تحليق أدمغتهم في الخواء ، عيون مذهولة أو خاوية ، كلها تنظر في كسل نحو الراقصتين ، تترجرج الأفخاذ المترهلة و الكرشان العظيمان ؛ بقفزات بهلوانية و أقمشة ملونة مترترة ؛ يحاولن اثارة الساهرين كي يحصلن على ” نقطة” مُرضية ؛ لكن الخمر الرديئة و أوراق البانجو قد فعلت ما فعلت ؛ فانتشى الجمع .

ثم أخذت ” ريحانة” زوجها ليتبخترا سوياً منتشيين بحياة سعيدة قادمة لا محالة ، فوقفت أمه لصق البوابة الحديدية ؛ رفعت رجلها اليسرى فوق ضلفة البوابة ليمرّا من تحتها ؛ ثم منحتهما كوباً من اللبن يشربانه لتبدأ حياة ما .

……………….

كانت قدمي زوجها تلتصقان بالأرض فيرفعها بطلوع الروح .. و تسقط وحدها ، و كأن ريحاً خفية هي التي تحركه، و على بُعد أمتار من دائرة حركته يقف ” عبده” الفكهاني خلف عربته ذات اليدين مائلة و قد خلع عجلاتها ، راصّاً فوقها أقفاص المانجو و مُعلقاً بها أسبطة الموز ، كان يتابع خطوات زوج ريحانة  المهتزة ، التي – و بشكل طبيعي – أجبرته على السقوط و أكوابه و طبقه و مائه المغليّ فوق بعضهم و على الأرض المليئة حُفراً و زلطاً صغيراً ، وكان ضحك كثير .

كنا نحكي ما حدث له لبعضنا ؛ رغم أننا جميعاً شاهدنا ما حدث ، كنا نقول و نعيد نفس الكلمات  مرات عديدة، كان ضحك كثير .

يتحرك أحدنا من على مقعده الخشبي حتى يصل لمقعد آخر ، يضحك و يعود، ثم يعود و يضحك ، و لم يتحرك أحدنا لمساعدته ، كانت الحياة كلها كمشهد جانبي ، خرجنا منه بليونة و جلسنا نشاهد بأطراف عيوننا دونما اكتراث، فقط نشاهد و نضحكو نذهب و نعود ، و لم يغضب منّا ؛ فقد كان متأكداً أنه يحبنا ؛ و لمّا ابتسم ” عبده” ابتسامته الملونة ؛ قذف في وجه عربته كوباً مكسوراً ؛ ثم لملم أشياءه المبعثرة ، أمّا نحن فقد نمنا على صوت لحن قديم لم نعرف مصدره . كنا نصدق اللحن تماماً ؛ و لا نتذكره.

حينما جاءت ” ريحانة ” لتصحب زوجها ؛ توقفت الحياة تماماً ؛ تصلبت أطرافنا ، و سقطت عيناي من وجهي تحتضنها ، شفتان كقلب منح الحياة حياة ، عينان بروعة الحلم ، رائقتان و بهما حكايات بلا نهاية ، و أنف يستنشق لوثات العالم ؛ و يمنحه هواءّ دافئاً كزهرة قررت منح العالم أسباب بقائه ، فبقيتُ مدهوشاً لا أستطيع إرجاع عينيّ أو إغماضهما ، حينها ، قررت أن أفاجيء نفسي بصفعة عنيفة على وجهي تكسر أسناني ؛ ستعود لي أفكاري من جديد ، و سآكل كثيراً من الشيكولاتة ، سأسجد للوظيفة الحكومية ؛ و أنام كثيراً ، بلا مواجهات أو اكتئاب أو قرارات .

و بينما كانت أفكاري تترجرج في زوايا دماغي ؛ كانت تضغطها تلك المخلوقة الهاربة من الجنة ؛ جسدها ضاجٌّ من تلك العيون المحيطة و اللعاب المحيط بها ، بينما زوجها يحمل فرحة العالم  كله و رعب الكون ، فرحاً بزهرته النابتة في الأرض الهشة ، خائفاً من كل العيون التي تسوّر جسدها ؛ أما فستانها القصير فكانت تحبه كثيراً ؛ كانت تحبه و تحب ظهور جسدها الرقيق أسفل الثوب و على جانبي ذراعيه ، كانت تحب أن ترى نفسها حلوة و أن يراها الناس جميلة ، كانت تحب نفسها ؛ و كانت تحمل لعنتها .

كلعنة الفراعنة . ” الفراعنة ” ، ذلك المقهى الذي يجمع الجميع ليلاً ،هل كان مجرد اسم تقليدي  للمقهى أم أنه كان يحمل في طياته اشارة ما ،كانت رسومات الفراعنة مبعثرة فوق الجدار ، أخناتون يمد ذراعيه نحو الشمس ؛ خطوط متعرجة لما بدا كحروف هيغروليفية ، بينما شمخ في المنتصف رسم زيتي كبير للمسجد الأقصى ،

و عن يمينه المسجد النبوي ؛ أما عن يسار الصورة فقد لُصقت صورة كبيرة لحديقة صناعية تتوسطها نافورة بلا مياه ، أما عن مقاعد المقهى فكانت خليطاً بين الخوص المدهون بلون ابيض باهت و الخيرزان الاصفر،  فبدى المقهى كمزج عجيب للوحة حداثية مبهمة .

كان موتاً مُلئ بالحياة .

وكانوا يعلمون أن أكثرهم قدرة على التذكر هو عمّ ” حسن ” ؛ الذي كان بذاكرة أرابيسكية تكتمل و لا تنقص.

حينما رأت الطفة ذات الشعر الأسود و العينين السوداوين ” ريحانة” في المنام ، كانت تحمل نوراً ناعماً سعيداً بين يديها ؛ يحملها نور قوي على هيئة جناح ملائكي ، كان تغني و تنظر نحونا بينما ترتفع ، تبتسم لنا بعينين واسعتين ، يتردد صدى غنائها المبحوح الدافيء من كل بُعد، ثم أشارت بذراعين مفرودين نحو بيتها الذي تحول قبة خضراء فسيحة ، تمدد جسدها حتى احاط القبة و الجامع و المدينة بنهرها ، ثم انهمر فوق المدينة كمطر غزير يروي النبتة و الأرض و عابر الطريق ، نلهو بملائكة من طين ، أجنحتهم هشة ؛ و قلوبهم تظهر فوق قلوبهم ؛ نحبو جميعاً نحو القبة باسمين ؛ حين نصل تتشابك أصابعنا و أجسادنا تحيط المدينة في رقة متمددين ، هادئين ، كاشفين .

قالت الطقلة حين قامت من رقادها بعد أن صرخت صرخات مكتومة متتابعة :

ابنوا عليها بنياناً .

موت مُليء حياةً

هكذا كانت اللحظات الحالية ، أعمدة خشبية و قماش فِراشة  و كراس مُذّهبة وقهوة ، عُمّال يهرولون في اتجاهات عدّة ؛و سلالم خشبية متنقلة ؛ عمائم وجلابيب و بناطيل جينز و بِدَل سوداء و بنية ؛ بينما صوت المُقريء يعلو كل الأصوات ؛ لم يكن صاخباً ، كان كخلفية موسيقية حالمة لفيلم خمسيني ،و في الشوارع المحيطة ميكروفونات متحركة تُعلم الجاهلين بموتها .

صدّق القليلون و كذّب الكثرة ؛ لكّن الجميع حزنوا ، و تذكروا .

كان أكثرهم قدرة على التذكر عمّ ” حسن ” ؛ كان بذاكرة أرابيسكية تكتمل و لا تنقص كما كان يردد دوماً ، لكنّه في هذا اليوم لم يقو على الكلام ، تكلّم الجميع إلا هو .

رحلت روح ” ريحانة” فصمت لسان عمّ ” حسن ” ؛ و لم يهدأ قلبه .

قالت الطفلة  ذات الشعر الأسود و العينين السوداوين أن :

“ريحانة “  رجعت بيتها اللّي في الجنة ، تحت بيت ربنا ، أنا شفتها.

قال الطفل الأسمر : ( ” ريحانة” حبيبتي وحدي ، هي قالت لي ) .

و هتف المعمّم ذو الجبّة أن ( وحدّوه ، لا دائم إلا وجه الله ) فأمسكت النسوة رقبته و عمامته و صرخن ( ما تفوّلش يا غراب ) .

(كل يوم مرّ كان يحفر مَعْلَماً عن ” ريحانة ” في نفوسنا أجمعين ؛ كل ذنب اقترفَته طهّر في نفوسنا إثماً و خفّف ألماً ؛ و كل جميل فعلَتْه يسّر في قلوبنا الرؤيا ، ذات يوم كانت طفلة ليست ككل طفلة ، لاحقَتها الحياةُ و سابقتها و سبقتها ، ابيّض شعر رأسها قبل بلوغها الثلاثين ، حين تتسمّر ساعات طوال فوق سطح منزلها المجاور للجامع تماماً ترى الكثير ليلاً ؛ و يراها ” حسن ” المرابض فوق سطح الجامع يومياً كممارس لمهمة لا تنتهي ؛ لا تخبو عيناه لحظة من صعودها حتى تلسعها سخونة شمس الصُبح المائلة ، فتهبط مترنحة كالسكران ، ثم تقف أمام مرآتها ؛ ساكنة ؛ هشّة؛ بلا أحد ، يحيطها الفراغ من كل اتجاه، و يسكنها .

