الجنتلمان الذي يغني للجميلات

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

من الصعب أن أجد لذلك تفسيرًا ، لكن صديقي الأكثر اشراقاً صاحب الطلة الباسمة، صاحبي الأسمر و"الجنتلمان الحكيم" الذي يتغذى على هالات الجميلات ، غدت ملامحه تركن إلى الظل يومًا بعد يوم، حينها فقط  أدركت أن "نور" كانت قد وقعت فى حبه بينما أنا أذهب اليها كل صباح تعذبني هواجسي في أن أبوح لها بسري ، لا أعرف تحديداً كيف انجذبت "نور" إليه فجأة ، "نور" تخاف الظلام وحين كانت تسكن وحيدة فى الطابق الخامس المواجه  لشرفة بيتى ، كان عليّ أن أصعد معها كل مساء، أفتح لها الباب وأضيء النور، ثم أجلس خارج غرفتها حتى تنام وأطفئه من جديد وانطلق إلى حجرتي وحيداً، صحيح أنها تخاف الظلام لكنها كانت تصف لى دوماً كيف تشعر بالأمان بمجرد أن تجد نفسها وحيدة فى الظلام ، احياناً كنت اضطرب، هل كانت تبقى مستيقظة وقتما أظنها قد نامت كل يوم؟ هل يجب علي أن أذهب أم أبقى بقربها مدة أطول ولو أطول قليلاً.

 

نور كانت لى هى الجانبين الظل والضوء، بينما كان هو بلا ظل، فى الفترة الأخيرة تفرقت الجموع التى كانت تدفئ الجنتلمان الأسمر، سافرت الجميلات وظل هو وحيدا فى بستانه، لوقت طويل كنت أظنه بلا ملامح ، إذ أنه ما إن يقع فى الحب حتى يسترجع وهجه من جديد ، كان قد وقع أسيراً لمدة عامين متتاليين فى هالة “دلال” النارية المضيئة ، ودلال لم يكن اسمها بل هو الاسم الذي أتصوره لها دائما، دلال بيضاء وبضة بعيون سوداء وحواجب حادة ، هى تلك الأنثى المهيمنة المناسبة تمامًا لأن تكون نصف ظل صاحبي الأسمر، كنت معهما حين كان يغنى على ضوء هالتها بجوار النافذة المطلة على البحر فى الجانب الأيمن من المقهى، هناك حيث يجلس الجنتلمان وحوله الجميلات..  

لم يكن صاحبي من هؤلاء الذين يفصحون عن ذواتهم أو قد ترى حكاياتهم عبر عيونهم أو حتى كان يمكن لى أن اتحسسها فى صوته الدافئ حين يغنى، رغم ذلك ربما كانت أحاسيسه قد فاضت عن فرضية احتماله، حينما رأيته ينطفئ كان يغنى بشجن واضح

الخفه اللى شغلنى مهما يبعد عنى
أنواروه تخيلنى لو فى آخر الدنيا
أبو شامه وعلامه أبوطلعه بسامه
قلبى بيفرح ياما ياما لما يهل عليا

كنت نادراً ما أراه وحيداً، حتى ان الجميع كان يظنه ذلك الكائن النورانى السعيد المبتهج دائما إله الحكمة ولغز الاستمتاع بالحياة والغناء والمرح، حتى أنا كدت أقتنع بذلك حتى أدركت أنه أضعف من احتمال وحدته عندما تلاشت ملامحه واختفى حتى نصف ظله..

وحكى لى صاحبي وقتها فى نبرة لا تخلو من مرح كيف أن “دلال” انسحبت بهالتها المضيئة وتركته غارقاً فى الظلام حائراً بخطوات مشتتة، لم تفهم أن الجمال لديه هو الحياة هو النور الذى يرتكن إليه وهو الظل الذى يحتويه، “دلال” تلك الجميلة انزوت بهالتها بعيداً عن قلب الفتى عاشق الجمال، يروح ويجىء يدور حولهن جميعاً يغنى معهم ولهم يرى اللمعة فى عيونهم تضئ روحه قليلاً ثم يعود إلى ظلامه!

آه من يدرى أن صاحبي المغنى الاسمر الجنتلمان الحزين لا يملك الآن حتى نصف ظل ليتكئ عليه ، كيف غابت دلال ولماذا؟

قالت له ذات مرة ” ان لم تكن تغنى لى وحدى ستنطفئ الى الابد “

هل تكون “دلال” بهالتها وهيمنتها قد فعلتها اذن ؟

فهمت اللعبة التى يعيش على نتائجها الاسمر، يحب تأثير الجميلات وهى جميلة وأنثى ورائعة ، تستطيع أن تحتوى ظله وغناه وحتى عشقه للجمال والنور ، لكنها لا تفعل، “دلال” ذكية فهمت احتياجه وانسحبت لتفرض شروطها فى الوقت المناسب، فهل يستسلم الجنتلمان اليها ويركن الى الظلام؟

صاحبي لا يعمل ، بل يجلس هنا طويلا لأنه موهوب ، يغنى باستمتاع وهو الوحيد القادر على إقناعك بأن كل شئ يمضي كما تريد أيًا  كان ما يحدث، يستطيع باستمرار أن يجد سبيله للمرح والضحك، الحق أني أرى موهبته فى اللاشئ ، فى الطريقة التى يملأ بها فراغات الروح والاشياء ، موهبته هي أن يبدو عظيماً طوال الوقت ، ربما استطاعت “دلال” ان تخطف الوهج من ملامحه ، لم تكن من أولئك الذين يستسلمون فى المعارك خاصة معركة الامتلاك فمثلها بهالتها النورانية يعرف كيف يجذب ما يريد ، وهو ينطفئ يومًا بعد يوم، وأتعجب كيف يحافظ على طاقة العظمة وسحر غنائه حتى أنه يستعيد ببساطة مكانته بين الغرباء ويبنى كل لحظة جسرًا جديدًا بينه وبين الجماد والانسان والمقهى والكرسي، وحتى بيني أنا و”نور” !

“نور” التى اضطربت أمامها لسنوات، أذكر كيف أننى كنت أرتجل الكلام وأقرر أننى سأتغزل فى شعرها اليوم مثلا، سأرسم قلباً بقلمى على نهديها وهى نائمة!

أو سأنتظر قليلاً ثم أقبلها بالظبط قبل أن أطفئ نور الغرفة، أو أهديها خطابًا مطولًا اكشف فيه عن كل شئ ثم أنام طويلاً وربما أصحو من نومى خفيفاً فأقرر أني انتهيت منها تماما وأسافر ابتهاجاً بذلك الحدث !

ثم ينتهى بي الأمر دائماً إلى صمت تام أو كلام مطول عن صاحبي الجنتلمان الأسمر وحكاياته مع الجميلات، الحق اننى لم اكن احب صديقي هذا لكننى ويا للعجب اتحدث عنه كثيرًا، ليس ذلك فحسب بل أتحدث عنه مع نور!

وهى الأنثى التى من المفترض أن أحدثها عني  أنا ، أنا فحسب ، سأحاول الآن أن أوضح كل شئ، أتحدث عنه، يشغلنى بغرابته ، اندهشت لتأثير “دلال” على هالته المضيئة ، ثم رؤيته من جديد وهو كالبهلوان الضاحك يعيد كل الخيوط الى يديه، يشعل لمعان العيون بصوته الناعم ورقة ابتسامته ، تميل إحداهن إليه يدرك على الفور تأثيره يشتعل نوراً يمد جذوره فى الأرض من جديد وهكذا فى محاولات مستمرة لاكتمال قمره وضوئه..

هل كرهته؟

نعم بل بالطبع لابد أن أتخلى ولو قليلاً عن دبلوماسيتي المفرطة تلك وتسامحى المعتاد، أعنى نعم، رجل يحب حبيبتى ثم تحبه هي أيضًا، ثم يمضى بعيداً باحثا عن وهج جديد، ثم تضيع أنثاي أنا الرقيقة وتذوب وتنساب فى هالته حتى تشف من الحزن ثم تموت على مدار عامين فى بطئ شديد وهو لا يحرك ساكناً ، لابد وأني كرهته، وكرهت زيفه ومداراته لضعفه وإنكاره لغرابته، كرهت تعامله البسيط مع كل شئ ، تهليل الكل له لغنائه وضحكه ومرحه حيث لا يرى اى منهم ما اراه.

كيف ماتت انثاي ونصفى الاخر ؟

“نور” فى تسليم طيب ، تماماً كما سلمت انا فى صمت سلمت بكل شئ ، اكتفيت برؤيتها كل يوم وانا اضئ واطفئ الضوء بداخلى وفى غرفتها عدة مرات دون ان يحدث شئ ، حتى أن موتها لم يحدث فارقاً ، غير أن حبيبتي ماتت بطريقة دراماتيكية للغاية مما جعلنى أشعر بالاهانة !

نعم بالإهانة ، تركتها تغرم بالجنتلمان الأسمر وبغنائه ووهجه ثم ركنت انا فى صمت كعادتى شاعراً فقط بالاهانة !  نور ماتت وهى مغرمة بصاحبي ، تركتها تموت أمامه فى المقهى وأنا الان كل شعورى يترجمه عقلى بانه فقط شعور بالاهانة!

لعلى دائما اترك الامر الاكثر أهمية لاتحدث عن الهامشي ، لعلى كنت اشعر اننى بغير قيمة حقيقة ، لعلى انسبتُ انا الاخر فى هالة الاسمر ذبت به وآمنت بسحره الزائف حتى تبين لى اننى لا اتحدث الا عنه ، ولا ابكى من “الاهانة” الا فى حضرته ، لماذا اذن احافظ على انبهارى به وعقلى الاخر فى جهة اخرى من حيث لا اعى تماماً يراه مجرد بهلوان ، كيف لكى يا “نور” ان تغرمى ببهلوان ثم تموتين هكذا امامه وعلى ذراعى انا ثم تركنين الى الظلام الابدى!

يا “نور” يا ظلى الحزين كيف فعلتِ ذلك بي؟

قبل ان تفرط “نور” فى انفاسها الاخيرة طوعاً بالحزن او عجزاً عن العيش فى هالة ضوء الاسمر الشمسية القاتلة، كانت حين تفقده تجلس وحيدة تستمع إلى تسجيلات صوته ، ولانه دائما يستعرض عظمته ويتعايش على صورته الذهنية الخارقة فى عيون الاخرين ، اغواها غنائه يومها فبدت وكأنها تعويذة موتها ووداعها الاخير

يغنى الجنتلمان المغرم بالجميلات وبهالة العظمة التى يمنحها له الاخرين فى لمعان عيونهم  ، يغنى  الاسمر فتتسع الدائرة تضيق بي ويلتهب توهج قلبي مع دقات قلب نور التى تضعف اخيرا امام الحزن واللهب فتستسلم وتموت بين يدي ، تنادينى “نور” قبل احتراقها بقليل حتى اكاد اذوب معها .

تموت نور ولاينقطع غنائه ، غير بعيد تجلس الجميلات محدقين بابتسامته

البدر وأنواره من حسنه بيحتاروا
ولما يبان يداروا فى الرايحه وفى الجايه
ساعت لما بيظهر

وطريقه بينور
مش ممكن أتصور أبدا أبدا غيروا يأثر فيه

أبقى صامداً شاعراً بالاهانة ، يروح البلهوان الأخرق ويجئ وأنا اتأمله فى حقد صامت لعلى لازالت أختبر صمود هالتي أمامه أو أن جزءًا مني فى داخلي هناك بعيدًا ينتظر تحقق وعد “دلال” بأن يذبل ظل الأسمر وينطفئ تماماً، أعني أن ينطفئ إلى الأبد حتى لا أسمع آخر كلمات الأغنية التى أحرق غنائه لها كرامتى ووهج “نور” بداخلي إلى الأبد.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال