الإغواء الأخير للمهدي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود سليمان

غاب الأستاذ ’إسماعيل‘ في النوم، فتسرب إليه حلمًا، عرج بمسار حياته المستقيم، وجعله يمضي يقظته الباقية في شقاء، وهو الذي يهجس في نفسه دائمًا: “لعله خير”

وعلى غير عادته البيولوجية، والتي تجعله يصحو قبيل آذان الفجر بربع ساعة تقريبًا، قام مبكرًا إثر ما راوده من رؤية ثقيلة، شرب بعضًا من الماء المركون جانبه، خبط رأسه مرتين، وعبثًا حاول تذكر حلمه. ظل يدور داخل عقله. يفتش عن ذيل الصور المشوشة التي أقلقت منامه، ولم تأتيه الاستطاعة الكاملة لمراجعة تفاصيل ما حلم به، فقام مستغفرًا ربه، مستعيذأ بالله من رؤى الشيطان البغيضة، توضأ ولبس جلبابه، ولأول مرة يخرج الأستاذ ’إسماعيل‘ لصلاة الفجر قبل إقامتها بنصف ساعة كاملة.

وهناك سلم على الشيخ ’فضل الله‘، والذي بدوره استغرب من تبكيره في المجئ، ثم أراح ’إسماعيل‘ ظهره على أحد عواميد المسجد الصغير، وغفى.

كانت الأحداث متسارعة، عيناه كاميراتان صغيرتان. تترأى لهما صورًا وأحداثًا مشوشة، سريعة ومتلاحقة. زاوية تومض، فيتسع المشهد ويوضح الصوت. وأخرى تخفت، فيغشى الظلام كل شئ، ويميد. الحسين الحسين.. المهدى المهدي.. “المهدى آتى وأنت لا تعلم يا إسماعيل”. يغمره النداء، يتعرق، “تأنيب أم تنبيه؟”، يهجس لنفسه. فتمر عيناه على مشهد لرجل بهيئة غير مألوفة يرتكن في أحد جوانب المسجد، وهالته مضيئة متسعة، فيكاد يبتلع نوره كل شئ. الحسين الحسين.. المهدى المهدى.

“الصلاة الصلاة.. يا أستاذ إسماعيل.. الصلاة الصلاة”

ظل الصوت يترنح في دماغه الغافي، حتى تنبه أن حلمه انتهى، وأن الصوت المتسرب إلى مسمعه هو صوت الشيخ ’فضل الله‘، فتح عينيه ببطئ، وتأسف للحاضرين المنتظرين، وذهب لإعادة وضوئه، ولما رجع داعبه أحد المصلين: “الخميس يقضي على الرجال والله يا أستاذنا”

لم يبتسم لانشغاله بالتفكير في حلمه الذي ما لبث حتى عاد لمهاجمته مرة أخرى، ووقفوا جميعًا لأداء الصلاة، وعندما رفع الشيخ ’فضل‘ يديه هامًّا بالتكبير، كان ’إسماعيل‘ في زمكان آخر، يفتش عن حقيقة ما شاهده وما ظن بأنه سمعه.

كانت هذه هى المرة الأولى التي يصلي فيها ’إسماعيل‘ صلاة الفجر، وهو غير حاضر البال، وحين انتهت الصلاة، اختفى ظله من المسجد، وكأنه لم يكن، أسرع الخطى للبيت. مرتجفًا يريد أن يتوارى خلف غطائه، ويقبض على لحظة آمنة.

يجلس نصف جلسة على السرير، ويمد بصره نحو الحائط المقابل، يتعمق برؤيته خلف ذلك الجدار المصمت الغليظ. هناك على بعد أميال، وراء الزروع التى تحيط بأرض المحمدية، كانت أحداثًأ جسيمة تدور، ودويًا يفرقع في أذن ’إسماعيل‘ الساهب، ويحذره. تدوشه الخيالات، فيحول نظره ناحية زوجته رباب النائمة كأنها في موت صغير، ويقول في داخله: “أه لو تعلمين، ما الدور الذي خلق من أجل زوجك يا غلبانة”

تتقلب ’رباب‘ على الجنب الآخر مصدرة مؤخرتها المتعبة ناحيته، فيغطس الرجل في الفراش، عازمًا ومقررًا وحالفًا أن يسافر صباحًا لزيارة الحسين، ومن هناك، يبدأ دعوته.

***

الصباح. السابعة ونصف. لم تفلح عينا ’إسماعيل‘ في أن تنعس ثانية، بقى يتفكر فيما رأه البارحة في منامه مرتين، حتى خاتله التعب وسرق منه ساعة نوم وحيدة.

نهض في إعياء. استحم بماء بارد. وارتدى القميص والبنطلون المخصصين لسفريات القاهرة. مسد شاربه بعناية. ولاحظ أن الصلع تسلل إلى مقدمة رأسه، فلم يهتم. ذهب إلى ’رباب‘ ووضع يده على مؤخرتها الكبيرة، فتململت وفتحت شبابيك عينيها العسليتين، فأخبرها أنه ذاهب للقاهرة. فاستنكرت وهى نصف نائمة: “خير كفى الله الشر؟”

فأردفها: “أخذت أجازة مرضية.. سوف أذهب للحسين لقضاء نذر قديم”

نذر. سيدنا. الحسين، ثلاث كلمات كفيلة بدهس خطر متولد داخل قلب أي امرأة في نجع المحمدية. فعاودتْ النوم مستكينة مطمئنة، وخرج ’إسماعيل‘ من بيته يضرب في الطريق الترابي، تحت السماء الرمادية، باحثًا عن الإشارة.

***

قبل أن يستقل ’إسماعيل‘ القطار، قرر أن يمر على الشيخ ’فضل‘، لإعلامه بالرؤية، وأن يستمد منه اليقين، على ما وُكل به من مهام إلهية. وصل سريعًا لبيته القريب. خبط عدة مرات، ففتح الشيخ الباب بعينين مجهدتين، حمراواتين.

“السلام عليكم يا شيخ فضل.. ماذا حدث لعينيك جعلها شرارًا هكذا؟”

“وعليكم السلام يا أستاذ إسماعيل.. تفضل الأول”

دخل ’إسماعيل‘، وشرع الشيخ الوحيد تفسير احمرار عينيه.

“لم أنم يا ولدي من بعد صلاة الفجر.. كان عقلى مشوشًا.. وقلبى يدق كمطرقة”

“لماذا يا شيخنا؟.. خير كفى الله الشر”

اقترب الشيخ من ’إسماعيل‘ في وضع مريب، وهمس في أذنه، بصوت يكاد يهمس:

“سأحكى لك عما رأيته في المنام أمس.. لكن دون أن تفصح لأحد يا أستاذ إسماعيل.. المهم.. تشرب شاي الأول؟”

أحس ’إسماعيل‘ بالبرودة تغزو جسده، أراد أن يتعجل الشيخ في حكاية ما رأه، فقال ’إسماعيل‘:

“تسلم يا شيخنا.. أنا جئت لأسلم عليك.. وامشي سريعًا”

لم يبد أن الشيخ التقط الجملة الأخيرة، فعقله المحموم مشغولًا بأمور أخرى.

“أمس وبعد أن صليت بكم صلاة الفجر.. جلست أقرأ القرأن في المسجد وحدى.. وغفوت.. وحلمت أن الحسين آتانى، وبشرني بأ….

اتسعت عينا ’إسماعيل‘ وهو يستمع لحديث الشيخ. كان في قمة تركيزه، يحاول التقاط كلمات الشيخ من عقله قبل أن تخرج إلى طرف شفتيه.

“بشرنى بأنني المهدي”

توقف الزمن للحظة، واعتلى الصمت سماء الغرفة. ارتعشت أطراف ’إسماعيل‘، واستعصى عقله على الإدراك، فأكمل الشيخ:

“هذا سر يا أستاذ إسماعيل.. لم أحكه لأحد غيرك حتى الآن”

تعثر لسان ’إسماعيل‘، وركبه الشلل، لا يعرف من الدنيا الآن سوى الحيرة والتخبط. فزاغ بصره والتوى في أرجاء الغرفة. فأراد الشيخ أن يكسر ثقل اللحظة وغرابة الحلم، فقال:

“سأقوم لأعد لك كوبًا من الشاي”

ترك ’إسماعيل‘ المكلوم الشيخ ينهض لعمل الشاي، وبدأ في النظر حوله، في حركة آلية، رأى أن كل الأبواب مغلقة غلقًا جيدًا. وعلم أن ذلك السكون الذي يسبح فيه البيت بدل على نوم الأسرة، ولا مفر من فعل ما فكر فيه، حتى ينقذ نفسه والمحمدية من ذلك الاضطراب.

“أراك وحدك يا شيخ فضل.. أين زوجتك وأولادك؟”

يجيب الشيخ من داخل المطبخ:

“في الأوقات التي أصوم فيها أيامًا طويلة متتالية.. أبعثهم لبيت العائلة.. حتى يكونوا على راحتهم وأكون على راحتى”

الجملة الأخير شجعت ’إسماعيل‘ على القيام، وعلى أطراف أصابعه اتجه ناحية المطبخ، وجد الشيخ واقفًا أمام الكنكة الموضوعة على البوتاجاز، مصدرًا ظهره للباب، فتسلل وقبض على اللحظة الآمنة، قوس ذراعه اليمنى، وفرد كفه الأيسر، وفجأة.

لم يزفر الشيخ أنفاسًا كثيرة، حتى خمد وتوقف نبضه، نظر إليه ’إسماعيل‘ في شفقة، غير مدرك ما فعله توًا، فجنون الرؤية قد سوست عقله وخربته.

خرج من بيت الشيخ مزهوًا، نفخ في ارتياح، وضع راحته عند منطقة القلب، واطمئن على حلمه المخبئ جيدًا، واتجه ناحية الطريق المؤدى إلى محطة القطار.

الآن سيذهب للقاهرة، لأخذ بركة الحسين، وهو مطمئن أنه الوحيد في نجع المحمدية الذى بُشر في منامه بالأمس، أنه المهدي المنتظر.

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال

محمد فيض خالد
تراب الحكايات
محمد فيض خالد

قصتان