الجازية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

طارق جمال سالم

ها هي الحارة، عند نهاية هذه العطفة هي نفسها رغم مرور السنين تقبع كحد فاصل بين عالمين مختلفين عشت فيهما طفولتي.

 البيوت الطينية الدافئة استبدلت بأخرى إسمنتية مزخرفة، والأسفلت امتد إلى الأزقة فامتزج مع روث البهائم وتربة الأرض الزراعية مثلما امتزجت الحظائر والسيارات في شكل تمدن غريب، حيث تبيت السيارات الحديثة بجوار الطيور الداجنة لتحل محل الحمير والبغال والتي بدورها استوطنت عربات الكبدة وبعض المطاعم المنتشرة في أحياء المدن والتي تضاهي الزبائن عدداً.

عند هذه العطفة منذ زمن فقدت “نصف جنيه” عكفت على توفيره من مصروفي مدة أسبوع كامل، مما دفعني لقضاء عصرية في بحث مضن استرعى انتباه السيدة التي يقع بيتها بعد العطفة مباشرة، حيث دفعها الفضول من استغراقي في البحث وهيئتي غير المألوفة لتمد لي يد المساعدة لتروي ظمأها في معرفة أصلى وفصلي، فلما علمت أن أهلي الذين أزورهم كل شهر من حارة المغاورية وهم أناس بسطاء في حالهم ليس لهم كبير تخشى غضبته ولا أملاك ترفع من شأنهم، فتغير الترحاب إلى تجاهل ثم دفاع عن تهمة لم اصرح بها، سببها كثرة تدقيقي ومواصلتي للبحث في نفس الأماكن فأحالت الأمر إلى علام الغيوب وانبرت مدافعة عن كيان حارتها الذي لا يضيع فيه حبة من تراب.

كنت طفلاً مشاغبًا أتسرب من بين يدي أخي الذي يكبرني متجولاً في الأزقة الطينية الضيقة متحدياً تنبيهاته المتكررة، مرجحا ذلك لغيرته من اكتشافاتي الجديدة وخوفه الشديد من العقاب الذي سينتظره إن أصابني مكروه.

ازداد حرصه بعد إصابتي بجرح عميق أعلى حاجبي الأيمن كلفني أربع غرز جراحية وكلفه هو تأنيب الضمير لغفلته عني، أتذكر أنى بكيت يومها لما رأيت بقع الدماء على قميصه، وقد ظلت يداه القويتان ترتعشان بعد أن وضعني على سرير المركز الصحي، أخبرتهم بجدية أنى اشعر بالنعاس فتهلل وجه الطبيب لهذا التصريح والذي كان بمثابة طوق نجاة، فبارك رغبتي كغريب يطلب الإذن ليبات على فراشه. فيما بعد أخبروني أنها الغيبوبة وكنت صغيرا لافهم الفرق، فالطبيب الشاب والغير متمرس قطب لي الجرح من دون مسكنات للألم لعدم توفرها وكنت مسالماً له كفأر تجارب فلم أقلقه واستغرقت في نوم عميق، فلما أفقت وجدتني بين يدين صلبتين وابتسامه حنونه هي لجدي قطب المغاوري.

ظلت آثار ذلك الجرح أعلى حاجبي كتذكار مما دفعني لأختلق الأكاذيب بشأنها. تارة أحكي لزملائي بالمدرسة أنى كنت أمتطي ظهر جواد قوي فلما حملنا الريح سويا حلقنا في الفضاء وهوينا كنجمين من السماء، وتارة أتخيلني في وسط معركة مع جيراننا في حارة الحجازية وقد سقطت جريحاً في وسط المعركة بعد أن كبدتهم خسائر فادحة.

لم تثنني نظراتُ الناس عن مواصلة بحثي مما جعلني أقترب أكثر وأكثر من بيت ” الجازية “، كومة الأوراق المتجمعة أمام عتبة بيتها الطيني القديم شجعتني على الاقتراب أكثر فأكثر.

مرت خمس دقائق كاملة وانا مستغرق في خيالاتي الطفولية، كانت الجازية بمثابة أمنا الغولة عند أطفال الريف، وحش أسطوري نسجنا عنه القصص والحكايات، تارة يقولون إنها امرأة تعيش منذ مئات السنين شديدة الجمال من يراها يقع في حبها فتقتله بسحرها، وتارة يقولون إنها شيطانة لها شارب عظيم وشعر طويل مجعد وعينان تشعان كاللهيب، تخطف كل من يقترب من بابها الخشبي المكسور وتأكل لحمه نيئاً.

