استطلاع: حنين الصايغ
تكثر الآراء وتتضارب حول تأثيرات الفضاء الالكتروني على تنامي الإبداع الشعري وانحساره. فالبعض يرى فيه ‘‘مساحة جميلة تمنح فرص متكافئة للجميع للتعبير عن مواهبهم والاستغناء عن سلطة الصحافة ودور النشر’’، والبعض الآخر يراه ‘‘مساحة مسؤولة عن تخريب الذائقة، نظرا لغياب أدنى المعايير لنشر النصوص الشعرية والنثرية’’.
فهل حقا، تسبب هذا الفضاء في ابتذال الشعر وفرض الدخلاء عليه!.
طرحنا هذا السؤال على عدد من الشعراء، فكانت آرائهم كالتالي:
* الفضاء الإلكتروني حرّر الشاعر
في الرد على سؤالنا يقول الشاعر والناقد المصري ‘‘عبدالله السمطي’’ ‘‘أن الشعر طالما ارتبط بالإنشاد، وبالتواصل المباشر مع الناس والجمهور” والدليل على ذلك أدبيات الموروث الشعري وما وصلنا من كتب طافحة بشعريات عربية لا نظير لها بالعالم’’.
ويظن ‘‘السمطي’’ أن الشعر ‘‘لم يبتذل إلا في عصور قليلة، ومراحل تاريخية تراجعت فيها الحضارة العربية’’.
ويضيف ‘‘أننا واليوم نعاني من المسألة نفسها.. فحين انتقل الشعر ليصبح ديوانا مطبوعا، أو نصا منشورا بصحيفة أو مجلة، كان هناك ثمة وعي والتزام بمستويات محددة خلقت تنافسا كبيرا بين الشعراء خاصة من رواد الحداثة: كالسياب، وأدونيس والبياتي، ونازك، وعبد الصبور، ودرويش، وأمل دنقل، ومن تلاهم من أجيال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات’’.
وبالإجابة على سؤالنا يقول ‘‘أنه مع فورة الاتصال، وابتكار الإنترنت، بل والقنوات الفضائية، ثم المدونات، فمواقع التواصل الاجتماعي أصبحت هناك مساحة هائلة للنشر، وفرصة رحبة ليقدم الجميع منشوراتهم دون تحكيم، ودون مرور على مسؤول التحرير المثقف غالبا. وهنا أصبح الشاعر هو رقيب نفسه، وهو الذي يجوهر نصه وهو الذي يتحكم في رؤيته، ومساحته، ومناسبته’’.
وكان قد تناول الناقد ‘‘عبد الله السمطي’’ موضوع ظهور شعريات وأشكال أدبية أسماها بالنص الفائق لأنه مرتبط بتسارع إيقاع الزمن في هذا الفضاء. مشيرا إلى أن نظريات ما بعد الحداثة، (البوستموديرنيزم) مشغولة برصد هذه الظواهر أيضا. ويعود السمطي ليؤكد أن ‘‘من يريد أن يحافظ على صورته الإبداعية في مستويات محددة فله ما شاء، ومن يريد أن يؤكد حضوره فقط بأي شكل كان فله ما شاء أيضا’’.
واختتم ضيفنا مشاركته بالقول أن ‘‘الفضاء الالكتروني حرر الشاعر، والكتاب جميعا، بالتأكيد، وعزز من فرص المتابعة ونشر النص الطازج الحيوي، وأسهم في التواصل والتفاعل على نطاق عالمي بين الأدباء والشعراء، لكنه رغم ما فيه من نصوص عادية وسطحية أحيانا، إلا أنه بسّط الصورة واضحة أمام الجميع ليقرأ ويتأمل ويقارن ويتساءل. وهذا هو الإنجاز الكبير الذي صنعه هذا الفضاء’’. مؤكداً ‘‘أن تأثيرات الفضاء المستقبلية ستكون أرسخ وأعمق مما يحدث اليوم’’.
* الفضاء الإلكتروني.. فسحة لممارسة لعبة الشهرة والأضواء.
وكان للشاعر السوري المقيم في ألمانيا ‘‘علاء الدين عبد المولى’’ رأيا مغايرا إذ أنه يعتقد ‘‘أن المستوى المبتذل من الشعر وجد قبل الفضاء الالكتروني بمئات السنين’’ والدليل أننا ‘‘قرأنا كثيرا من الشعر الرخيص والهابط فنيا ورؤيويا منذ القدم، والأمر نفسه يتكرر اليوم مع ثورة الاتصالات الحديثة’’.
ولكن الشاعر السوري يظن أيضا أن ‘‘الإبداع له الحق في استثمار هذه الثورة الالكترونية’’. حيث يرى أنه ‘‘مع الثورة التقنية الهائلة أتيح لنا الاطلاع بشكل يومي على ذلك الرخيص والمبتذل والدخلاء على الإبداع كله’’ نسبة لطبيعة الفضاء الالكتروني الذي يتسم بكونه ‘‘حرّ سهل مشاع، لا رقابة نقدية فنية عليه’’. وأضاف ‘‘أن هذا الفضاء يشكل فسحة مغرية جدا للجميع كي يظهروا ويمارسوا لعبة الشهرة والأضواء. لكنها في العموم شهرة زائفة وأضواء مصطنعة سرعان ما تتكشف عن فقاقيع لا قيمة لها’’.
وعزا ‘‘عبد المولى’’ هذه الظاهرة إلى ‘‘المجتمع العربي المأزوم بكل ما فيه من قيمٍ وطاقات وهوية، لذلك سوف ترى عاهاتنا وأمراضنا متجلية بوضوح في أشكال التعبير الشعري المستمرة على وسائل الاتصالات خاصة الفيسبوك’’. موضحا أن ‘‘الفيسبوك لم يفاجئنا بأسرار، بل فضح أسرارنا ونشرها على الملأ. أسرارنا تلك المتمثلة هنا بعطالة إبداعية وأمية ثقافية ومسوخٍ تمارس متعةَ (طحبشة) كل شيء جميل جوهريّ’’.
ثم تطرق ضيفنا إلى نقطة مهمة وأساسية ‘‘متلقي الفيسبوك صار يلهث وراء الصورة الشخصية للشاعرة مثلا، ولا ينشغل بصورتها الشعرية الفنية. وتعاني الشاعرة أكثر من غيرها هنا’’. ويوضح أنه يتحدث عن ‘‘الشاعرة التي تنسج كيانها الشعري بمعزل عن مؤثرات خارجية ومغريات عابرة. ترى أنها محاصرة في نمط رجوليّ بائس، ينشغل بفتنها الجسدية عن فتنتها الأدبية’’.
واختتم الشاعر إجابته بالقول أنه ليس ‘‘متشائما ومحبطا إلى ذلك الحد، ففي النهاية الفيسبوك له إيجابياته أيضا، وليس كل ما ينشر فيه رديئا أبدا’’ مشيرا ألي أنه ‘‘تعرف من خلاله على الكثير من التجارب الشعرية الجيدة’’. ويعتبر أن ‘‘الحل يكمن في الاجتهاد الشخصي على تعمير رؤية ثقافية نقدية للشعراء الجدد، تحميهم من الوقوع في مصيدة الفقاعات. ووحدهم الذين يجابهون الخواء بقيمهم العالية سوف يبقون’’.
* ‘‘الفضاء الإلكتروني’’ أضفى ألقابا وهمية، وأسماء لا تمت للإبداع بصلة..
وفي نفس السياق يرى الشاعر العراقي ‘‘أحمد ساجت شريف’’ ‘‘أن للتقنية دورها في فتح آفاق جديدة أمام المتلقي، وهي لا تتيح له التواصل لوحده، بل تنفتح به إلى مديات أكثر، وهي بلا شك تعمل على ترسيخ مفاهيم جديدة، وتضع منتج النص ومتلقيه في مواجهة مباشرة مع العالم’’.
وفي الإجابة على سؤالنا يرى أنه ‘‘كما أسهم الفضاء الالكتروني في تحرير الكاتب من دور النشر ومنحه مساحة أوسع، إلا أنه خلق شرخا هائلا في الذائقة وأتاح لمن لا يستحق إضفاء ألقاب وهمية، وصدّر للواجهة أسماء لا تمت للكتابة الإبداعية بصلة من قريب أو بعيد. فقد أفلت كم كبير من ضوابط النشر ولجان فحص النصوص ليدخلوا في لحظة إلى فضاء مجاني بعناوين كُتاب’’. ويرى ساجت أنه ‘‘لم ولن نكون أمام منجز شعري يستحق الاحتفاء في ظل هذا الكم الهائل الذي فرضته التقنية، ويبقى البحث عن شاعر حقيقي مهمة شاقة وعسيرة’’.
ومن الآراء المناهضة لتأثير الفضاء الالكتروني على نوعية الشعر، رأي الشاعر اللبناني ‘‘نهيد درجاني’’ الذي قسم إجابته إلى ثلاث نقاط أساسية. حيث يرى ‘‘أننا نعيش في زمن تعدّدت فيه المنتديات والأمسيات الشعرية، بشكل لم تشهده عكاظ ولم يحفل به العباسيون في عصورهم الأربعة مجتمعة’’. وينتقد “المادة الشعرية” التي تقدمها هذه الأمسيات، ملمحا إلى غياب المعايير المعتمدة لنشر قصيدة؛ نص نثريّ كان أم شعري. ويعود ويتساءل ‘‘درجاني’’ عما إذا كانت العلاقات الاجتماعية واللااجتماعية -أحيانا- تلعب دورا في إبراز فلان أو فلانة وتقديمهم على أنهم شواعر الزمان والمكان.
ثم ينتقل الشاعر إلى النقطة الثانية قائلا: ‘‘هل دور النشر هي مؤسسات تسعى الربح كأي دكّان، وهل أصبحت الكلمة تباع كالمواد الاستهلاكية؟’’ منتقدا الغياب التام للرقابة على الأعمال المطبوعة والمنشورة.
وكان لصفحات التواصل الاجتماعي حصة كبيرة في النقد، إذ يظن الشاعر أن هذه الصفحات تطفح بالمجاملات للركيك من النصوص والقصائد. ويختم ‘‘درجاني’’ إجابته بالقول: ‘‘نحن نعيش عصر انحطاط الانحطاط. فلنقلها بكل مصداقية واعتراف وجرأة’’. واعتبر أن الذرائع القائلة بأن “التاريخ غربال” و”لا يصح إلا الصحيح” و”دعهم يكتبون أفضل من الآفات” ما هي إلا حجج واهية، لا تساهم إلا بمزيد من الاستسهال والاستبهال والانحطاط.
* إيجابيات ‘‘الفضاء الإلكتروني’’ أكثر من سلبياته..
وبخلاف الشاعر ‘‘درجاني’’ ترى الشاعرة السورية ‘‘عبير سلمان’’ ‘‘أن إيجابيات الفضاء الإلكتروني أكثر من سلبياته فيما يتعلق بالشعر؛ فلولاه ما تعرفنا عن قرب على أهم الأدباء والشعراء الموجودين في وقتنا الراهن، ولاقتصرت ثقافتنا الشعرية على ما يقدمه الإعلام بأدواته التقليدية التي تراجعت مؤخراً أو ربما وصلت لمرحلة مُحْبِطة وقاصرة جداً، فهي لم تواكب التطور الثقافي، ولم ترتق لطموحات الجيل الشاب الذي يحتاج إلى دماء جديدة وروح جديدة أكثر مرونة تدير المنابر الثقافية’’.
وتضيف الشاعرة أن ‘‘تحكّم العلاقات العامة والمحسوبيات بتقديم أسماء شعرية دون غيرها إلى الناس، يسيء جداً للشعر وللشعراء’’.
وتؤكد ‘‘عبير سليمان’’ أن هناك دُخلاء على الشعر الذين يستحوذون على آلاف المعجبين والمتابعين على صفحاتهم المتواضعة فكراً وشِعراً وفنّاً. وتستطرد قائلة أن ‘‘هذا طبيعي جداً، فدوماً عدد الأشخاص الذين يميلون إلى السهل والساذج والغرائزي أكبر بكثير من عدد القراء الحقيقيين الذين يمكن الاعتماد على ذائقتهم وثقافتهم في حماية الأدب الحقيقي من التلاشي’’.
أما عن ابتذال الشعر فتقول ‘‘أنها لا تخشى على الشعر من الابتذال لأن الشاعر الحقيقي يشتغل على مشروعه بحرص ومثابرة ويحاول تطوير نفسه وفنّياته، أما الطفيليون فهم ينتمون إلى ظاهرة مؤقتة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمصلحة ما أو بغاية ضيقة أو بتسلية وملء فراغ، وهذا حتماً سينتهي دون أثر’’.
وتعود وتؤكد أن ‘‘الفوضى التي تسيطر على جميع المجالات تعود إلى الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تعاني منها كل دول المنطقة’’.
ولكنها تختم بعبارات واعدة رافضة التخلي عن الأمل ‘‘بأن هناك تغييرات لابد أن تجري نحو الأفضل في محاولة صنع وخلق حركة شعرية حقيقية هامة، بدل الانشغال بصناعة نجوم الشعر؛ الأمر الذي تنتهجه حالياً بعض المسابقات والقنوات الإعلامية ذات العقلية الربحية’’.
* العدوى الكتابية التي يسببها ‘‘الفضاء الالكتروني’’ من التأثيرات الايجابية..
ومن الداعمين أيضا للفضاء الالكتروني الكاتب اللبناني ‘‘جهاد مطر’’ الذي يؤكد على دعمه لكل ما يشجع الإنسان على الكتابة، وإن كان ذلك على حساب الجودة والنوعية. فالأولوية بالنسبة لجهاد هي ‘‘استعادة اللغة العربية لوجدان الإنسان’’. ويعتبر مطر أن ‘‘حالة العدوى الكتابية التي يسببها الفضاء الالكتروني هي من التأثيرات الايجابية لهذا الفضاء’’. ولكنه لا ينكر “أن هناك دخلاء على الشعر والكثير من الأشخاص غير المؤهلين للكتابة الذين استغلوا هذا الفضاء لبناء شهرة وهمية’’. لكن هؤلاء الدخلاء بنظره سيشعرون بالحاجة إلى تطوير أنفسهم عبر التوسع في قراءاتهم وبالتالي كتاباتهم وإن لم يفعلوا فإنهم لن يستمروا’’.