عبد النور مزين
أن تلتقي بشاعر بقامة محمود درويش الشعرية، هو شيء لا يتأتى لأي كان لاعتبارات متعددة لعل أهمها عمق الأثر الذي أحدثته التجربة الشعرية لمحمود درويش في الشعرية العربية المعاصرة في أبعادها الجمالية وفي ارتباطها بالأبعاد الوجودية لمحمود درويش وللإنسان الفلسطيني خصوصا، والعربي على وجه العموم.
هذا العمق الذي لا يوازيه إلا عمق الجرح الفلسطيني النازف في الوعي الفلسطيني وفي والروح الفلسطينية التي لا زالت تقاوم بكل ما أوتيت من خنادق ومتاريس شعرية في مواجهة الاحتلال.
محمود درويش كان وسيبقى اللغم الشعري المتفجر في وجه المحتل العابر في الكلام العابر.
محمود درويش كان وسيبقى اللغم الشعري العابر، لمعالم الزمن الفلسطيني.
العابر، أفقا واسعا، للحلم الفلسطيني.
العابر درعا أخيرا في وجه آلة النسيان والعدم.
أن تلتقي ولو مرة واحدة بشاعر باسق يحمل في أبعاده كل هذه المعاني والمحاط بهذا الكم المهول من الحب من كل جماهير الشعر العربية والعالمية هو أن تلقي بنفسك عرضة لكل إشعاع القصيدة. ولأي إشعاع، ولأي قصيدة.
هذا ما خلتني كنت عليه وقد فعل درويش، ونجع فيه إلى أبعد مدى، وهو ينشر فينا روح الصرخة الجميلة و المدوية كي تبقى عربون التصدي لآلة النسيان والعدم لأدوات الاحتلال العديدة.
وها نحن، ما نزال وما تزال قصيدة درويش درسا و صرخة ضد الغياب.
ليس غريبا على هذا الذي خبر الشعر يافعا هناك على مشارف النكبة والشتات
ليس غريبا على هذا الذي خبر معنى الحرية ومعنى السجن والسجان، وهو هناك في قلاع الشتات ودروب التيه يزرع القصيدة مشاتل للعودة والحرية.
صرخة ضد الموت والنسيان
لحنا للحياة وسؤالا للهوية والإنسان.
يحضن القصيدة ويغني للقضية
ينظمها ويهديها عربون حب لقضيتنا جميعا
للقضية الفلسطينية.
ليس غريبا على هذا الذي سار في طرق الشتات الطويلة محاولا زرع نبتة جديدة لتكون مشتلا أو برعما لا بد أن يتفتح يوما ما ويطل نجمة أخرى في أفق الحرية.
ليس غريبا أن يصاب بكل جماليات المقاومة في ألغام محمود درويش الشعرية وأن يتعرض لكل إشعاعات القصيدة الضاجة بالحياة.
نكاية في إرادة النسيان وزراعة العدم
وضدا لكل أشكال اللاحق القادم من الغياب.
هكذا كان محمود درويش وكما أراد لنفسه الشعرية أن تكون.
“مقابل التدمير في الزمن العام، كان علي أن أرمم الحلقات المتقطعة في زمني الشعري وزمني الشخصي”
كان ترميم النفس الفلسطينية وترميم الزمن الفلسطيني فعلا مقاوما بامتياز.
“علي أن أحمي لغتي من السقوط وعلي أن أحمي ذاكرتي “
هكذا يتحول الاشتغال اليومي على تطوير شكل اللغة وشكل القصيدة إلى فعل مقاومة،
كي لا تسقط اللغة
كي تُحمى الذاكرة.
كيف لا والشاعر الملتحم بعمق كينونته الفلسطينية، الرابض في عمق الجرح الفلسطيني يجعله أقرب إلى استشراف آفاق المقاومة الروحية المضادة لأنساق الهزيمة والانكسار عبر كسر جدران العزلة والنسيان والعدم بفتح نوافذ جديدة مشرعة على الحلم وضد كل أشكال التغييب.
“أحد تعريفات الشعر الكثيرة تقول أن الشعر رؤيا”
وبرغم كل السمو في تجربة محمود درويش الشعرية ورياديتها فقد كان دائم القلق والتساؤل حول طرق التجديد الشعري في تجربته عبر الإنصات إلى نبض المتلقي في أفق التطوير المستمر في صياغة جماليات القصيدة شكلا ومعنى.
هكذا كانت صرخة القصيدة كصدى للروح وكهزة من تلك الهزات الارتدادية التي نمت بفعل الزلزلة التي أحدثتها وما تزال تحدثها التجربة الشعرية لمحمود درويش في جمالية الشعرية العربية وفي أدوار القصيدة العربية الجديدة.
كانت صرخة القصيدة كألغام لغوية مضادة لآلات النسيان والعدم.
إشعاعات جمالية عابرة للهزيمة العربية ، للزمن الفلسطيني والروح الفلسطينية .
إنها بالفعل ألغام شعرية لا تقل فتكا بالعدو عن أي سلاح آخر في خنادق الجبهة.
رحمك الله يا محمود درويش، وأنت حي فينا تماما كإشعاع عابر للزمن.
……………….
* روائي مغربي