ياسمين مجدي
“الأنثى أما بتصبح (كلمة)
تلقى صخور العالم ريف”
يصنع الشاعر عاصم المركبي مدينته، حيث كل الأشياء المفقودة تعود متاحة وحقيقية، وكل الأحلام تحدث فعلا، أليس الشعر هو مدينتنا الحقيقية والعالم الذي تركنا كل الأشياء خلفنا من أجله، فلديه كل الأحلام ممكنة.
ومدن الأحلام لدى المركبي يشيدها معا أنثى وذكر، بحضور جوهري للأنثى تضفي بوجودها معرفة ومحبة ويقين. إنه عالم من الصحراء والصخور إذا غابت المرأة عنه، لكنه يصبح ريفا عندما تطل الأنثى عليه.
*
في ديوان ” ريحتك قميص يوسف” البطل الحاضر هو الغياب، هو كل الغائب الحبيب المفقود، الذي يستعيده الشعر ويعيد بناءه، فيستحضر المفقود والمحروم والضائع، وتحط الآمال كلها في جسد الشعر لتبدو حقيقية.
تكرر مصطلح الأنثى الوهمية، إنها تلك المرأة البديلة التي يبنيها الشاعر في شعره ، كدلالة للمفقود في الحياة الواقعية والذي تعود النصوص لاستلهامه ثم استعادته، ف
” نصيب الشاعر من شعره
بيطيب خاطره”
و”كل قصيدة خلية
كل خلية دقيقة في عمره
إن خرجت منه ما بترجعش
بانقص نقطة نقطة بنقطة
بأخلص نص بنص”
إنه إعادة تحميل بمصطلح عصري لينقل الشاعر روحه من الدنيا إلى صفحات الشعر.
تسعى نصوص “ريحتك قميص يوسف لمواجهة الفقد الواقعي العميق ، تمنح للواقع ظهرها وتشيد في كل نص يوتوبيا سعادة جديدة
“محصلش بنا لا بوح ولا تلميح
كل القصص تمت في أشعاري”
هذه النصوص تخبرنا عن فردوس الشعراء، ذلك العالم الذي يمنح الحب والسعادة.
يضع الشاعر المرأة كمثال للحياة والمعرفة، وكل النصوص تجعلها دلالة على الحياة، واستلاب المرأة هو استلاب لجوهر الحياة كنموذج دال على كينونة السعادة ، ولجوء الشاعر لاستعمال مصطلح الأنثي الوهمية يرمي إلى كونها رمز الحياة والنجاة الذي يعيد بناءه في الشعر بديلا عن الأنثى الواقعية.
فالفرق بين أنثى الحياة والأنثى الوهمية ( أنثى الشعر) هي
“يعني ملموسة
لكن أنتي صوت
ضوء
كرامة
ضمير
حاجات كتير بس محسوسة
محتاج بصيرة عشان يتم الوصف”
هكذا تبدو الأنثى في النصوص ليست رمزا للمرأة في حد ذاتها، لكنها رمز الحياة ولكل المفقودات الغائبة في الحياة والحاضرة في الشعر.
الأنثى المصنوعة هناك من حب وكلمات وخيال لديها قدرات عميقة للحياة
” انتي امتلكت القدرة ع التطهير”
لا يكتفي الشعر بأن يكون مساحة لحياة متخيلة تشفي الروح، لكنه ينصب واقعا جديدا يصدق بطل النص في أنه يحدث بمكان ما، كأن سلطان الشعر يمكنه أن يزحف على الواقع بشروط اليومي والعادي فيحوله لقصيدة، حين يتخيل حبيبته التي لم يراها منذ سنوات، وهي في حياة عادية في مكان لا يعلمه
” بتخيلك قطعا
مثلا
دخلتي تغسلي المواعين
عملتي كيكة قهوة مظبوطة
صوت العيال جايلك من الصالة
وأنتي أكيد بتردي جوالي
ماخطتش على بالك يوم..تسأل عني”
يقوم عاصم المركبي في ديوانه ” ريحتك قميص يوسف” بإعادة ترتيب العالم، فهناك واقع يعيش في الخيال والشعر ، حيث يمكننا لديه بناء الأشياء كما نرغب
” شكل الملامح من ورا الحاجز
هايدي فرصة للخيال لتصحيح المسار”
خاصة إذا كانت أنثى الواقع كنموذج دال على عطايا الحياة، لا ترضي قلوبنا، ولا تصنع مجد السعادة الذي نبحث عنه، ففي أحد النصوص سأل امرأة أن تختار:
“خيرتها ف مرة بين قصر فرعوني
وبين بيت شعر
أيهما أفضل لك؟
ما بقتش أشوفها!
بطلة قصايدي أنثى وهمية
يمكن عشان مستحيل اللقا”
في بضعة سطور التقت الأنثى الحقيقة والأنثى الوهمية، فخسرت الأولى وعاشت الثانية دائما، لذلك في كل مرة ندفع الصفحات تعاود السريان في السطور حتى لو كان يستحيل اللقاء.
إنها ” أشياء في خلوتي اتجسدت كائنات”
لأن ” كل الأمور المدهشة قطعا
في البدء كانت عصيان”
لا يغيب عن ديوان ” ريحتك قميص يوسف” التطرق لموضوعات معاصرة، فالمفقودات التي يعاينها ليست مادية أو شخصية إنما تنمو لتصبح عن المجتمع والضائع من حصص التاريخ والجغرافيا ومحاولات مراقبة ما يخبئه الفقر والحاجة والخسارات الأخرى ، ويمر بنا على أزمة كورونا عندما تتحول البيوت الدافئة إلى زنازين للعزل، ويعرج على سد النهضة .
أنه ديوان جميل لعاصم المركبي يمنحك درب في النصوص لتصل إلى رائحة قميص أمنياتك.
ياسمين مجدي