وتبدأ الرواية بفصل يحمل عنوانا شديد الدلالة وهو “غبار الطريق” فيوحي بالتعب وبالترحال وبالخطى التي كتبت علينا، وقبل أن تلج الفصل الأول تعطيك النتيجة النهائية من خلال المفتتح الذي كتبت فيه “لستُ لى.. أنا منذورة لشيء غامض، وما علي سوى المضى قدماً والتوحد بمصيري”. فتنبئنا بهذا المفتتح أن بستان البحر ومن معها مسيرون وإن اختاروا المضى فى الطريق.
وتتميز رواية منصورة عزالدين بحسن التأهب قبل البدء في الكتابة، إذ تطل علينا ثقافة الكاتبة الواسعة وإطلاعها على أساطير الشعوب وأصولها، بل ونسخها المتنوعة والمتعددة فتستحضرها ببساطة ودون استعراض أو تيه على القارئ بما لديها من واسع المعرفة، وهى بذلك تمهد لنفسها خلق أسطورتها الخاصة وهي “جبل الزمرد” ودسها في الليالى والتي تكاد تكون صورة معكوسة لأساطير العهد القديم فيما يتعلق بالخروج والتيه والأفعى ومادتها الخام في ذلك الليالي والمهابهارتا والشاهنامة وغيرها، ولكن تبقى الليالي هي المتكأ الذي تستند إليه روايتها.
ثم تعود وتنأى بأسطورتها عن الامتزاج التام بألف ليلة أو أن يختلط الأمر على القارئ فيقر في نفسه أنها إعادة صياغة لقصة من قصص ألف ليلة، فتذكره بأنها صاحبة وصانعة “جبل الزمرد” وذلك عبر لغة رشيقة تخصها ولا تخص ألف ليلة، واستخدامها لمفردات غير مألوفة مثل “المزنّر” و”مجاز” بدلا من مطوق وممر. بل وقد ينتابك الظن أن الكاتبة تزيد أساطير الأولين أسطورة لتدحض بعضها وبالأخص أسطورة جبل الهيكل، فمن تلاقح الحضارات الذي أثمر بستان البحر أو بوستان دريا أو باغ دريا نستنتج أنها في مهمة مقدسة لجمع أسلافها المشتتين كى يعودوا إلى جبل قاف أو كما قالت عن نفسها منذورة لهذه الرسالة.
وعلى الرغم من كون الرواية تحمل اسم “جبل الزمرد” إلا أن جبل الزمرد ليس هو البطل الوحيد للعمل، بل ينافسه في الأهمية والحضور جبل المغناطيس إلى جانب عدة جبال أخرى ورد ذكرها فى الرواية ودارت بعض الأحداث فيها، ويكفى أن تقرأ مفتتح “مدينة مبللة بالمطر” الذى تقول فيه “الأسمى من الجبال فكرة الجبال؛ أن ترمق العالم من علٍ، أن تصير أنت الجبل وهو أنت!” ليصلك إحساس أن الكاتبة معنية بسيرة الجبال أولا، ولم لا وقد سمت روايتها “جبل الزمرد”؟ كما اتسمت الرواية بالتقاطعات والتداخلات والتماثلات أو التشابهات بين الأحداث والشخصيات والأماكن فيما يشبه دوائر الفيض المغناطيس، وهي بذلك منحت جبل المغناطيس أهميته من خلال الفعل والتأثير، فجبل الزمرد هو الحلم والهدف المنشود، أما جبل المغناطيس فهو الواقع الفاعل والمؤثر في الأحداث.
كما يتضح لنا قدرة الكاتبة وتمرسها فى الكتابة من خلال خلق الشخصيات والاستغناء عنها ما إن ينتهى دورها فأضفت بذلك لمسة واقعية على العمل، أوليست هذه هي الحياة، خلق وغياب؟ كما لم تخل الرواية من مشاغبات الكاتبة ومناوشاتها للنقاد والقراء، ففضلا عن اختفاء الشخصيات مثل البروفيسور أو شيرويت قنديل وغيرهما، نجدها فى فصل “مغناطيس الأجساد” صفحة 24 تقول عن البروفيسور ‘‘مهووس بفكرة النص الأصلى لـ”الليالى”، وحالم بتنقيتها من إضافات المترجمين وما يسميه باحتقار “القصص المزورة”. ويتحفظ عندما أتحدث أمامه عن اهتمامي بإحدى الحكايات المضافة.’’ في حين أن الرواية نفسها إضافة مدعاة لليالي!
وفي نفس الصفحة تقول ‘‘كدت أسخر من أن مفارقة أن يفخر المهووس بالأصل الذى أعرفه بعمل مقلد؛ تحريف لنسخة أصلية، غير أنى بلعت تعليقى مجاملة له’’ وكأنها تدرأ عن روايتها مقدماً الاتهامات الجاهزة باستلهام ألف ليلة وتؤكد على أنها ليست تهمة، بل التهمة الحقيقية قد تكون فى المجاملات أو الاتهامات غير الموضوعية من بعض النقاد. كما تعاود مشاغبتها للنقاد فى مفتتح فصل “أرض الجنيات” بقولها “فلتكن كلماتى منذورة لإساءة الفهم وأخطاء التأويل!” والتأويل هاهنا ينسحب على كل من النقاد وشخصيات الرواية وما نذروا إليه.
وبالعودة لتقاطعات الشخصيات وتوازيها نجدها بطول الرواية مثل نورسين وأبيها وبستان وأبيها ونجد أن كلا الأبوين قد لعب دور المعلم لابنته “المنذورة”، أو المتشرد أخضر العينين وبلوقيا، ولكن هذا القدر من الوعى والقصدية فى الكتابة لم يجعلها تخلو من مظاهر الجمال والمحسنات البديعية مثل قولها “فيشرد خيالها فى بحر من لآلئ تخطف البصر. تحفظ الشعر” الخ… فتستدعى فى أذهاننا العلاقة بين الشعر والبحر، كما لم تفتها جماليات الكتابة عن انتقاء مفرداتها فلم تتزيد وخلت العبارات من الحشو فجاءت كل منها لغرض وإن تأخر بيانه، فعلى سبيل المثال فى “وحدها فى مدينة صاخبة” يندهش القارئ فى صفحة 37 حين يجد الاسم المكتوب على اللوحة النحاسية لبيت الجدة هو “شيرويت قنديل” ويتساءل أين اسم الزوج؟ لكن التفسير يأتى فى نهاية الفصل فى صفحة 52 حين نعرف أنها يسارية قديمة وتعرضت للاعتقال لفترة قصيرة ثم سافرت إلى فرنسا حيث حصلت على الماجستير والدكتوراه فى إشارة موجزة لطول بقائها فى بلد النور والحرية ثم تختم الكاتبة قائمة التفسيرات بزيجات ثلاث فاشلة مرت بها شيرويت، ولذا فلا عجب أن تضع اسمها على اللوحة ويتوارى اسم الرجل، وهو عين ما فعلته الكاتبة فى روايتها، فالرجل لم يكن ذا حضور فاعل بقدر ما كان أداة فى يد المرأة المنذورة.
ولا تتخلى الكاتبة عن الرموز والربط بين ما هو واقعي وما هو خيالي بصورة تكاد تفسر الظواهر الخارقة تفسيراً موضوعيا يستند إلى أصل من الواقع ـ أى موجز تعريف الأسطورة ـ فنجد توازيا بين جبل الحياة الموجود في المكسيك والذي زارته هدير وبين جبل الزمرد، بل يكاد الظن أن يبلغ بالقارئ حد الاعتقاد أن جبل الحياة المكسو بالخضرة هو نفسه جبل الزمرد، أو أن يربط بين الأحجار الفضية اللامعة التي تسلب العقل في جبل المغناطيس والمسماة بحجر الجنون وبين المرايا التي تسلب العقل مع طول التطلع إليها، ومعلوم أن المرايا ما هي إلا زجاج مطلي من أحد وجهيه بطبقة فضية عاكسة. وقد تكرر ظهور المرآة في أكثر من موضع، فتارة هي هدية بلوقيا لزمردة وتارة هي معشوقة نادية أم هدير كما ورد في فصل “الغرق في المرآة“.
ولا تكتفي الكاتبة بخلق أسطورة موازية لجبل الهيكل وهي أسطورة جبل قاف كما ورد في السطور السابقة، بل تخلق أسطورتين أخريين موازيتين لألف ليلة ولخروج آدم من الجنة، فنجد الراعي زوج “مروج” التي خانته وهجرته ينتظرها لثلاث سنوات أي ما يزيد عن الألف ليلة لينتحر بعدها، وهو عكس ما فعله شهريار؛ كما نجد أن قتل ملكة الحيات قد خلص جبل قاف من عزلته فوجب على أهله التيه، فكأن ملكة الحيات هي الصورة العكسية لإبليس والتي قام كل من نورسين وبلوقيا بتخليص الجبل من قبضتها.
ثم تشفق منصورة عز الدين على القارئ وتعترف له على لسان كريم فى اعترافه لهدير: “مش مسألة مصادفات، أكيد سمعت عن العوالم المتوازية” فيتأكد لنا أنها أرادت أن تخبرنا بآمالها وكوابيسها من خلال تلك العوالم المتوازية التى تهنا معها ومع أهل جبل قاف حيث ينتشرون اللون الأصفر بحلهم وترحالهم فى البلاد، فتحذرنا من خلال روايتها من المد الصحراوي ومن الحكماء وتحريفهم للنبوءة … النبوة!! ويحرمون التدوين على النساء والتدوين عن الملك وأسرته، لينتصر في النهاية التدوين والمدونات فنفهم لِمَ أشارت الكاتبة للمظاهرات فى صفحة 26 ولِمَ أصرت على تحديد الزمان بفترة ما بعد الخامس والعشرين من يناير 2011.
وأخيرا، قد يظن القارئ أن جبل الزمرد هو بالفعل الحكاية الناقصة من كتاب الليالى، ولكن منصورة عزالدين تركت لنا علامة لا تخطئها العين في التوكيد على انفرادها بهذه الأسطورة، فقد خلت الرواية من العفاريت التى تحفل بها ألف ليلة، فلم يرد ذكر عفريت واحد بطول الرواية الواقعة فى مائتي وعشرين صفحة تقريباً، ومع ذلك لم يفارقنا سحر الأسطورة في أي من صفحاتها.
*نُشِرت في مجلة الدوحة عدد أكتوبر 2014