أعددت خطة محكمة لأقوم بالمهمة، تظاهرت أنني أزيل الأوراق التي أمام بيتها فإذا خرجت فإنها لن تؤذي شخص يقوم تنظيف مدخل بيتها، كنت أحمل الأوراق وأفتش فيها ثم أعود لأحمل كمية أخرى، في منتهى الخفة كي لا أحدث أي صوت قد يدفعها للخروج، بعد المحاولة الثالثة ظهرت لي كرة جديدة تقاذفها الأطفال فيما بينهم، فلما وقعت أمام بيت الجازية لم يجرؤا على استعادتها وتركوها كقربان علها تصفح عنهم.

كانت هذه الكرة بمثابة الجائزة لمغامرتي وخير تعويض لي عن النصف جنية الضائع، لذا وضعت نصب عيني تلك الكرة كغنيمة أعود بها في أسرع وقت.

انطلقت صوب الباب وعيني مثبتة على هدفي الجديد، لكن الباب الخشبي القديم فتح على ظلام دامس ابتلع الكرة كما يبتلع الثقب الأسود النجوم المتلألئة. علقت في فضاء فارغ أمعن النظر علني أجد وسط الظلام بقايا نور شحيح يدلني لمكان الكرة أو أعود بقصة تشهد على شجاعتي بلقاء الجازية.

هذه اللحظة الأولى التي واجهت فيها مخاوفي وتحديت فيها نفسي الصغيرة، أن أعود بشيء ولو بسيط ولا أعود صفر اليدين، مددت يدي الصغيرة وطرقت الباب وناديت في توجس: يا أهل الدار، لم يجبني أحد فازداد رعبي، فكررت ندائي مرة أخرى كعابر سبيل يبحث عمن يأويه أو يقدم له شربة ماء، جاء الرد بعيداً من الداخل وكأنه أتى من قعر بئر سحيق، تساءلت متوجسًا: أأدخل؟ وسبقتني قدمي إلى الأمام بينما يدي تفتح الباب على أخره. وقع بصري على ردهه صغيرة تتوسطها حصيرة مهترئة وكأنها بقايا أثار موتى كانوا يعيشون هنا، تهيأت للصراخ لأني كنت انتظر أشباحاً ستخرج من الغرفة التي يأتي منها صوت أقدام تتحرك ببطء نحو الردهة.

فتشت سريعاً عن مكان الكرة حتى ألتقطها وأهرب، تحركت قدمي ببطء وأنا أنادي بصوت يملأه الرجاء: حد هنا بالدار؟

جاءني الرد بنبرة غاضبة: مين أنت؟

قلت بتردد: كرتي في الدار …

قالت بنفاذ صبر: تدخل دارنا وتكذب؟

قلت مرتعبًا: والله لا أكذب كنت ألعب ووقعت في دارك سامحيني.

فتجلت أمامي امرأة بعباءة بيضاء وشعر أسود طويل كورته حول فاهها كالبرقع كي لا أرى وجهها كاملاً، وقفت مشدوهاً لما رأيتها على عكس ما كنت أتوقعه، خيل إليّ أنها ابتسمت لبلاهتي، لكنها قالت وهي تشيح بنظرها عني: قول لربك يسامحك.

تساءلت برعب: أأدخل وأخذها؟

فمالت بعينها تشير نحو الكرة كأنها تأذن لي، تقدمت ببطء إلى أخر الردهة ووقعت عيني على الغرفة التي خرجت منها فلمحت ظل عجوز نحيلة تجلس على طرف السرير وتنظر نحو الفراغ. عندما أمسكت الكرة صرخت العجوز وأخذت تنادي بصوت مبحوح: يا جازية … مين الولد؟

التقطت الكرة وعدت مسرعاً نحو الباب والمرأة العجوز لا تزال تنادي بغضب، حتى ما إن وصلت إلى خارج الدار درت بسرعة ناحية الجازية التي كانت تتابعني بعينيها السوداويتان وهي تكتم ابتسامة تكاد تظهر من تحت شعرها المكور على وجهها.

سألتها بصرامة: أنتِ الجازية؟  قالت هازئة: تريد ترى الشارب لتتأكد؟ تساءلت مستنكراً: أي شارب؟  قالت: ها هو … ورفعت يدها فأسدل شعرها الأسود الطويل عن وجهها الأبيض المستدير فبصرت شفتين حمراوين كحبتي كرز وأنف صغير مرسوم ببراعة وأسنان كحبات اللؤلؤ فاكتمل وجهها لي كالبدر التمام. أصابتني خيبة أمل فصحت مذهولاً: أين الشارب؟ فانهارا حاجبيها كزورقين يغرقان في بحر هائج وسقطت حبتي الكرز من فوق شفتاها على الأرض وهي تقول بغضب: ستجده عند أمك.

 

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

الحرمان