ابنة أستاذ وليم

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد إبراهيم محروس

هذا طريقي اليومي. أغادر المحل لأمشي باتجاه الممر، عليّ أن أمر بجانب الكنيسة الفرنساوي، ترهبني ضخامتها وروعة تنسيقها وجمالها من الخارج، سنوات عمري الكثيرة تمنيت أن أدخلها لأرى كيف هي من الداخل، ولكنني أرجأت الأمر حتى نسيته.

 ألمحها تمر بجواري، ملامحها الأوربية، جسدها الممشوق في اعتدال، قد ظهرت آثار الزمن عليها، أتذكرها منذ كانت في الخامسة عشر من العمر تقريبا، كانت تطوف أحيانا شوارع السلطان الحسين، عندما تجرأ أحد الزملاء القدامى بمعاكستها نهره صديق لي وهو يقول ألاّ تعرف من هي؟! إنها ابنة الأستاذ وليم، لا أعرف لماذا ارتعشت وقتها، رغم أنني لم أعرف من هو الأستاذ وليم، ومع مرور السنوات، كنت دائما أتلاقى معها في طرقات وشوارع الإسماعيلية، لا بدّ أن أراها مرة أو مرتين أسبوعيا، أحيانا أرسم ابتسامة على شفتي ربما تلاحظها، ولكنها تمرّ بجواري بهدوئها وخطواتها الرشيقة، أتأملها وأمضي، سنوات لا أتذكر عددها، ولكن كلما حاول صديق لي أن يلفت نظرها في مرورها بجوارنا صدفة أحذره أنها ابنة الأستاذ وليم.

كبرت أسطورة الأستاذ وليم، فقررت يوما  أن أعرف من هو، وأين هو الآن، أحاول أن أتذكر أول صديق نبهني لأنها ابنة الأستاذ، ولكنه ضاع من ذاكرتي مع سنواتي الضائعة، بدأت حملة تفتيش سري عن الأستاذ وليم، في أي مدرسة كان، وهل كان موجودا في مرحلة الإعدادية أم بعدها، هل انتبه للفتيان الذين يودون لفت نظر ابنته، أظنها لم تتزوج برغم تخطيها الأربعين، شيء في رشاقتها وهي تمرّ بجواري، يجعلني أرجح أنها ما زالت فتاة الزمن الماضي ابنة الأستاذ، سألت أصدقائي جميعا عن الأستاذ وليم، تلقيت  إجابات كثيرة بلا عدد عن الأستاذ وليم، البعض رجح أنه كان مدرسا للغة الفرنسية وأنه كان مشهورا عندما كنا في الثانوية العامة بمجموعته التي كان يقدمها مجانا للطلبة، وأكد آخرون أنه كان مدرس فيزياء، أشطر مدرس فيزياء مر بالمدارس الحكومية، البعض أكد أنه كان ناظرا للمدرسة الأجنبية التي تخرجت منها تحية كاريوكا، والبعض قال  إنه كان يحب تحية في شبابها، وأن له صورا معها وهي تأكله بيدها، صديق أقسم أنه رأى الصورة بنفسه، البعض قال إنه ليس مصريا من الأصل، وأنه يوناني أتى كطفل صغير مع أبيه الذي كان يعمل في قناة السويس، أشياء بلا حصر قيلت وأنا أواصل البحث عن الأستاذ وليم، الذي تمثل لي وقتها بالغريب، في فيلم حكايات الغريب، وهناك صديق أكد أنه كان أحد الفدائيين، واشترك في حريق النافي الانجليزي في شبابه، وأنه لم يغادر الإسماعيلية أيام التهجير، بل افتتح مخبزا صغيرا كان يمد السكان  الذين أصروا علة عدم الهجرة بالعيش مجانا.

 تحول سؤالي عن الأستاذ وليم لفترة تندر بين أصدقائي، فكل واحد منهم صار يؤلف قصصا عن وليم وابنته ويصبها في أذني، لا أعرف ذلك الهوس الذي أصابني كيف أتحرر منه، تمرّ الأيام ثقيلة ومملة، لا شيء جديد يحدث، سوى أنني استمر في مقابلتها تمر بجواري وأنا أتأمل تفاصيلها، وأريد أن أؤكد لها أنني يوما ما سأتجرأ وأسالها عن الأستاذ وليم وعن أخباره، وأنني كنت في يوم ما أحد تلاميذه الفاشلين وأنه ساعدني كثيرًا، حتى تفوقت في مادته التي لا أعرف ما هي تحديدًا، هل كانت كيمياء أم أحياء أو فيزياء، قد تكون اللغة الفرنسية أقرب له، يوم ما سأتجرأ واكلمها أثق في هذا، ربما بعد سنة، اثنين، عشرة، فلقد انتظرت عمرًا ولم أكلمها فلا ضرر أن انتظر عمرًا آخر.. لماذا لا يكون اليوم، هل سوف أوقفها في الشارع وأسألها؟!

اليوم، اليوم لمحتها وهي تدخل الصيدلية أمام الكنيسة، صاحبها معرفة قديمة، لأدخل خلفها، ربما حان الوقت للسؤال، جمعت شجاعتي ودخلت وراءها، كانت تملي  الدكتور طلباتها، تنحنحت فرحب بي، وأشار أنه أمامه دقيقة ليكون معي، أعطاها طلباتها، فشكرته ومضت، لمحنى الدكتور وأنا أتابع خروجها، فتأملني للحظة  قبل أن يقول: أميرة، هززت رأسي بنعم وأنا أهمس بالفعل تبدو كأميرة، فضحك وهو يقول لي إن هذا اسمها، أميرة، تعمل في مطعم كينج أدور، المطعم الوحيد الأشبه بالملهى الليلي بالإسماعيلية، أكدت له إنه مخطئ وأنها ابنة الأستاذ وليم ولا تعمل في أي مطاعم، فابتسم وهو يؤكد أنها ليست ابنة أي وليم، وأنها أميرة إسماعيل بدوي، فمعه روشتات كثيرة باسمها ويعرفها ورآها عدة مرات وهي تدخل المطعم، ورآها بداخله هناك عدة مرات، أكدت له أنه مخطئ، وأنها ابنة الأستاذ وليم.. وغادرت.

ما زلت أراها وهي تمرّ بجواري، وأنا أمر بجوارها بجانب الكنيسة الفرنساوي، وسيأتي اليوم الذي سألها فيه عن أبيها، فهي ابنة الأستاذ وليم…

مقالات من نفس القسم