أصيل شرقيّات!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إيمان مرسال

دخلتُ دار شرقيات للمرّة الأولى في بدايات ١٩٩٥، رأيتُ ورقاً كان قد وصل لتوّه من سمرقند، ومختَلف أنواع المِداد والسنون والمقالم والمساطر والأصباغ التي أحمرها أحمر وأخضرها أخضر. وقابلت صاحب المكان في هذا اليوم، الورّاق الذي وصف ابن خلدون مهنته بأنها "من أمهات الصنائع الشريفة". هذا حقاً ما أذكره عن ذلك اليوم. في الزيارات التالية سأنتبه لأناقة ونشاط حسني سليمان العائد حديثاً بعد ما يقرب من عقدين في أوربا. حولي أرفف الخشب الداكنة تلمع بنظافتها، وجمال أغلفة محيي الدين اللباد، وأصص الزرع والموسيقى الخافتة، وداخلي امتنان لما قرأته بالفعل من إصدارات الدار التي كانت ثورة حقيقية في خلق سياق جديد للكتَاب العربيّ. الـ"سياق" الذي خلقته شرقيات هو ما ربطني بها ككاتبة وكقارئة، وجعلني أفخر بالتعاون معها في نشر قصائدي على مدى أكثر من عشرين عاماً.

شهدتُ شرقيات في منعطفات كثيرة من الانطلاق، والمغامرة، والازدهار، والـ”تعسّر”. يستخدم حسني سليمان كلمة “تعسّر” عندما يصف مسيرة حلمه مع صناعة الكتاب، وقد يعني بها التعثّر الاقتصادي أو التوزيعي أو الإعلامي، ولكني أفهمها عادة بأنها اضطراب المعطيات التي أعطت لشرقيات القدرة على خلق سياق ثقافي ــــــ لم أعرف دار نشر أخرى حقّقته أو طمحت إليه. أعرف أن كلمة “معطيات” غامضة ولكن ربما ينجلي معناها في السطور التالية.

إذا كنتَ قارئاً مخلصاً في بداية التسعينيات، فسيكون أمامك نتاج الهيئة العامة للكتاب ودار المعارف ودار الشروق ومدبولي. ولسبب غامض، اجتمعت هذه المؤسسات – إلا فيما ندر – على اختلاف مشاربها بين المال العام والخاص وكتبها بين المُخزّن وسريع التسويق على عدم المغامرة بنشر الكتابة الجديدة أو التورّط في النقاش الدائر حولها خلال تلك اللحظة. فلم يكن أيّ منها يقدم على نشر رواية إن لم يكن كاتبها معروفاً ومُكرّساً أو كانت الرواية تُناقِش قضية مضمونة (أو كما يقولون؛ تغوص في الواقع الاجتماعي بكل تفاصيله!)، ولم تكن لتنشر لشاعر أصغر من خمسين سنة إن لم تكن قصيدته تقلّد القصيدة العربية في الخمسينيات. كان السبعينيون قد أصدروا دواوينهم الأولى ووزّعوها بعيداً عن هذه المؤسسات. أغلقت دار الغد لصاحبها الشاعر وعضو حركة حدتّو السابق كمال عبد الحليم بابها الكبير في شارع ٢٦ يوليو في ١٩٩٢بعد تقديمها لبعض الأصوات الجديدة بالإضافة لبعض الكتب الهامة عن تاريخ الشيوعية والسوريالية. ظهرت الدار المصرية اللبنانية ومكتبة الدار العربية للكتاب منذ النصف الثاني من الثمانينيات، وظهرت “دار عين” المتخصصة في البحوث الإنسانية والاجتماعية على يد مجموعة من الأكاديميين في منطقة الهرم، ولفتت دار سينا بشارع القصر العيني الاهتمام بأسئلتها الإيديولوجية ذات المنحى اليساري عن الإسلام والتراث والتاريخ والسلطة والمرأة، وببعض إصداراتها بالغة الأهمية مثل ترجمة بشير السباعي لكتاب تزفتان تودروف “فتح أمريكا” في ٩٢. أعلن حسين مهران رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة في مؤتمر أدباء الأقاليم في أسوان عام ٩٠ عن إصدار مجلّة الثقافة الجديدة وسلاسل أدبية، وهو ما سيؤتي ثماره على يد إبراهيم أصلان ومحمد البساطي وإبراهيم عبد المجيد بعد عدة سنوات. بدأ جابر عصفور في نشر مقالاته عن التنوير في مجلة إبداع، ثم بدأ عمله في المجلس الأعلى للثقافة بسلاسل من الكتب والمؤتمرات. في ٩٣ظهرت جريدة جديدة اسمها “أخبار الأدب” ستفتح صفحاتها للكتّاب الشباب على يد جمال الغيطاني، كما بدأ مشروع مكتبة الأسرة بعد ذلك بعام.

إذا كنتَ قارئاً جاداً، فستجد بعض ما يهمّك في إصدارات هذه الدور والسلاسل والمجلات بالتأكيد، أما إذا كنتَ تبحث عن أصوات جديدة في القصة والرواية، أو مهووساً بالشعر، فستكون محظوظاً بمعرفتك بقاريء كثير الأسفار يقرضك الترجمات الجيدة لروايات حديثة، أو ستقوم بتصوير دواوين سركون بولص ووديع سعادة ممن يمتلكها، وستنتظر زيارة عباس بيضون بدعوة من المجلس الاعلى للثقافة ليحضر معه بعض دواوين الشباب، وستشتري في معرض الكتاب أشهر الشعراء من دور لبنانية ومغربية، ودواوين أخرى غالية الثمن لشعراء رديئين ولكن لهم أسماء تسبقهم ثم تعضّ أصابع الندم.

في هذه الخريطة التي أرسمها من وجهة نظري كقارئة، كانت هناك معضلة أكبر أواجهها مع كتّاب جيلي ممن لا يرون في معظم المنافذ السابق ذكرها السياق المناسب لنشر أعمالهم، إما لرداءة ما تحتفي به من شعر، أو لنوعية البشر المشرفين عليها، أو لأغلفتها القبيحة وأخطائها اللغوية، أو ببساطة لاستحالة قبولها لقصائد مجرّسة ما زالت تُنشر في مجلات هامشية مشبوهة. وبينما كان يُفكّر بعض أصدقائي مثل أحمد يماني وياسر عبد اللطيف في بداية ١٩٩٥ في إصدار كتبهم الأولى على حسابهم الخاصّ، قررت أن أقدّم ديواني “ممرّ معتم يصلح لتعلم الرقص” لدار شرقيات، كانت الدار ببساطة تُمثّل هذا “السياق” الغامض الذي أريد أن يخرج عملي من خلاله.

منذ تجربتي الأولى في التعاون معه، لم يكن حسني سليمان مجرّد ناشر يهتم بقيمة ما يُقدمه وكيف يقدمه بأقصى درجات الدقة والجمال وحسب، بل كان قارئاً له ذائقته التي تربّت منذ الطفولة ثم صقلها عمله في المكتبات في أوربا وشغفه بالبحث في تاريخ صناعة الكتب. على مدى شهرين بين تسليمي مسودة “ممر معتم” ليقرأها وبين صدورها في يونيه ١٩٩٥، قرأ حسني معظم القصائد لكل من مرّ بالدار، ما زال يدهشني هذا الحماس والمغامرة من جانبه. هذا ما سيقوم به معي مرّات، يُرحّب بي ويُقدّم القهوة في واحد من تلك الأكواب الزجاجية الصغيرة (لا أعرف من أين كان يأتي بنفس النوع من الأكواب كلّما تكسّر السابق عليها)، ويبتسم بفخر قبل أن يقول: “تحبي تسمعي؟” ثم يجلس ويقرأ لي قصيدة من ديوان أو فقرة من كتاب يُجهّزه للنشر، وينتظر انطباعي بلهفة من يتبنى ويحب ويتورط فيما يريد أن يقدمه للناس. هذا لا يعني أن حسني سليمان لم يصدر مع السنوات كتباً لم يتحمس لها، ولكنه كان فاشلاً في تبنيها بعد إصدارها. ومؤكد أن الكثيرين رأوه وهو يقنع زائراً عابراً بألا يشتري منه هذا الكتاب أو ذاك لأنه ليس ممتعاً في القراءة.

في يوم من أيام مايو ١٩٩٥، كنت أراجع للمرّة الأخيرة ديوان “ممر معتم” مع حسني. كان هناك بالطبع ذلك الخليط من السعادة والخوف والتوتر وكأنني لا أصدق أن الكتاب يمكن أن يصدر قريباً من هذه الدار. دخل علينا رجل في الستينيات من عمره، كان وسيماً وأنيقاً كأنه هبط بالصدفة من مجرّة أخرى إلى وسط المدينة. سألنا بمنتهى الرصانة: “أنا بدوّر على كتاب عن الطيور في مصر، ولفّيت كل المكتبات وما لقيتش ولا كتاب لغاية ما دلّني عامل في مدبولي على عنوانكم”. أصرّ حسني أن يجلس الرجل، وسأله يشرب شاي ولا قهوة، وأصبح متحمساً وكأن طائراً حقيقيّاً خرج له من درج المكتب. لا شك أنني تمنّيت ألا يستمر هذا الحوار طويلاً فأنا أريد أن أنتهي من المراجعة. بدأ حسني يُحدّث الزائر عن كتاب رائع نشره أحد الباشوات الرحّالة في الأربعينيّات وأنه الكتاب الوحيد الذي يعرفه في هذا الموضوع وسيبحث عنه ويحضره له من البيت، وأنه سعيد سعادة حقيقيّة لأن هناك من يريد كتاباً عن الطيور في مصر. اعتذر الرجل برقّة لأنه سيعود مساء نفس اليوم إلى البرازيل التي يعيش فيها منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

لسنوات كنت تدخل إلى ذلك الشارع الهادئ المتفرّع من هدى شعراوي، فيتبرّع أحد العُمّال في محل مجاور بالقول “الأستاذ فوق”، أو “الأستاذ في مشوار وراجع بعد نصف ساعة”. ظل لغزاً بالنسبة لي كيف يعرف العاملون أنك تقصد شرقيات وليس مكتب نبيل الهلالي مثلاً في الشقة المقابلة، أو عادل السيوي في نفس المبنى أو لزيارة غامضة أو عائلية. في النصف الثاني من التسعينيّات كان حسني مليئاً بالحماس، يفتح باب الدار في الثامنة صباحاً ويُغادر في الخامسة، لم أره أبداً خارج مكتبه، لم أجلس معه في مقهى، ولم أقابله بالصدفة في شارع. قد تجد سمية رمضان تُراجع مجموعتها القصصية “خشب ونحاس”، وائل رجب وأحمد غريب يتابعان “داخل نقطة هوائية”، المترجم العظيم محمد أبو العطا يتحدّث عن رغبته في ترجمة خوليو كورتاثار. قد تسمع ضحكات مي التلمساني ومصطفى ذكري ومنتصر القفاش وأنت تصعد السلالم، أو هدى حسين وأنت تهبطها، وقد تجد حسني وحيداً ومنهمكاً في القراءة فيخبرك بفرح عظيم عمّا قاله زائر جاء خصيصاً ليسأل عن كتابك، أو أن حظّك وحش لأن عادل عصمت كان هنا بالأمس أو أن علاء خالد غادر الدار منذ دقائق. إخلاص حسني سليمان وحضور هؤلاء الأفراد وغيرهم بكتاباتهم وأفكارهم واختياراتهم داخل مشروعه جعل من دار شرقيات ذلك السياق الذي يمكنك أن تنتمي إليه في قلب القاهرة الكئيب.

يتغيّر العالم كثيراً في حياتنا القصيرة، تم ترجمة كتب معظم من غامر حسني بالنشر لهم في التسعينيات وأنا منهم، ولكنه لم يحصل أبداً على حقوقه لأنه لم يجهّز الأوراق اللازمة لذلك. عندما تسأله لماذا لا توزّع هذه المكتبة أو تلك كتب الدار، يقول لك أنا أعطيهم ما يطلبونه فقط. يفاجئك بأنه أصدر طبعة جديدة من كتاب لك، وتسأله لماذا لم تفرّحني بهذا الخبر الذي لم يسمع عنه أحد، فيقول “حبيت أعملها مفاجأة لما تيجي”. تطوّرت طرق توزيع االكتاب العربيّ كثيراً في السنوات الأخيرة، ظهرت دور نشر جديدة تألف التكنولوجيا وتستطيع أن تروّج لكتبها على السوشيال ميديا وتشجع على القراءة. في نفس الوقت يكون عليك أن تذهب إلى دار شرقيات قبل الثانية ظهراً للحصول على أحد كتبها، وقد تجد بابها مغلقاً، ولن يخبرك أحد في الشارع أين ذهب الأستاذ.

هناك دور نشر تشبه المؤسسات التجارية، لها خطوط إنتاج، فيها عاملون كثر، ولها توزيع جيد نسبيّاً، ويمكن أن تستمر بعد تقاعد مؤسسيها، ولكنها لا تخلو من فوضى وغرور وأوهام وبيروقراطية إدارتها الضخمة، والأكثر من ذلك، أنها تجعلك تسأل نفسك إذا كان هناك فرق بين نشر الكتب وتجارة قطع غيار السيارات، إنها دور لا تصلح للشعر في كل الأحوال. تعاملت مع دور أخرى مثل دار الغد ودار شرقيات والكتب خان؛ دار نشر الشخص الواحد التي تستمر بحلم وطاقة صاحبها إلى حين، تولد وتكبر وتزدهر ويلتف حولها آخرون وقد تتعسر أو تشيخ أو تختفي. إنها دورة الحياة التي لا مناص منها. لكن سيظل ما يفرق دار نشر عن أخرى، ناشر عن آخر، تلك القدرة على خلق سياق لتبادل الأفكار، لاكتشاف أصوات جديدة، لدعم الكتابة الجميلة أينما كانت، وتقديمها بكل ما يستطيعه من دقة وعناية. بالنسبة لي، سيظل لحسني سليمان فوق كل ذلك حبه للشعر بشكل خاص، ذلك الحب الذي جعله يقدم لنا أصواتاً مميزة ومدهشة حتى ٢٠١٧.

رغم حسرتي العميقة على مكان أصبح جزءاً هاماً من عملي ومن تاريخي الشخصيّ، أفهم تماماً أن تغلق دار شرقيات أبوابها. لقد انتهى السياق الذي خلقته، وعلينا أن نمتن لكل الجمال الذي قدمته لنا كقراء وككتاب. لقد استمرت شرقيات خلال السنوات الماضية بإخلاص حسني سليمان فقط، وأعتقد أنها حققت الكثير مما حلم به، إلا حلم واحد كثيراً ما عبر عنه؛ أن يطبع موسوعات ملونة ومتقنة عن الطيور والنباتات.

…………….

*نقلا عن مجلة روزاليوسف

مقالات من نفس القسم