و لا تُنهي طقسها اليومي سوى طرقات أمي الرتيبة و نداءاتي باسمها من الخارج ، فيبدأ يومي سعيداً ؛ إلا أيام الجُمَع و الأجازت و مرض أمي، حين أظل طوال اليوم بين ذراعي أمي لا أتحرك سوى لاحتياج بيولوجي بعيداً عن محيطها ).

يا الله،  المصابيح المحيطة بالفراشة تُصدر  نوراً روحانياً ما ؛  هذه الأنوار البيضاء المقدسة  تنعكس في خمول فوق سطح النيل الساكن ؛ تأخذ روحك بعيداً ؛ تجعلها تُحلّق بين حقول النشوة و سماوات الحرية ، تُذكرك بأزمنة طويلة بين ذراعيها ، لكنها اليوم ليست هنا ، لكنها اللحظة ليست هنا ، بعيداً بعيداً راحت “ريحانة” ،.. تخلق بين ذراعيك جناحين بقوة الحلم ؛ فتخفق بهما و تروح روحك ، هل هذه حقيقة ؟ أنت الآن تأخذ عزاء ” ريحانة، يا الله .

تتجه نحو الأنوار اللامعة من بُعد و من قُرب ؛ قدماك تخطوان نحو الطقس المهيب بينما قلبك يحاول إبعادك ، يُرجعك للخلف ، عيناك تنظران للسماء بعتاب خفيف غير مفهوم لك ، و كأّن نظراتك المستعطفة ستُعيد ” ريحانة ” .

……..

يُخرج من جيب بنطاله سيجارة في خفة ؛ يُجبر قديمه على الالتفاف قبل وصوله للحشد المقدّس ، المشهد جليل و روحه خفيفة لا تحتمل ، يُشعل السيجارة و هو ينظر للنيل الساكن ماشياً جواره،  ينتظر منه تفسيراً أو حلّاً، أثناء خطوه يسمع اسمه متردداً من كل صوب ، في خفوت مسموع ، هذا صوتها يناديه كما اعتاد أن يسمعه دوماً ، خافتاً رائقاً تحتويه البحّة المُسكرة ؛  فتذكّرَ تخلّيه عن كل أحلامه ، عن حياته ، ترقّبه الموت كل لحظة،

 تذكّر وجودها في حياته فجأة ، كيف منحته حياة ، كيف علّمته الحياة ،مهّدت له الطريق و قالت ” سر” فسار و هرول و جرى ، دخل الانعطافات و المنحنيات و عَبَرَ الجسور و الأنهار ، أرتهُ عالمَها بسيطاً هادئاً رقراقاً، لا حلم لها و لا أمنية سوى رؤيته سعيداً ؛.يعرف ما يريد، كانت ذروة فرحها أن تراهم عارفين ، موقنين ، كاشفين أرواحهم و ذواتهم ،كانت تتركهم فقط عند النقطة الأولى .

إنّ وجعاً سميكاً صلداً يسكنهم أجمعين، ينهش قلوبهم و يُظلم أمام عيونهم ، لم يتخيلوا رحيلها أبداً ،  من منحتهم الحياة كيف تفقدها يوماً ؟!

لكّن الصوت السابح حوله لم يهدأ ، ذكّرته بما علمَتهم ، كيف ارتقت للدرجة التالية من سلم الوجود ؛ في انتظارهم يكتشفون معاً سراً جديداً يُلهم قلوبهم ، ذكّرته بإيمانهم أن الجسد لباس ضيق و أن العقل مساعد كسول . الروح دائمة ؛ غير مستقرة ؛ لا ترحل من عالم إلا لتعبر عالماً آخر ؛ لا تنتهي . فهي منه و إليه . ترتحل و تسمو و تهبط و تتأرجح دوماً ؛ و لن تستقر حتى يجتمع الكل .

تهفو أرواحهم على بعضها و تنساب في كل الكل ، حينها فقط تستقر أرواحهم روحاً واحدة منسابة في اتساعات الحب الحُلْم.

لم تكن قدماه تطيعان عقله حين اكتشف فجأة أنه امام  سرادق العزاء تماماً ، كانت قدماه تطيعان روحه ، يجب أن يودّعها بما يليق بها ، أيقظه صوت قاريء القرآن المتهادِ… زاد سكينته سكينة .

 

أبريل  2018

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون