التسعون رواية لــ سمير قسيمي

التسعون رواية لــ سمير قسيمي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كانت رحلة العودة، بكل احتمالات التأخير الممكنة، لا تستغرق أكثر من ساعتين ونصف الساعة، أي أنه كان في كل الأحوال يصل منزله قبل نشرة أخبار الثامنة أو معها على أقصى حد. أما وقد تأخر عن قطار الخامسة والنصف، فإن عليه أن يعيد حساباته كلها.

جميع حساباته انتهت عند يقين أنه لن يصل قبل التاسعة ليلا، وأن رحلة عودته التي تكلفه عادة مائة وعشرة دنانير، ستكلفه، على أقل تقدير، سبعمائة.

في لحظة ندم غير أكيد، وضع حسان ربيعي رأسه بين يديه وقد أدرك كيف للحظة انتباه واحدة أن تجعله يغير كل خططه. كان يكفي أن يسمح لسؤال المرأة ذات العينين الحادتين بتخطي حدود تجاهله لتنقلب حياته كلها.

"لم يعد الأمر مهما.. ما حدث قد حدث.".

سلَّى نفسه وهو ينظر إلى شاشة هاتفه ليقرأ الساعة. لم تمض إلا دقيقتان منذ جلوسه على مقعده. لقد كان عليه أن يجتهد ويجد طريقة يقضي بها الوقت المتبقي.

كان من عادته إذا استقل القطار أن يشغل وقته بقراءة كتاب. هذا الشهر شرع في مطالعة رواية ميودراك بولاتوفيتش "رجال بأربع أصابع"، ولم تعد تفصله عن النهاية إلا ثلاثون صفحة. كان يدرك وهو يفكر في طريقة لقتل الوقت المتبقي، أن الصفحات المتبقية من روايته لن تمكنه من قتل إلا ساعة من الزمن. لن يجازف بقراءتها الآن، لأنه لو فعل لوجد نفسه مضطرا أن يجلس لاحقا في القطار، وسط الغاشي، يستمع إلى ترهاتهم.

وإذ ذاك. فكر حسان ربيعي لو أنه يشرع في قراءة ما اعتاد على حمله في محفظته من جرائد. فقد كان كلما هم بمغادرة مكان عمله، في قسم الودائع في الطابق التحتي بمبنى البريد المركزي، يعرج على مكتب الأمانات ويستولي، خلسة، على كل ما تقع عليه يداه من جرائد.

في أسوأ الأوقات كان يجمع عشرة عناوين، وفي أحسنها عشرين. أما اليوم فلم يجمع سوى سبعة عشر عنوانا، ثلاثا بالفرنسية والبقية بالعربية. هكذا إذا جفاه النوم، وهذه عادته، يجد ما يجهد به عينيه حتى ينام.

كانت تلك وظيفة الجرائد في نظره، ولعله رأفة بزوجته كان يضيف إليها وظيفة أخرى كلما احتاجت لشيء تمسح به المرايا أو الأثاث، أو حين كانت ترغب في تنظيف السمك، خاصة السردين.

"إذن فلها وظيفة ثالثة!".

همس لنفسه ويده اليمنى تتسلل إلى جيب جاكيته الكشمير الرمادية، لتخرج منه بسيجارة وضعها بين شفتيه العريضتين، وحين اطمأن على موقعها منهما، في الزاوية اليمنى بالضبط، أشعلها وأخذ نفسا عميقا جعله يسعل على مرتين، وبحركة هادئة فتح محفظته وأخرج منها رزمة الجرائد ووضعها على حجره.

من مكانها هذا، لم يستطع حسان ربيعي التمييز بينها ليختار البدء بأكثرها شهرة.

ابتسم وهو يدرك صعوبة التمييز بين جرائد لا تميز فيها، وإذ ذاك بدأ يتصفحها واحدة واحدة.

كانت جميعها تتحدث عن وطن رائع مزدهر، عن شعب لا يقسم إلا برأس رئيسه، عن رئيس لا هم له إلا إسعاد شعبه. جميعها تتحدث عن نسب النمو المرتفعة وعن البطالة التي لم تعد إلا ذكرى وعن المشاريع العظيمة التي ستجعل البلاد في المقدمة.

للحظة فكر أنه أخطأ وحمل معه نسخا كثيرة لجريدة واحدة، ولكنه سرعان ما تذكر السبب الذي جعله يتوقف عن قراءة الصحافة، حين انتبه، في غفلة وذات يوم، ما أصبحت تثيره في نفسه تلك الجملة السخيفة تحت عنوان كل جريدة "يومية مستقلة". لم تعد فكرة الحرية تثير في نفسه إلا المزيد من الضحك.

ولمرة أخيرة ابتسم لنفسه وهو يعيد تلك الجرائد إلى محفظته. لقد كان يعلم كم ستكون زوجته سعيدة به هذه الليلة وهو يدخل عليها بكل ذلك الورق الرخيص، وكأنه اعتراف غير معلن لها بعبقريتها حين اكتشفت أن لكل تلك الجرائد وظيفة أخرى غير الطمأنة والتخدير.

لعله لحظتها أسف لاستنتاجاته تلك، ولكنه، وهذا أمر مؤكد، لم يحزن ولم يسع حتى ليتدبر في الأمر، فلم يكن له من همّ، حينئذ، إلا أن يجد طريقة أخرى لقتل الوقت المتبقي عن موعد القطار القادم، فقد أدرك حين نظر إلى شاشة هاتفه النقال مرة أخرى، أن كل تلك الجرائد على اختلاف عناوينها ولغاتها ومقراتها ورؤوس أموالها وعدد سحبها، لم تستطع أن تقتل سوى خمس دقائق من وقت الانتظار.

 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 تصدر قريبًا عن دار روافد 

مقالات من نفس القسم