الحس الصوفي في ديوان “لا أرى جسدي”

أحمد سويلم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد سويلم

كتب د. عمار على حسن يقول: بدأت مسيرتى الأدبية شاعرًا، فكتبت قصائد عدة فى أيام الصبا لم أسع إلى نشرها، وأخذتنى القصة القصيرة، ثم الرواية من الشعر.ثم يقول: هنا قصائد من (أغانى الصبا) نقلتها من ورق قديم ونقحتها دون إخلال بمضمونها كى تبقى ناطقة باسمى فى زمن جميل مضى يحرقنى الحنين إليه. ويذكرنى هذا الاعتراف بالشعر الناقض ت.س.إليوت الذى كان يراجع كتاباته مرات عديدة ويطلق على هذه العملية (المصارعة العنيفة مع الكلمات والمعانى). وسئل الشاعر الفرنسى بول فاليرى: لماذا تنشر قصيدتك (البحيرة) كل عام بتنقيح جديد.. فقال: أنا أصلح من نفسى. لهذا لم يكن غريبًا على صديقنا عمار على حسن أن يحن إلى صباه ويعيد النظر وينقح تلك النصوص التى أبدعها وأهملها طويلًا.. وأخرجها فى عمله الجديد (لا أرى جسدى)، حيث رآها تستحق النشر وتقدم إلى المتلقى. وأنا أقدر شجاعة صديقى التى جعلته يُقبل على هذه المغامرة.. فكم من المبدعين تنكّروا لأعمالهم الأولى، بحجة أنها لم تكن على المستوى الفنى المُرضى.. ونسوا عامل الزمن المتغير الذى يفرض علينا النظر إلى إنتاج المبدع فى إطار زمنه ومتغيرات العصر. المهم.. نحن الآن أمام نصوص شعرية.. لا نشعر معها باختلاف الزمن، فمن المؤكد أن صاحبها أقبل عليها ينقحها ويضيف ويحذف بما رآه ملائمًا لذوق العصر.. وهذه ميزة مهمة من ميزات هذه النصوص. وتكاد النصوص الاثنى عشر تشى بجانب كبير من سيرة صاحبها، وتلامس عوامل فكره وعاطفته ملامسة حقيقية. و(لا أرى جسدى) يعبر شعرا عن فترة عصيبة من حياته فيجىء التعبير مختلفًا رمزيًا.. فيه المجاز والخيال، وفيه رؤية تبتعد كثيرا عن السرد النثرى. ونتعرف أولاً على المبدع من خلال نصه الأول (لا أرى جسدى)، فهو قد علق روحه فى قاع المجرة.. وغاص بلذته فى البحر الذى تعانده الأشرعة المسافرة.. وحين يواجهه الموت يشده بجسارة من رموشه الثقيلة.. وهنا يشرق الوجود فى خجل وصمت.ثم يواصل المبدع رحلة بحثه عن ذاته: أسأل روحى محدقا فى عزلتى/ كيف تصير السيوف ريش حمام/ وكيف تعانق الفراشات اللهب/ وتصادق الريح السكون/ وتشرب البحار موجها الهادر/ وكيف يقلع السحاب عن الكذب.
إنه هنا لا يريد الواقع المعيش.. وإنما هو يتوق إلى واقع آخر يعكس كل القيم والإشراقات ويفيض بالصدق والعطاء والتحدى، لكنه حينما يستحضر كل هذا فى عزلته سرعان ما تهاجمه الأسئلة بأشواكها وتحيط كل أحلامه فيلوذ بالصمت. ومرة أخرى يحاول، لكن هذه المرة لا يكون عاقلا وإنما يجرب الجنون: أستعير جنونى لأبقى واقفاً أمامه كخيط دخان/ لكن نار الجنون تحرق ما تبقى من رمادى. ومرة ثالثة يلجأ إلى استنفار إحساسه بالغربة، لكنه أيضا يفاجأ بالغربة تسد عليه آفاق الخلاص: «لا أعرف من اغترب.. ومن اقترب».. وها هو يحاول أن يتجرد من طينته ويحسب أنه بذلك يضع الكون فى كفه.. وتنفتح أمامه كل الدروب المغلقة، لكنه أيضا يفاجأ بالمدى وقد تلون بالخوف وسرق منه ماء الحياة.. فيسرع إلى شيخه الذى تركه وحيدا من زمن.. فيبكى بين يديه بحرقة الصبابة… فيجيبه شيخه: (أنت نسيت الوصية)
ويفتش المريد فى طيات نفسه عن هذه الوصية ويظل حائرا فيجرع كأس الحيرة لعلها تطفئ ظمأه إلى المعرفة.. فيلجأ إلى الحب لعله يجد فيه خلاصة.. فلا يجد لدى محبوبته جوابا يبدد صقيعه القاسى حيث تقول له:
شوقك الذى يسيل فى هيام/ ودمك الذى يفيض مع الزمام/ ليس بوسعى السباحة فيه إلى غايتى/ وبلوغ المرام
وتزداد حيرته فلا شىء أمامه إذن إلا الانغماس فى الشوق والتجلى
هذه التجربة الروحية تنبئنا عن حس عميق يبدأ بالأسئلة وينتهى أيضا بالأسئلة.. ويؤكد أن أسئلة الحياة هى التى تدفعنا إلى تحمل الحياة وخوض غمارها.. حتى لو وصلنا إلى أفق التجلى فستظل الأسئلة كذلك أكثر إلحاحا على الروح المعذبة. وحتى فى نصوصه العاطفية نلاحظ هذا التوهج الروحى وهذه اللهفة التى تجذبه إلى عالم من الشوق والتجرد والاحتراق.. فهو يقول مثلا:
وطوق النجاة/ هو ذلك الهديل الرخيم/والصمت العميم/ الذى / يفصل بين شوقى وحرقتها/ وبين شوقها وحرقتى./ إن الكلمات هنا لا مكان لها فقد عجزت عن التعبير.. وصار الصمت والشوق والحرقة تروى ظمأه الطويل.. هكذا.
وفى نص (سنبلة) تتوالى المفردات التى تحمل الرموز الصوفية: (حبل مجدول – ظل يعارك النور – كأس يدور على السكارى – شهيق زفير – سرب يمام…). وكأن السنبلة هنا هى محور هذا العالم المملوء بالأسرار وهى الجاذبة لكل إشراقاته. ثم نطير معه فى (الطائرة) ونصاحب تأملاته وهو فوق السحاب فى فراغ ضائع تعبث به الريح والشمس والطيور المهاجرة وزخات السحاب الأسود.. ويظن ركاب الطائرة أنهم يتحكمون فى الهواء والكون.. هذا الوهم الذى يملأ رؤوسهم ويجعلهم بعيدين عن الحقيقة. ويبدو أن هذه التجربة الثرية الذى ينظر من خلالها إلى الحياة بواقعية ودونية جعلته زاهدا فى كل غنم.. معاندا من أجل خلاص روحه السابحة فى عوالم الشوق الأبدى. لهذا وجدنا نصه البديع (لا) الذى يرفض فيه ويتمرد على القيود والأغلال والسجون التى جربها وتذوق الموت خلف أسوارها: قطعوا لسانى/أثملوا عينى/دفعونى إلى سرداب طويل/ زرعوا الشوك فى طريق عودتى/ وسلمونى إلى العدم/ هذا جزاء من لم يقل لنا: نعم.
ويحكى تجربته بالتفصيل داخل أسوار السجن لكنه مع ذلك كله تمسك بالحرفين اللذين تمددا على اتساع الخلاء (لا). لقد هان عليه كل شىء.. جسده.. عذاباته.. آلامه المبرحة.. صرخاته أمام روحه المحلقة الصاعدة إلى سدرة التجلى. ويصرح بذلك فى (صرخة): أنا الآن الذى يتمنى أن يقول للشىء كن فيكون/لست إلها ولا نبيا ولا وليا ولا قديسا/ وإنما بشر فاته الزمن يريد أن يقطع المسافات التى هربت.
إن هذه النصوص الشعرية التى فاجأنا بها عمار على حسن تؤكد ما ينطوى عليه طاقته الإبداعية الشاعرية من نظرة تأمل عميقة للوجود وحياة البشر.
هنيئا بالصديق عمار على حسن على هذا العمل الجميل الذى أودعه مواجيده وتأملاته بصدق وقدرة على البوح.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم