حسني حسن
بمعجزة، استطاعت البلدة القديمة محاصرة الطاعون، الذي ضربها لأسابيع وشهور عصيبة، راحت فيها البيوت والحقول، الوديان والجبال، الأزهار والأحجار، تئن وتتوجع وتموت.
وكما هبط شبح الفناء والهلاك على دروبها، المتعرجة الضيقة، ليسدَ سبل الخروج والدخول على أبناء البلدة، في غفلة من عيونهم التي كانت قد بهرها بريق مواسم الحصاد الوافرة وذهب الحنطة والسنبلات المتخمة الثخينة، فقد أخذت شمس اليوم الجديد تضئ ظلمات القبور البيتية، فتبعث الأحياء من رقاد الموت ورعب ارتقابه ومقدمه المحتم الوشيك، وها هي ريح الغرب تهب وتذرو رماد الجثث المحروقة باتجاه النهر العظيم، حيث يستقر ما تبقى من العدم بقاعه الغائر بغير قرار.
وفيما راحت تتعالى، من بعيد، بخفوت متردد غير مصدق، وبأطلال رهبة تكافح ضد ارتعابها الذاتي، وقوقات الدجاجات، خوار البقرات، صيحات الصبية ومشاغباتهم، ضحكات الصبايا الخجلى المرتعشة بفورات الدم الساخن النابض في عروقهن الشابة، فقد بدأت النسوة أولاً، وكما يحدث دائماً، بتشميرهن عن سواعدهن لرفع الحطام، وكنس الدور والأحواش ودروب البلدة، وجلب المياه من شاطئ النهر القريب لرشه هنا وهناك، ثم بإشعال البخور، بروائحه الزكية، في محاولة عنيدة لطرد روائح الموت العالقة بالجدران وبالوجدان، بالملابس وبالهلاوس. أمَا رجالهن، فقد بقوا على صدمتهم، لأجل أطول من النساء، حتى اضطروا، بالأخير، لنفض ذهولهم ورعبهم عن أرواحهم وذاكراتهم، والسير مجدداً باتجاه الحقول البور المهمَلة.
قبل شروق شمس ذلك الصباح الجديد، كان البوذا قد استيقظ من غفوته، الليلية القصيرة، تحت شجرة التين العجوز القابعة وحيدة عند أعلى النهر. ابتسم البوذا لنجم النهار، المضئ الدافئ، مباركاً نشوره واهب الحياة، قبل أن يسترسل في أفكاره، الباطنية الغامضة، ويعتصم بصمته المعهود.
دقائق معدودات، ثم فتح المستنير عينيه المغمضتين ليتابع حركة إفاقة تلميذه وتابعه الشاب، الذي راح يتمطى بكسل، ثم فجأة ينتفض قائماً لينضو عنه ثياب النوم اللذيذ والأحلام، السرية المحرمة، التي لا تليق براهب واعد يأمل بالسير على طريق القداسة، حتى وإن اتسقت، تماماً، مع فوران دمه الفتي!
– إنها ساعة الاستيقاظ يا أناندا.
همس البوذا، بحنان أبوي، في محاولة صادقة للتخفيف من صدمة اليقظة على تابعه الشاب.
– هل أطلتُ النوم، ثانية، أيها المعلم؟
سأل أناندا بصوته الممتلئ، فيما راح يتشاغل بنض فراشه، الصوفي الخشن، الذي يرقد عليه، وطيه.
– لقد انحسر الوباء أخيراً، وها هم يعاودون الرجوع إلى سابق عهدهم يا عزيزي أناندا.
لسبب ما بقي غامضاً محزناً ومؤرقاً، بالنسبة له، ميَز الشاب رنة صوت لا مبالية، بل ومتعالية، في كلمات معلمه، الأمر الذي ودَ لو يسأله عنه، من دون أن يجرؤ على ذلك. كانا، وبأوامر صارمة وصامتة صادرة عن المستنير له، قد انخرطا بقوة، طول الليالي والأيام السابقة، في جهود إغاثة وتطبيب واحتواء كارثة البلدة، حتى كادا يسقطان من فرط التعب والسهر. وبينما واصل أناندا انغماسه في كل ما ينهض به من مهام، بتفانٍ كلي وبحرقة، فقد لاحظ شيخه وهو ينهض بذات الأعمال بتفانٍ كامل وتجرد بارد معاً، فغامر بسؤاله عما لاحظه.
– كن دوماً معهم يا أناندا، ولا تكن أبداً منهم يا صديقي.
– هل هذا ما تعلمني إياه أيها المبجل؟
– بل هذا ما سوف يدفعونك، هم أنفسهم، دفعاً لتتعلمه أيها الشاب.
لمح الراهب المبتدئ، في تلك اللحظة، افترار ثغر الصبية، الحنطية البشرة، التي كان يصب في فم أبيها العجوز ترياقه الشافي، الذي علمه الجوتاما طريقة تحضيره، وأحس بشئ يخفق في صدره، ففكر ما إذا كان ذلك قلبه!
– كذلك ستتعلم ذات يوم، يا قريني الصغير، درس أن تخجل من دمك.
– أتريدني أن أخجل من دمي أيها المعلم؟
– آهِ لو تعلم ما أريده لك يا صغيري! لا أكثر من ألا تريد، لا أكثر من ذلك أبداً.
عندما نهض البوذا من جلسته التي أحسها وقد طالت كثيراً، كان تلميذه قد انتهى، بدوره، من الاغتسال في ماء النهر الجاري ليعود منتعشاً نظيفاً. من بعيد، تناهى إلى سمعهما أصوات غناء خافتة، تطلع من الحقول الطينية السوداء، مع صرير المحاريث الحديدية التي أخذت تشق بطن الأرض، لتمهد لها تحقق الوعد بالخصوبة المرتجاة. أحس أناندا بروحه تهفو إلى هناك، وفغمت أنفه، بغتة، روائح الحياة.
– هذا يوم العمل والأمل أيها الجليل الخالد.
– لمن يا قريني الشاب؟
– ولماذا لا تفترض أنهم قد وعوا درس المحنة، أيها المبجل، فصاروا غيرهم؟
حدَق المستنير في عيني تلميذه الأثير طويلاً، وآثر، على عادته، اختيار الصمت جواباً عن سؤال لا يستفهم، وإنما يتمنى. ولأنه البوذا، فقد خبر مثل تلك الأمنيات، مراراً وتكراراً، حد تمني انقطاع كل تمني.
– قد تتعلم درسي معهم، كما قلت لك، يا أناندا، وقد أتعلم درسي بذهابك إليهم يا أناندا!
– إذاً أيها المقدس؟
حط صمت، طويل ثقيل، من النهر حتى الحقول. ولمَا أسبل جوتاما الساكياموني جفنيه فوق عينيه ليبحر في الفراغ، أدرك أناندا أن اللحظة المرتقبة قد حانت، أخيراً وبرغم كل شئ. نهض بخفة ورشاقة تليقان بشاب لا يرغب، حقيقة، في الخجل من دمه، وانحنى على رأس معلمه الغافي، ليطبع قبلة سريعة فوق جبهته العريضة، ثم رحل، شاقاً طريقه نحو الغيطان، من دون أن يفكر، مرَة، في الالتفات إلى الوراء.