الباشا عميد في المخابرات

alaa aldeen saad gawees
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علاء الدين سعد جاويش

  ظهر الغضب على محياها الجميل، وكنتُ أرجو قضاء وقت ممتع بأقل التكاليف؛ خشية من الإسراف في بداية الحياة، وقاومت غضبها المكبوت يوماً، ثم يوماً آخر، وأخيراً قررتُ التخفيفَ عنها، والسفر لمكان بعيد وبشكل مفاجئ؛ ليكون السفر ممتعاً، ففي بداية الحياة الزوجية تعشق المرأة من زوجها المفاجآت السعيدة وخاصة السفر والفسح.

  تحدثتُ إلى صديقي في مدينة العريش، وطلبتُ منه حجز مكان مناسب لي وزوجتي عدة أيام، هنأني على الزواج، وأخبرني أنه يشرف على مجموعة شاليهات في العريش تطل على البحر مباشرة، وأنه ينتظرني في أي وقت لقضاء عدة أيام كضيف عنده.

  رحبت بالفكرة، وعرضت عليها السفر إلى مدينة العريش، جهزت الحقائب في سرعة مدهشة، ذهبنا سريعاً إلى موقف السيارات وتحركنا من بلطيم إلى كفر الشيخ عقب صلاة الظهر مباشرة في الرابع من شهر أغسطس، ثم لما وصلنا كفر الشيخ لم نسترح، بل تحركنا في اتجاه طنطا، ومنها إلى الإسماعيلية، كان الليل قد أقبل، ولما وصلنا موقف السيارات التي سنستقلها إلى العريش لم نجد سيارات، فسألت بعض الوقوف عن العمل، فأشاروا عليَّ بالجلوس قليلاً في المقهى لحين وصول سيارة، حين دخلنا المقهى، جاء الساعي بطبقين ومع كل طبق ملعقة وشوكة وسكين ومناديل، ثم بعد قليل أحضر عدة ثمرات من المانجو الإسماعيلاوي الجميلة، أخرجها من الثلاجة إلينا مباشرة، تناولت منه اثنتين، أعطيتها واحدة، ووضعت في طبقي الأخرى، ونحن نضحك من الموقف، تناولنا الثمرتين ثم طلبت غيرهما، ولما انتهت منها نظرت إليَّ تستجدي المزيد، ولكنها تخشى من الأسعار التي قد تكون مرتفعة عن المعتاد، فطلبت لنا ثمرتين، وتوقفنا عند ذلك الحد لئلا تتأثر الكُلية بثمار المانجو ولولا ذلك لتناولت عشرات؛ من حلاوتها وتفردها بهذا الطعم منقطع النظير.

  أخذ حسابه غير المبالغ فيه، بل أدهشني ما طلبه نظير ست ثمرات من أطعم ثمار المانجو، ثم أشار إلى سيارة منزوية في ركن بعيد في الموقف، وقال: هذه السيارة تسافر إلى العريش.

  تحركت بنا السيارة بعد اختيار كل ركابها من المقهى، استغرقت السيارة ثلاث ساعات كاملة، كنا نمر فيها بقطع من الصحراء لا يوجد فيها ضوء سوى ضوء السيارة، وكان قلبها ينقبض وتحتضنني بقوة، ثم حين تلمح سيارات حولنا أو تقابلنا ينشرح صدرها.

  وصلنا شاليهات سنين بعد منتصف الليل، وضعنا حقائبنا في الشاليه، ثم خرجنا لنتناول العشاء في أقرب مطعم.

  ثم عدنا للتمشية على شاطئ البحر الرائع، نتنسم نسمات لا أجدها في الكثير من المصايف.

  ثم قضينا بقية الليل في حب وسعادة تليق بعروسين في بهجة وهناءة.

في الصباح الباكر خرجنا نستنشق عبير الصباح وتمشينا أكثر من كيلو على البحر، ثم عدنا لما أحسسنا بالجوع يقرصنا، سألت صديقي عن أكلات تميز العريش، لكنه أكد أن العريش لا يوجد بها أكلات مميزة، إلا أن الخدمة جيدة والأسعار معقولة، مدينة ساحلية وسياحية وقليلة السكان وأسعارها رخيصة رغم بُعدها عن العاصمة.

  قضينا خمسة أيام كاملة، تمتعنا بكل شيء فيها، وقمنا بالعديد من المغامرات الليلية والصباحية، وحين قررنا النزول إلى البحر فجراً لممارسة الحب وحدنا وسط الأمواج وجدنا مئات غيرنا فكروا نفس التفكير ففسدت تلك الفكرة.

