محمود عبد الهادي
كان معظم رجال القرية جالسين في المقهى الوحيد بها يشربون الشاي ويدخنون الشيشة في تلذذ ونهم فترة العصاري، حين توقفت أمامهم سيارة ربع نقل تحمل ما تبقى من أثاث وفرش الجارة الجديدة التي اشترت البيت المقابل للمقهى وانتقلت إليه هي وأمها العجوز منذ يومين، أخذ العتالون يفرغون حمولة السيارة ويدخلونها حوش المنزل تتابعهم عيون الرجال على المقهى بعد أن وجدوها تسلية لا بأس بها تنقذهم من الملل ولربما يتمكنوا من رؤية الجارة الجديدة من فرجة الباب أو نافذة الدور العلوي حتى يتبينوا ما قيل عنها بأنها أجمل امرأة جاءت قريتهم بعد زاهية ذات العيون الزرقاء والثدي العملاق التي تتبعها أخاها من قرية إلى أخرى حتى قتلها في قريتهم بعد أن عشقت نصف رجال البلد في ذلك الزمان.
كان البيت صغيرا مكونا من طابقين، بُني بالطوب اللبن والعروق الخشبية وطليت واجهته باللون الأخضر الذي كلح وعششت في جدرانه السحالي والأبراص بعد أن أهمله ورثة فؤاد الفران الذي مات هو وزوجته بعد أكلة فسيخ فاسد في العيد. وظل البيت مهجورا زمنا طويلا حتى لم يجد الورثة مفرا من بيعه لغريب عن قريتهم لأن لا أحد من أهل البلد يحبذ أن يشتري أو يسكن في بيت مات به رجل وامرأته في ثاني أيام زواجهم.
انتهي العتالون من نقل الأثاث وتعلقوا في مؤخرة السيارة بعد أن أُغلق باب البيت، وانطلقت السيارة مسرعة مخلفة وراءها الغبار والأتربة ولعنات الرجال والمعلم ربيع صاحب المقهى الذي قال في عصبية “داهية تاخدكم” وسحب نفسا طويلا من الشيشة ثم زعق: الولعة يا زفت.
وكالعادة التي لازمتهم من سنوات طويلة بعد أن تخلو المقهى من الزبائن ويُدخل الصبي الكراسي وينهي عمله ويذهب، يجلس المعلم ربيع مع صديقه محمد البنهاوي تاجر البطيخ أمام القهوة يدخنون الحشيش حتى آذان الفجر. وحين دارت الجوزة عليهم قال المعلم ربيع وهو ينفث دخانه تجاه منزل الجارة الجديدة: سمعت الحكاية؟
قال البنهاوي وهو يتناول الجوزة من المعلم: سمعت الزبائن بتتكلم.
-من يوم ما سكنت البيت واحنا مش ملاحقين على زبائن القهوة اللي بيقعدوا اليوم بطوله عشان يشوفوها.
-وبيشوفوها؟
-ولا حد لمحها حتى، أنت عارف بلدنا يحبوا يعملوا من الحبة قبة.
-قالوا أن كل اللي يشوفها نفسه تتسد عن مراته وعن ستات الدنيا كلها وميبقاش عاوز غيرها.
-كله كلام.
كان الوقت قبيل الفجر عندما قام محمد البنهاوي وودع صديقه وذهب، قام المعلم ربيع بإدخال الكرسيين وأغلق باب المقهى وهو يدندن ببعض الأغاني الخليعة ويشعر مثل كل ليلة يقيم فيها مجلسه هذا بأنه أقوى الرجال وأكثرهم فحولة ويذهب مسرعًا إلى فراش زوجته ليثبت ذلك، وحين كان يمر بجوار منزل الجارة الجديدة أثناء عودته لمنزله سمع صوت خشخشة فوق سطحها، فعاد خطوتين إلى الوراء ليرى بشكل أفضل ماذا هناك.
****
ذهب محمد البنهاوي إلى بيت المعلم ربيع بعدما أخبره الصبي في المقهى أنه لم يغادر منزله منذ ثلاثة أيام، وهناك استقبله المعلم بوجه شاحب ونفس خابية، حكى له ما حدث وكيف رأى يومها فوق السطح امرأة فاتنة ترتدي قميص نوم شفاف لا يستر شيئا ويكشف عن أجمل ما رأت عينه في حياته، وكيف كان وجهها ينبض بالحياة والجمال والفتنة.
قال: كانت تبص لبعيد وبعدين تضحكلي، بعدين راحت لفت ونزلت من السطح. ومن يومها وأنا صابني اللي صابني.
سمعه محمد البنهاوي حتى انتهى، ثم اعترف له أنه رآها في الليلة التالية لمجلسهم وأصابه ما أصاب المعلم ربيع أيضًا، وبأن الكلام يسري كالنار في الهشيم في البلد.
وفي الأيام التالية طاف الكثير من رجال القرية على الشيوخ والدجالين بالقرى المجاورة -شيوخ قريتهم أصابهم نفس المرض- يطلبون منهم العون والعلاج حتى يعودا مع زوجاتهم كما سبق، وازدهرت دكاكين العطارين في القرية الذين يبيعون شتى الزيوت والخلطات، لكن لم يفلح معهم الشيوخ والدجالين ولا نفعتهم خلطات أمهر العطارين. تذمرت النساء من حالة رجالهن ولم يتحملن ذلك كثيرا، فأصبحت حالات الطلاق شبه يومية، وأصبح رجال القرية جميعا يسيرون منكسي الرأس يطاردهم الخزي والعار بعد أن شاعت أخبارهم في القرى المجاورة وقيل إن القرية “بقت كلها نسوان”.
ولكن لم يطل ذلك الحال كثيرا، استفزهم ما قيل في حقهم، خرجوا بعد صلاة إحدى الجُمع متجهين إلى منزل الجارة الجديدة، عاقدين العزم على طردها من قريتهم. تجمعوا أمام المنزل، الجميع يعشقها ويرغب بها والجميع يُظهر أنه يبغضها وأنهم سيفتكون بها حين يروها، نادوا محذرين ثلاث مرات أن تخرج هي وأمها وتغادر القرية وإلا سيقتحمون البيت، لم يستجيبوا، الرجال يحطمون الباب وصورتها الفاتنة لا تغادر مخيلتهم، وكلما زادت رغبتهم بها زاد عنفهم حتى خلعوا الباب واندفعوا داخل الحوش يصيحون رغبة وغضبا. وحين وقفوا في وسط الحوش لم يجدوا سوى التراب والفئران والعناكب التي تعشش في أركان البيت.