السيارات التي تمر بهدوء نسبي هي التي تحتوي جهاز تكييف، حيث النوافذ مغلقة على سائقين يبدو عليهم تململ غير مفهوم. بينما السيارات ذات النوافذ المفتوحة، أصيب أصحابها بهياج عصبي وراحوا يطلقون آلات التنبيه بشكل هيستيري.
كلما يقترب من الرصيف، تروعه سيارة مسرعة، أو صرير لعجلات تحاول التوقف فجأة. يتراجع خشية أن تصدمه. خطواته إلى الوراء تزداد هلعا كلما ازدادت الضوضاء الخارجة من إحدى السيارات.
عندما رأيته أول مرة يسير بجانب أحد الأولاد، كان مشدود الجسم بسواد لمعته نادرة. رأس صغير، أذنان مفرودتان تماما، ومساحات بُنية لا تتجاوز بقعة في منتصف الجبهة والكواحل الأربعة.
أنجزت الصفقة متجاهلا أنه بلا ذيل. وتصورت أنني وضعتهم أمام الأمر الواقع، لكن أمي لا تستسلم، سوف تجمع أغراضها وترحل عن المنزل قبل غروب الشمس.
لم أدرك مدى جدية الأمر بالنسبة لها، إلا عندما أصرت بشدة على أن أخرجه من مدخل البيت، كي تتمكن من العبور دون أن تصيبها نجاسته. غير أن هذا لم يبرر، أبدا، تصغير دماغها إلى هذه الدرجة.
في تلك الليلة، لم أستطع تجاوز كل المخاوف.
التعامل عن قرب لا يزال حذرا، لا بأس من الطبطبة على الظهر، مسح الرأس براحتي على الأكثر.
بعد ساعات، سوف أتعود على رجفة جسده بين حين وآخر تحت راحتي أثناء مرورها فوق ظهره أو أسفل رقبته، ولن أبعد يدي سريعا عندما ينتفض أو يحرك رأسه فجأة.
في المقهى، رفض النادل أن يأتي بطبق صغير من الزبادي المخفوق، لربما يستعمله أحد الأشخاص فيما بعد.
لم أشعر بالسلسلة المعدنية وهي تنساب مفكوكة من ساق المقعد.
فوجئت به، بعد لحظة، على الجزيرة الوسطى للشارع الرئيسي. ثم وجدته تائها عند مفترق حارتنا مع حارة الولد الذي كان يصاحبه في لقائنا الأول.
نصحوني ألا أضع الطعام أمامه. لا بد، في البداية، أن أطعمه بيدي. حاولت فعل هذا دون أن تمسّ أصابعي فمه. لكنني لن أستطيع تقبل اقترابه أكثر ليستنشق وجهي، أو تركه يلعق يدي وملابسي.
جاهدت لكي أبتعد بطريقة لا تبدو خوفا، لكنني لم أستطع إخفاء النفور.
هذا الابتعاد الخفيف، في الغالب، هو ما كان يشعره بأن الغربة لم تزُل تماما.
في ذلك الصباح، لم يكن محتاجا إلى الهرب.
كان يعرف أنه لن يستطع العودة إلى صاحبه الأصلي، من ذلك المكان البعيد قرب سوق الخليفة.
ربما أدرك أنه لم تكن هناك غربة حقيقية، عند المقهى القريب من مفترق الحارتين.
ـــــــــــــــــــــ
قصة من مجموعة “شبح طائرة ورقية” الصادرة أخيراً عن دار العين بالقاهرة