البصمة الشعرية لـ رفعت سلام

محمد عبد المطلب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد عبد المطلب

[ 1 ]

هذا شاعر تنطبق عليه المقولة التراثية: “الحديث ذو شجون”؛ لأن لقائي به في بداية تسعينيات القرن الماضي كان بواسطة الدكتور عزالدين إسماعيل، رئيس الجمعية المصرية للنقد الأدبي. وكان لهذه الجمعية ندوة نقدية كل يوم أحد، بمقر جمعية الفنون الجميلة بجاردن سيتي. وقد هاتفني عارضًا عليَّ مناقشة ديوان الشاعر رفعت سلام: (إشراقات رفعت سلام) في الندوة القادمة. لكنه ألحق بهذا العرض قوله: «إنك سوف تناقش شاعرًا لم يتمرد على الشعرية العربية جملةً، بل تمرد على شعرية جيله أيضًا. وهو برغم تمرده على أولئك وهؤلاء، هو امتداد لهم على نحوٍ من الأنحاء».

وما إن قرأت الديوان القراءة الأولى، حتى أدركت دقة مقولة عزالدين إسماعيل. فهو شعرية مغايرة، وتجربة مفارقة لما سبق أن قرأته من شعرية دواوين نازك الملائكة، والسياب، والبياتي، وأدونيس، وسعدي يوسف، وصلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي. وكان الظن أن هذا الديوان هو قمة المغامرة التجريبية لشعرية رفعت سلام. لكن خاب الظن؛ إذ إن كل ديوان له كان يمثل مغامرة جديدة، أي أنه في حاجة إلى قراءة جديدة بتقنيات مغايرة. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أقرأ فيها شعرًا لا يقدم لغةً محملةً بالدلالة الجمالية بهدف التوصيل؛ وإنما هو شعر يقدم اللغة ذاتها بوصفها المستهدَف الأصيل.

وللمرة الأولى أجد شاعرًا يقدم (القبيح)، ثم يصعد به إلى أفق الجمالي، ويقدم المستَهلَك ليصعد به إلى أفق النادر الغريب. ثم هو – قبل هذا وذاك – (شعرٌ حمَّال أوجه)، تتناسل معانيه، دون أن يكون لها نهاية تتوقف عندها؛ أو لنقل إنها معانٍ بلا نهاية محققة.

 [ 2 ]

وأنا اليوم أعيد النظر في مدونة هذا الشاعر، بعد مرور ما يقرب من رُبع قرن على لقائي الأول بشعره. ولا أظن أنني سوف أعيد تجربتي النقدية معه؛ فقد بلغ مرحلة عمرية وإبداعية تجلسه في القمة الشعرية لشعراء الحداثة؛ إذ إن السياق بحاجة إلى التأمل في هذه المدونة للإمساك بالبصمة الشعرية لهذا الشاعر، الذي أخذ مكانته المتفردة بين شعراء جيله، وبين شعراء العربية عامةً. والمقصود بالبصمة هنا: المكونات والتقنيات التي وظفها الشاعر في إنتاج شعريته توظيفًا يلتصق به، وينم عنه؛ حتى إن القارئ يدرك صاحب القصيدة دون أن يكون اسمه مدونًا عليها.

وفي مقدمة هذه المكونات التي أراها خصيصةً في شعرية رفعت سلام، هي خروجه اللازم على مَا سبقه أو زامنه من شعر؛ إذ إن الشعرية العربية تأنف من المألوف والمبتذل، وتتجافَى عن المحفوظ المكرور صياغيًّا ودلاليًّا. وإذ برفعت سلام يستحضر هذا وذاك، بل إنه يوغل في استخدامهما؛ لكنه يخلصهما من هذه الألفة، ويصعد بهما صعودًا يثير الدهشة إلى أفق الشعرية غير المسبوقة.

يقول الشاعر: فِي العُلبَةِ سِيجَارَةٌ وَحِيدَةٌ وَلاَ كِبرِيتهَل أُعلِنُ حَالَةَ الطَّوَارِئأَصوَاتٌ تَصعَدُ الجِدَارشُعَرَاءٌ وَقَصَّاصُونَ وَنُقَّادٌ ينَامُونَ عَلَى الرُّفُوفِ يَتَغَطُّونَ بِالغُبَار[1]

هذه الدفقة مفعمة بالمفردات المتداولة، بل المبتذلة: (العلبة – السيجارة – الكبريت – حالة الطوارئ – أصوات – شعراء – قصاصون – نقاد – رفوف). لكن الإبداع يصنع من هذه المفردات سبيكة تركيبية من طراز خاص بشعرية رفعت سلام، حتى إن القارئ يظن أن هذا هو الاستعمال الأول لهذه المفردات.

 [ 3 ]

المكوِّن الثاني من مكونات البصمة يكاد يكون امتدادًا للمكوِّن الأول؛ إذ إن استخدام الشاعر للغته كان بمثابة العودة بهذه اللغة إلى طفولتها المبكرة، عندما كان المتكلم الأول يظن أن (الاسم هو المسمَّى)؛ فكلمة (الشجرة) لا تستحضر صورة الشجرة في ذهنه، وإنما تستحضر الشجرة ذاتها إلى العيان؛ أي إن لغته هي لغة أسطورية لا تصور العالم، وإنما تنتج عالمها الخاص. هي لغة ترى الوجود كله من ممتلكاتها الخاصة. ومن ثم، يصبح من حق مستعملها أن يبتكر لشعريته معجمًا خاصًّا به.. يقول سلام:

فَهَل يَكُونُ لِي أَن أُسَمِّي الأُفْقَ ثَوْبًا ضَيِّقًا وَالكِتَابَةَ وَرْطَةً وَالدَّوْلَةَ سِيرْكًا مِنَ الحُوَاةِ وَالقَتَلَةِ وَالانتِخَابَاتِ مَلهَاةً وَالسُّكُونَ سِكِّينًا وَالجَرَائِدَ جَيْشًا مِنَ الدَّاعِرَاتِ وَالنَّدَوَاتِ فِنجَانًا فَاتِرًا مِنَ الخُوَاءِ لِي أَن أُسَمِّي اللَّيْلَ تِرْيَاقًا أَلِيفًا وَالنَّهَارَ مَفَازَةً وَالشِّعْرَ شَرَكًا شَائِكًا[2]

وكثيرًا ما تردد في ديوان رفعت سلام: (لِي أَن أُسَمِّي) حفاظًا على حقه الشرعي في ابتكار معجمه اللغوي الخاص.

 [ 4 ]

ثم يأتي المكوِّن الثالث في هذه البصمة، لتُدخل شعرية رفعت سلام في نسق (شعرية المفارقة)، سواء أكانت هذه المفارقة مفارقة لغوية في التضاد والتخالف، أم كانت مفارقة الأحوال التي تنقل الشعرية إلى ما يشبه (طقس الاعتراف)، أم مفارقة موقفية، وهي التي تحيل الواقع إلى مشهد كلي، تتصادم مفرداته في نسق درامي كثيف. وكثيرًا ما واجهتنا – في مدونة رفعت سلام – هذه المفارقات، وبخاصة مفارقة الاعتراف الشعري: ” – أَنَا القَاتِلُ البَرِيءأَنَا الخَائِفُ الجَرِيءأَنَا الفَاتِنُ الدَّنِيءأَنَا الأَبَدِيَّةُ الفَانِيَة[3].

فهذه الأبنية الموغلة في المفارقة تنقل القاتل إلى عالم البراءة، وتنقل الخائف إلى عالم الجراءة، وتنقل الفاتن إلى عالم الدناءة، وتنقل الأبدية إلى عالم الفناء.

وتطول المفارقة الموقفية رؤية العالم. يقول الشاعر:

رَأَيْتُ تَحْتَ الشَّمْسِ أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ لِلخَفِيفِ وَالحَرْبَ لَيْسَت لِلقَوِيِّ وَالخُبْزَ لَيْسَ لِلحَكِيمِ وَلاَ الغِنَى لِلفَهِيمِ وَلاَ النِّعْمَةَ لِلعَارِفِ[4].

[ 5 ]

ثم يأتي المكوِّن الرابع الذي يحيل ديوان رفعت سلام إلى محل صالح لاستقبال ثقافة العالم، بكل محتوياتها الأسطورية والشعبية والدينية والتاريخية والأدبية والفنية. فشعرية الديوان تعلو على الفردية والجماعية والقومية والوطنية، لترتفع إلى الأفق الإنساني الرحب، وكأنها بشارة بـ(العالم القرية)؛ ذلك أن كل الثقافات حاضرة في الديوان باستلهامها تارةً، وحضور أصحابها بأصواتهم تارةً، أو حضورهم بأنفسهم تارةً ثالثة. ومن ثم اعتمد الديوان اعتمادًا كثيفًا على (الاقتباس والتناص والاستدعاء). ويمكن أن نتابع هذا الحضور الإنساني في مثل قول الشاعر:

“فَأَيْنَ أَنتَ يَا طَرْفَة يَا نِيرُودَا يَا بُوشْكِين يَا سَعْدِي يُوسُف يَا بِيتهُوفِين يَاأَصْلاَنُ يَارِيتسُوس يَادِيسْتُويفْسِكِي يَاتشَايْكُوفْسِكِي يَامَايَاكُوفسِكِي يَارَامبُـو”[5]

وبرغم هذا التضخم الثقافي الذي يتيح للذات تضخمًا موازيًا، نلحظ أن هذه الذات كثيرًا ما تدخل دائرة الضعف، ثم العجز عن مواجهة الواقع بكل كثافته التدميرية؛ ومن ثم تلجأ إلى محاولة امتلاك قدرات غير بشرية لتتمكن من المواجهة، كامتلاك قدرات موسَى عليه السلام:

“هَكَذَا يَا سَادَتِي الكِرَامُ، ضَرَبتُ البَحرَ بِعَصَاي، فَانشَقَّ طَرِيقٌ مَرَقتُ فِيه إِلَى الضِّفَّةِ الأُخرَى”[6].

 [ 6 ]

أما المكوِّن الخامس في هذه البصمة فيتمثل – على نحوٍ مطلق – في المدونة كلها، معلنًا أن شعريتها هي شعرية المغامرة التجريبية المستمرة. ولا نقصد بالمغامرة والتجريب هنا ما تم التعارف عليه في الانتقال من بنية شكلية إلى بنية مغايرة، كالانتقال من العمودية إلى التفعيلية، أو الانتقال من التفعيلية إلى قصيدة النثر؛ وإنما المقصود الانتقال من سياق ثقافي إلى سياق ثقافي آخر، كالحركة الشعرية في ظل الإسلام للخروج من السياق الجاهلي، أو حركة الرومانسيين للخروج من السياق الإحيائي. وبرغم ذلك، فمن الممكن القول إن معظم شعراء العربية حاضرون في ديوان رفعت سلام، منذ امرئ القيس إلى صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، بأصواتهم تارةً، وبأفكارهم تارةً، وبشخوصهم تارةً ثالثة. ويطول بنا الأمر لو رحنا نقدم النماذج الشعرية الدالة على هذه الخصيصة في البصمة الشعرية لهذا الشاعر؛ وإنما أذكر نموذجًا من النماذج التي تكررت على نحو لافت في الديوان، مثل استدعاء (تميم بن مقبل)، في قوله:

“يَا لَيتَنِي حَجَرُ.

