خلود البدري
خلْتني في حفلة تنكرية، ذات ليلة، جميع من يرقص فيها يتقافز على إيقاع صاخب من الألم.
قبلاً كنت أستشرف وجودي كنبتة كلّلها ندى، إذ حلّ ضوء على أغصانها، في ساعات فجر. لكنّما تلك حلّت محلّها تأمّلات، ليست في الجمال أو الحياة، بدت انعطافة تداخلت فيها وجوه وقد امتزجت معها رؤى ضبابية مشوّهة سحيقة الغور. ستغدو كبيرة، بعدما تصعد من أعماق شتّى، تتراقص ظلالاً، أو خيالات، لطالما حاولت استقطاعها، بطرق عديدة، لكنْ عبثاً تُضْحي كل هذه المحاولات قبالتها: حيث تستقر في تلافيف الذاكرة، متّجهة إلى بوصلة أفكارها للاختلاء بها، ثم تتناثر كآدميين موتى دبت في أجسادهم حيوات.
إذاً كانت تخشى تماماً، بالتأكيد، على دماغها من شيزوفيرينيا مبكرة ..و.. على قلبها من توقف مفاجئ. دائماً تجد نفسها متحفّزة، بفعل حالة رعب مزمنة، كفأر مختبر – محاصر؟! – ينطُّ عشوائيّاً. ليس مهمّاً عندها، أبداً، أن تتوقف عن التفكير لتتمكّن من كبح تصورات تخوضها حيث تتشبّث بكلاليب داخل رأسها. فهي، إلى الآن، لم تستوعب فكرة أن تتخلى عنها حياتها ببساطة فتهبها بيسرٍ جليٍّ لوعةً ذات حزن. لذلك تصطخب كينونتها، كلُّها، فتتراشق سهام برق في مخيلتها. ثم يرفس فؤادها ما يشبه حوافر، أو أظلافا، حين يُخيّم على روحها غيمٌ حزين يستطيل حتى يكاد يُلامس السماء.
ستقولون: صورة خرافية!
نعم.. لكن صدّقوني:
هذه الحقيقة بكلّ ملابساتها أو التباساتها، سيّان، حيث تنعمون بجمال، تحسبونه دائماً، لكن برؤية أظفار ملونة منغرسة في أحشائي.
ذلك، في سبيل المثال، ممّا يُحفّز على التبرّم أحيانا، بل غالباً ربّما؟!، حين تبدو خاويا، داخلك و/أو خارجك، تجرُّ نفساً عميقاً بصعوبة، كعتّال وُضع على ظهره حملٌ ثقيل، إذ تبقى ظلال، تأبى مفارقتك، تتقافز أمام عينيك اليقظتين، المتوثّبتين، فتتابعانها متحفّزتين للخلاص دون فائدة.
هكذا كانت فكُنتُني معها، على الدوام، كما فارق العمر بيننا، أيضاً، أقصدُنا نحن الأخوة.
كان حملها الأخير شاقّاً عليها، أدري بذلك، فقد كبرت.. ظهرت عليها علامات جهد بدني مع تعب نفسي.
ها أنا ذا الآن أتذكّرها، كأنّها أمامي هنا، حين جاءت تحتضن بذراعيها طفلة قمرية الوجه، بشرتها وردية .. شعرها مشمشي، تلوذها عن عيون الجارات قبل حرارة الشمس.
سعدت أمي بالمولودة الجديدة، كثيراً، مثلما فرحنا بها نحن، أنا وأخوتي، فحظيت بمحبّة منّا جميعنا: نُلبسها بدلات شفّافة، خيطت بعناية، فتكشف عن بشرتها البيضاء كالثلج .. نصبغ أظفارها الناعمة بطلاءات متنوّعة، في آن واحد!، فتبدو أصابعها الرشيقة كأقلام ملونة.
صارت “غفران” لُعبتنا المحبّبة، جالبة لنا المسرّة، بل غدت شغلنا الشاغل حيث لا شيء يعوِّض دقيقةً عنه. نراها تكبر، فتصير أجمل، حتى بلغت من العمر سنة كاملة. حينها ازدانت ببدلة بهيّة بيضاء، خاطتها أمي، فبدت مثل ملاك هبط على أرضنا.
هل للقدر دورٌ ما في حياتنا؟
تُحمّلنا بما لا نطيق، بل بكلِّ الذي لا يطاق، وما زالت براعمنا غضّة لم تتصلّب حتى الآن. تُجبرنا، بذلك، لأن نتعلّم القسوة على أرواحنا، وإلا فما قيمة أن نعيش في بيئة فُرضت علينا؟!، وأن تكون لنا طاقات للتحمل تفوق كلّ المتخيل. تعتصرنا، من ثم، فلا يعنيها أنّا طريّون، حتما، وإذا اعتقدنا أنّنا يابسون بوجهها، آه، ستقهقه قهقهات متواصلة بوجوهنا تُعلّمنا كيف نُكسر بكل سهولة.
لذا لن نكون إلّا وفق إرادتها!
هل للقدر يدٌ فيما خطّه على حياة “غفران”؟!
ثمة مساء بدا شاحبا، يا لله، بينما هبت ريح حملت معها ذرات غبار متصاعد فحلّقت أكياس نايلون سوداء، طارت لمسافات قصيرة، ثم حطّت على أرضية شارع ترابي.
في ذلك المساء الشاحب لم تلعب معنا، ما أجابتنا حين كُنّا نُناغيها، ظلت ساكنة بلا حراك. مرت أيام دون أن تصحو، لم تشفَ، حيث ازدادت حالتها سوءا يوما بعد آخر. كانت أمي، تأخذها لمستوصف، تزرقها في النهار إبرة وفي الليل أخرى، لأيام عديدة، لكنّها بدأت تذوي ناشفةً شيئا فشيئا.
كم من رزايا علينا أن نطوقها بقوة صبرنا، الذي يحتملنا، حيث نقف وقفة كبرياء لنُعظّم لها السلام؟!
ليس كلُّ ما يبرق في عينيك، منذ البدء، يظل على حاله، لا، فقد يكون هذا بروق حزن، له ومضات ستحرقك بشررها، بينما تحمل على كتفيك موتاً تُغبَط عليه!
……….
……….
……….
ماتت “غفران”…