د. محمد المسعودي
يتقاطع في المتخيل السردي لرواية “فراشة الأبعاد” الأفق الواقعي (المتصل بالبعد المحلي) بالفانتاستيك الذي ينفتح على البعد المعرفي العام (العالمي) المتمثل في معطيات الفيزياء المعاصرة وتطوراتها التطبيقية في وسائل الاتصال الحديثة؛ لتشكل الرواية من خلال اندغام الإمكانين السرديين أفقا للأمل في غد أفضل وعالم أجمل تحلم بهما “زينة” الشخصية المحورية في الرواية، كما تتوق إليهما باقي شخصيات الرواية. فكيف يتم تمثيل الأفق الواقعي في الرواية؟ وكيف تحضر الرؤية الفانتاستيكية فيها؟ وما الدور الذي تؤديه هذه الرؤية الفنية في الرواية؟
إن الصبية الصغيرة “زينة” التي نشأت في قرية “تغدوين” إحدى قرى جبال الريف، وعاشت بين أحضان طبيعتها الجميلة والقاسية في هذا الحيز من شمال المغرب –حسب متخيل الرواية- كانت تتطلع –تماما كغيرها من أفراد أسرتها وسكان قبيلتها- أن تحيا حياة سليمة عادية لا تشوبها شائبة، غير أن وضعا طارئا فُرض على سكان القرية، وعانت منه أسر عديدة، يتمثل في اختفاء الناس، فجأة، وعدم معرفة سر اختفائهم، وعدم قدرتهم على الأوبة إلى عوائلهم. وقد دفع هذا الوضع المستجد عددا من سكان القرية –بما فيها أسرة “زينة”- إلى الهجرة بعيدا نحو قرى أخرى أو مدن مجاورة. وهكذا انتقلت أسرة “زينة” نحو مدينة طنجة لتقيم في حي شعبي، ولتواصل الصبية حياتها ودراستها على نهجها الذي بدأته بقرية “تغدوين”: الجدية، والسعي الدائب إلى التفوق، والشغف بالبحث والقراءة. ولكنها كانت تفتقد كلبها “دوكس” الذي خلفته وراءها في القرية، ولم تتمكن من اصطحابه إلى بيتهم الجديد في طنجة.
وفي طنجة ستتقاطع حياة “زينة” وأسرتها بحياة أسرة الدكتور “عبد الغفور” الذي أنقذه والد “زينة” ذات يوم من موت محقق، لتتشكل آفاق أخرى للرواية يتمكن السارد من خلالها الدخول إلى عالم الطبقة الغنية في المجتمع ليكشف عن مثالبها وتبدلات سلم القيم فيها، كما وقف عند الفئة الفقيرة المهمشة وما تعرفها حياتها، بدورها، من اختلالات وتراجعات للقيم في التعاطي مع تغيرات الحياة وسطوة واقع جديد سواء في القرية (تغدوين) أو في المدينة (حي سكوتة بطنجة).
وعبر محكي أسرة “الطيب” والد “زينة”، ومحكي أسرة الدكتور “عبد الغفور” ومحيطهما الاجتماعي تكشف الرواية عن تردي الواقع، وما يتخبط فيه المجتمع، بمختلف فئاته وطبقاته، من مشاكل وعوائق؛ وما يعج به من تناقضات وصراعات؛ وما يطغى عليه من مظاهر العنف والجريمة والانحلال؛ وما يعرفه من قيم سلبية وافدة جعلت الشر يستشري ويمسك برقاب الناس.
وهكذا يمعن الروائي في الوقوف عند بعض هذه الظواهر الاجتماعية السلبية، مصورا آثارها المدمرة على المجتمع، وضربها للقيم الإنسانية عرض الحائط. ولعل أهم ما يصوره السارد في هذه الرواية ذلك النشاز الذي يفضي إليه الترف والغنى لدى الطبقة التي اتخذت من تجارة المخدرات أو توسلت بطرق التدليس والغش والخداع لجمع المال، من استهتار وانحلال، وارتماء في نشر الفساد وتكريس الشر، وانتصارٍ لنِحَل وافدة جديدة وعملٍ على ذيوعها في المجتمع: طقوس عبدة الشيطان.. وما شابه ذلك. ومن هنا نجده يقف عند هذه النماذج من خلال سرده لوقائع غاية في الانحلال والانحراف تكشف تردي المجتمع في هوة سحيقة من غياب الضمير والحس الإنساني السليم؛ غير أنه في المقابل يقدم صورا نقيضة لشباب آخرين يمكن عدهم قدوة للسلوك الإنساني الراقي، وللجدية المطلوبة في التعاطي مع الحياة، ومع المجتمع تتمثل في زينة وعبد العالي ورحاب وزهير وغيرها من شخصيات متزنة في الرواية. وعبر هذه الصور المتوازية يتمكن السارد من تقديم رؤيته الموضوعية عن الواقع والحياة.
وتبقى الرؤية الفانتاستيكية التي تنبثق من بعد واقعي ملتبس بمعطيات التطبيقات المعلوماتية الحديثة، وخلفياتها الفيزيائية أهم ما وسم الرواية، وأهم ما جعل رؤية السارد تنفتح على الأمل، وإمكانية انتصار قيم الخير على الشر. وقد كان الدخول إلى منطقة التخييل الفانتاستيكي بعوالمه الافتراضية إمكانية فنية أغنت متخيل الرواية بالحركية، ومن ثم أمدته بأبعاد دلالية وترميزية متنوعة.
ولتناول هذه الرؤية نقف عند المقطع الأخير في الرواية بما يحمله من دلالات مباشرة على انتصار الخير، ومن إشارات رمزية تنبثق من جوهر المتخيل الفانتاستيكي الذي تحكم في مسار الرواية منذ بدايتها، يقول السارد:
“..راحوا يتسلقونها [أشجار اللوز] بحثا عن الأحجار الساحرة، ثم نزلوا ولم يجدوا شيئا، ضحكن منهم زينة بقهقهات عالية حتى سقطت على الأرض وسقط بجنبها دوكس كأنه يضحك أيضا. وقالت:
-أيها الحمقى أنتم ذهبتم دون مفتاح خزينة الكنز، سأدلكم على بعضها أيها الصغار.
والواقع أن ليس كل أشجار اللوز تُخفي في أزهارها حجر الألماس بل البعض منها، وزينة وحدها من تعرف خريطة وسر تلك الأشجار واحدة واحدة في الحقول، وهي كثيرة ولكل شجرة لوز منها علامة واسم في ذاكرتها، وتعطي غلتها من الألماس عندما يُزهر اللوز كل موسم، تلك كانت حصتها من غنيمة الحرب ضد كعيمش وجبهة الشر في مدينة روبا الألماسية، روبا التي التقطت أنفاسها بعد اندحار الزعيم الشرير ومصرعه الرهيب فانتهت لوضع آخر مغاير تماما لما كانت عليه، حيث سادها الحب والوئام والسلم والرغبة في التعايش مع كل الأبعاد الأخرى، وقرر قادتها الجدد في اجتماعات طويلة أن يجعلوها صديقة حميمة وحليفا كبيرا لتغدوين ولمملكة ليمانوس..” (الرواية، ص.177-178)
هكذا يبدو أن الرؤية الفانتاستيكية تتمثل في الأفق المتصل بمتخيل خرافي/أسطوري ارتكز إلى معطيات محلية، خاصة ببيئة منطقة الريف بالمغرب، وربطها بعناصر الفيزياء الحديثة في اشتغالها على تعدد الأبعاد والعوالم. وقد شكل هذا المتخيل عنصرا فعالا في تحريك الأحداث، وتمثل رؤية الشخصيات لواقع ممكن ينتصر فيه الخير على الشر. وبهذه الكيفية يجعل الاشتغال الفانتاستيكي في الرواية الأملَ إمكانا واقعيا عبر دمجه بالواقع، وجعله جزءا لا يتجزأ منه. وهكذا تتواشج الأبعاد وتتداخل الوقائع لتفضي إلى انتصار الخير والقيم النبيلة على شرور العالم –كما رأينا في المقطع المستشهد به من الرواية-. ومن ثم تصير “زينة” فراشة أبعاد يتحقق على يدها وعلى يد رفقائها حلم التغيير نحو الأفضل؛ فلا غرو أن تكون هي المنذورة لمعرفة أسرار مدينة الألماس، وأن يكون تحرر المدينة من تدبيرها رفقة دوكس وعبد العالي ورحاب وزهير والملكة ليمانوس والجد بوطاهر، وأن تعرف أشجار اللوز التي تطرح الماس.
بهذه الكيفية شكل الروائي عوالم رواية “فراشة الأبعاد” متمثلا الواقع في سياق رؤية فانتاستيكية راهنت على إمكانية التغيير، وعلى الأمل في آت أفضل ضدا على البشاعة التي استشرت في شتى مناحي حياتنا المعاصرة، كما حاولنا أن نبين في هذه القراءة. ولا نغفل أن الرواية إلى جانب إتقانها الفني كشفت عن حس تربوي جلي لصاحبها، وهذا جانب ينبغي التنويه به، خاصة أن توظيفه في الرواية لم يخل ببنيتها الجمالية وبقدرتها على إمتاع المتلقي.
…………………………….
*مصطفى المسعودي، فراشة الأبعاد، منشورات جامعة المبدعين المغاربة، الدار البيضاء، 2020.