  حين وصلنا موقف الإسماعيلية بحثاً عن سيارة لم نجد، انتظرنا مع الواقفين لأكثر من ساعة، وأخيراً جلبوا أتوبيس صغيراً ليحلَّ الأزمة، وجدت كرسيين فارغين لنا، كانت متعبة من قلة النوم في الأيام الماضية ومن كثرة المغامرات، فنامت، ولم أستطع النوم، وكان أمامي أمين شرطة يرتدي ملابسه الرسمية، وبجواره رجل أربعيني أسلم أذنيه لأمين الشرطة، الذي راح يقصُّ عليه كيف استطاع بمعجزة العمل في جهاز أمن الدولة، وأنه كان يظن أن هذا الجهاز له سلطات مطلقة، ولكنه فوجئ بنقله إلى العريش، وقلة الأجازات، وكثرة العمليات، وكان آخرها التي أصيب فيها منذ أسبوع وكادت ساقه أن تنكسر بسبب مطاردته أحد الفارين من العدالة.

  كان إنصاتي لحكاياته مسلياً لي عن طول الطريق، السيارة في الليل استغرقت ثلاث ساعات، والأتوبيس في النهار استغرق أربع ساعات حتى وصلنا الإسماعيلية، وقد وقفنا مدة طويلة عند مدخل كوبري السلام للتفتيش من قِبل الشرطة العسكرية، وهي نقطة تفتيش دقيقة للغاية، وقد علمت أن هناك عمليات تهريب كثيرة تتمُّ من العريش إلى مدن القناة، والمدهش أن التهريب لا يكون للمخدرات فقط بل لبعض البضائع الممنوعة.

  لما وصلنا موقف الإسماعيلية طلبت مني زوجتي شراء مانجو كثيرة، وقالت: لن أغادر الإسماعيلية قبل شراء قفص مانجو لذيذة، وكادت تقول لن أبرح المكان قبل الشراء.

فاعترضت عليها لأني لا أعرف أين تُباع المانجو، وكيف نمضي إليها بكل هذه الحقائب التي ثقلت لكثرة الشراء من العريش.

 وتلفتُّ حولي فوجدت أمين الشرطة يقف مع بعض السائقين ويوجه إليهم أوامرَ صارمة، فطلبت منها الالتزام بالهدوء التام، ثم اقتربت منه وقلت له: ألست أمين الشرطة محمد عاصم الجندي، المنقول حديثاً لمباحث أمن الدولة في العريش؟

حين قلت له ذلك، طرح ما هو فيه وتفرغ إليَّ تماماً، وكان طويلاً فارع الطول، ثم همس لي: حضرتك عميد في المخابرات؟

قلت له: لا تقل ذلك لأحد هنا، تعرف حساسية الموقف.

أبدى تفهماً شديداً، ثم سألني: حضرتك تؤمر بأي شيء؟

قلت له وأنا أشير ناحيتها: هي تريد شراء مانجو من الإسماعيلية، ومعنا حقائب كثيرة، فهل تساعدنا في ذلك؟

نادى على شيخ الموقف، وقال له: هذه الحقائب تخصُّ معالي الباشا، تقف جنبها حتى نعود، نعود وقتما نعود، لو تحركت من جنبها سيكون نهارك أسود.

  ثم نادى على سائق تاكسي تصادف مروره، وطلب منا الركوب، وأمره بالذهاب إلى السوق، وصلنا بعد عدة دقائق، كانت الشوارع خالية، ونظيفة، وجميلة، نزلنا من التاكسي بالقرب من أحد المحلات الكبيرة للفاكهة، هجمتْ على ثمرة مانجو كانت في بداية الفرش الخاص بالمانجو، خطفت الثمرة، وقشرتها بيدها، والتهمتها، لم يتحدث البائع لما وجد معنا أمين الشرطة، الذي وجه أمراً شديد اللهجة لسائق التاكسي أن ينتظرنا، أخذت كيساً ووضعت فيها خمسة كيلوات من أطايب المانجو، ثم كيساً آخر، وعند الحساب فوجئت بالأسعار الرخيصة، وكاد أمين الشرطة أن يفاصل مع البائع، لكني نهرته، كما أن زوجتي سطت على ثمرة تكاد تزن نصف كيلو، وذكرتها للبائع الذي أبدى تسامحاً ورفقاً.

  قبل أن نترك البائع همس في أذنه قائلاً: الباشا عميد في المخابرات.

عدنا لسائق التاكسي، الذي كان ينتظر متأففاً ليعود بثمن الرحلتين، فأخرجت نقوداً لأدفع له، وأنا أسأله: كم تريد يا أسطى؟ ولا تنس وقوفك لانتظارنا.

قال أمين الشرطة هامساً في أذنه بحيث نسمع جميعاً: الباشا عميد في المخابرات.

فقال السائق: معالي الباشا الركوب مع معاليك شرف كبير، وفخر سأحكيه لأحفادي، وحضرتك نورت سيارتي المتواضعة.

فقلت بعزم: ضروري تأخذ حسابك.

فقال: أرجوك لا تحرمني شرف توصيل معاليك، ولي عندكم رجاء أرجو أن تحققه لي.

فقلت له على الفور: خير؟

تردد قليلاً ثم نهره أمين الشرطة قائلاً: لا تضيع وقت الباشا، ولا تكثر من الكلام.

فقال السائق: كنت أتمنى الحصول على رقم معاليكم.

لاحظت أنه يسير ببطء، ويود لو تطول المسافة ليتحدث معي أكثر، فقلت له: سجل الرقم عندك.

أخرج هاتفه وسجل الرقم ثم رنَّ عليَّ، انتشى لما سمع رنين الهاتف، وقال: ممكن أكلم معاليك في أي وقت؟

قلت له: ممكن، لو لم أرد على الفور سأرد حين أنتهي مما عطلني.

شكرني بشدة وصمم ينزل بنفسه يحمل عني الأكياس إلى حيث وجدنا شيخ الموقف ينتظرنا.

سألني أمين الشرطة عن وجهتي فقلت له: طنطا.

فتلفت يميناً ويساراً ومشي عدة خطوات بالخطوة العسكرية، ثم أحضر سائقاً يماثله طولاً، وقال له أمامي: الباشا سيركب معك هو وزوجته، أريد أن تكون الرحلة إلى طنطا أجمل رحلة سافرتها في حياتك.

لم يهدده بالكلمات ولكن تعبيرات وجهه كانت حازمة وحاسمة وقاطعة وصارمة، ثم همس في أذنه: الباشا عميد في المخابرات.

  حمل الثلاثة الحقائب، ووضعوها في السيارة السبعة راكب، واختار بقية الركاب لا حقائب معهم حتى لا تزاحم شنطة السيارة، وركبنا في الكرسي الأخير، وودعنا أمين الشرطة الذي لم يستطع كتمان وظيفتي، وكان يهمس للجميع؛ ربما ليظهر نفوذه الشديد عليهم لاحقاً، ويتفاخر بمعرفته بكبار المسئولين.

  مضت السيارة في هدوء شديد، وطلب بعض الركاب تشغيل التسجيل، لكن السائق أجاب قائلاً: لما يؤمر معالي الباشا، حتى لا نزعجه.

   لم أنتبه للحوار، كانت زوجتي تتحدث عن روعة الرحلة وصفاء البحر، وكنت أعلم أنها ستجتر كافة الأحداث منذ خروجنا من البيت حتى تلك اللحظة، فأعطيتها أذني وانتباهي، ولم أنتبه للركاب ولا للسائق، حتى توقف السائق في مدينة الزقازيق وسألني: هل تريد احتساء شيئاً من القهوة؟

شكرته وقلت له: تناولوا ما تريدون لكن أرجوك لا تتأخر، فعندي أعمال مهمة في طنطا.

  نزلت الركاب إلى المقهى، وعاد السائق بعد قليل بكوبين من العصير، وصمم أن نشربهما على حسابه الخاص، وكان عامل القهوة معه، ولما رفضت تناول المشروبات، صمم وهو يتضاءل أمامي، فرضخت لطلبه، ثم أعطى الكوبين للعامل وهو يهمس في أذنه قائلاً: الباشا عميد في المخابرات.

  فابتسم العامل وعاد أدراجه، فهمت أن السائق لم ولن يدفع له شيئاً، ثم جلس السائق في السيارة ونادى على الركاب، واستعجلهم، ولم يشأ استخدام آلة التنبيه لئلا يزعجني.

  حين بدأت الركاب جمع الأجرة، تأخرتُ قليلاً، ثم نقدته ورقة نقدية فئة المائة جنيهاً، أعادها لي مرة أخرى، وأبدى رغبة شديدة في عدم أخذ الأجرة، ولكني قلت بحزم: إذا لم تأخذ الأجرة ستكون آخر مرة تركب فيها هذه السيارة.

وبعد قليل قلت: وخذ أجرة الحقائب أيضاً.

فقال بهدوء: وهل المسافر يسافر بلا حقائب؟ الأجرة على النفر بحقائبه.

لم أشأ الدخول معه في جدال، وبعد قليل همس لمن بجانبه: الباشا عميد في المخابرات.

فسكت الجميع، ولم يتحدث أحد مطلقاً بقية الطريق من الزقازيق إلى طنطا، وحين وصلنا طنطا، بحث عن تاكسي يقلنا حيث نشاء، ونزل بنفسه وحمل الحقائب إلى التاكسي وهو يهمس في أذن السائق قائلاً: الباشا عميد في المخابرات.

  شكرته وركبنا التاكسي، سألني السائق وكان كبيراً في السن عن وجهتي: فقلت له: نريد الذهاب للمسجد الأحمدي لشراء حلويات، ثم الذهاب للموقف.

  حين انتهينا إلى الموقف، نزل الرجل المسن وحمل جميع الأشياء بنفسه، وهو يهمس في أذن السائق التالي قائلاً: الباشا عميد في المخابرات، فلقيت نفس المعاملة السابقة، حتى وصلنا البيت، فأخرجت زوجتي المانجو وأهملت بقية الحقائب، وما اشتريناه من العريش، وقالت سأسطو على تلك المانجو وحدي.

فاعترضت قائلاً: كيف تفعلين ذلك مع عميد في المخابرات، فضحكت واستغرقت في الضحك حتى سقطت على الأرض، فأخذت أتناول المانجو وهي لا تقوى على التوقف عن الضحك رغم غضبها من التهامي المانجو دونها، ألست عميداً في المخابرات؟!!

 

 

 

مقالات من نفس القسم