تَخطُو الفُصُولُ علَى جِسمِي،

وَتَنحَدِرُ”[7].

 [ 7 ]

ويأتي المكوِّن السادس، وهو ما يمكن النظر إليه بوصفه المكوِّن الأول؛ لأنه الذي يعلن صراحةً عن أن شعرية رفعت سلام شعريةٌ موغلة في انتمائها إليه؛ أو لنقُل: هي شعريته الذاتية في طبيعتها المباشرة وغير المباشرة. وكان المؤشر الصياغي على هذا المكوِّن هو سيطرة (ضمير المتكلم) سيطرةً شبه مطلقة في الديوان. وربما كان هذا التردد إضافةً إلى ما سبق أن ذكرناه عن إحساس الذات بالعجز أحيانًا في مواجهتها للواقع، ومحاولتها امتلاك قدرات مجاوزة. يقول الشاعر:

“أخرِقُ الأرضَ وَأبلُغُ الجِبَالَ أقُولُ لِلمَوجِ: كُن فَيَكُونَ”[8]

ففي هذا السطر الشعري، يتردد ضمير المتكلم (أنا) ثلاث مرات. ففي كل مرة، يقول الشاعر (أنا) الذي أخرق الأرض، (أنا) الذي أبلغ الجبال، (أنا) الذي أقول.

وفي ديوان (هكذا قلت للهاوية)، يتردد هذا الضمير على نحو كثيف: (أنَا سَيِّدُ الهَبَاءأَنَا الوَلِيمَةُ الدَّائِمَةأَنَا القَاتِلُ البَرِيءأَنَا الخَائِفُ الجَرِيءأَنَا الفَاتِنُ الدَّنِيءأَنَا وَردَةُ النُّحَاسأَنَا النَّبِيُّ الرَّجِيمأَنَا الآبِقُ الكَلِيمأَنَا البَهلَوَانُ اللَّئِيمأَنَا سَيِّدُ الغَاشِيَة).

وقد يتدخل المنهج الإحصائي في توثيق هذا المكوِّن؛ إذ إن ضمير المتكلم قد تردد في ديوان (هكذا قلتُ للهاوية) ترددًا لافتًا يبلغ ضميرًا واحدًا لكل سطر تقريبًا. ويتناقص هذا التردد في ديوان (إنها تومئ لي) ليبلغ ضميرًا واحدًا لكل سطرين تقريبًا؛ ثم يزداد التناقص في ديوان (وردة الفوضى الجميلة) ليبلغ ضميرًا واحدًا لكل ثلاثة أسطر تقريبًا، لكنه يصعد إلى قمة التردد في (إشراقات رفعت سلام)، إذ يكاد يكون حاضرًا في كل جملة شعرية.

 [ 8 ]

إن هذه المكونات التي عرضنا لها تمثل المساحة الأكبر في البصمة الشعرية لهذا الشاعر الذي أصبح واحدًا من فحول شعرية الحداثة. لكن هناك مكونات أخرى لا تقل أهميةً عنها، ولا تتسع هذه المساحة المحدودة لتناولها؛ ولكن يمكن الإشارة إليها إجمالًا في: (العتمة المضيئة، وثنائية الأنثى بين القبول والرفض، والتضخم الجسدي، والبنية الكتابية الشكلية) وغيرها من المكونات التي تحتاج إلى دراسة مستقلة.

 …………………………….

[1] رفعت سلام: هكذا قلتُ للهاوية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993: 66.

[2]رفعت سلام: إشراقات رفعت سلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992: 23.

[3]هكذا قلتُ للهاوية: 57، 59.

[4]إشراقات رفعت سلام: 30.

[5]السابق: 64.

[6] رفعت سلام: حجر يطفو على الماء، دار الدار للنشر والتوزيع، القاهرة 2006: 40.

[7]إشراقات رفعت سلام: 27.

[8]حجر يطفو على الماء: 29.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم