يطرق صاحب شديد البرودة ليلا ً في هذا العمل دربا ً شائكا ً دون خجل أو وجل ، يقتحم طريق الفتنة الطائفية و اضطهاد المسيحيين في مصر . يسأل سؤالا ً … هل فعلا ً يوجد أضطهاد للمسيحيين في مصر؟؟ الأجابة بين صفحات الرواية … نعم يُعاني الشريك الاخر في الوطن من ما يُمكن أن يُطلق عليه دون مواربة ” عنصرية ” .
اعتمد الكاتب أثناء كتابته للرواية على تقنية الرواه المتعددون . و أعتقد بالإضافة أن هذه التقنية تتيح للكاتب سهولة التعامل مع شخصياته أنها فتحت نوافذ قلوب الشخصيات على مصراعيها ، فأصبح القارئ يرى الشخصية بكافة جوانبها و يتعرف بسهولة على مكنونها . كل شخصية لديها ما تُخبئه عن الأخرى ، تحوي بداخلها شيئا ً ليس بالضرورة سرا ً قد يكون جانبا ً يُضيف بُعدا ً آخر للحكاية ، لا تكتمل هذه الجوانب إلا مع انتهاء الرواية و مع وصول الحكي للصوت الأخير المُمسك بيده كل خيوط المشكلة أو الفاعل لها .
تبدأ الرواية بجزء من وصية الخديوي اسماعيل لخادمه بقطر الجاولي التي تقضي بمنحه أراضي عزبة الوقف الواقعة بين سرايات أبنائه ( منطقة بين السرايات حاليا ً ) . ” سمحت إرادتنا أن نمنح خادمنا بقطر الجاولي و أفراد أسرته الصغيرة مشمول حدائق و فدادين عزبة الوقف البالغ مساحتها ألف ألف ذراع في بقعة من أروع بقاع الجيزة الغناء الواقعة بين سراياتي أبنائي البرنسات حسن و حسين و أمام حقول و جنان و بساتين ابنتي البرنسيسة فاطمة ” . هنا يكمن حجر أساس الرواية الذي ينطلق منه الحكي .
قسم الكاتب الرواه أو الأصوات إلي تسعة أصوات بدأها بالفصل المُعنون بــ ” العصافير ” تروي العصافير التغيير الذي طرأ على منطقة بين السرايات عبر تاريخها المُمتد بدءا ً من عصر الخديوي اسماعيل حتى عصرنا الحالي مع رصد كافة التبديلات التي جرت . هذا الفصل أو المدخل موفق لرواية شائكة . قد يُخدع القارئ في هذا المدخل الذي يبدو حالما ً نوعا ً ما ، لكن بُمجرد عبورنا المدخل ، سنطأ منطقة مغايرة وعرة .
المُلفت في هذه الرواية أنها تلقي الضوء على موسيقى ما يسمى بالــ ” المهرجانات ” . من خلال شخصية أحمد خريشة ساكن بين السرايات القديم ، ذلك الكهل الشاهد على عصر فات و بداية عصر جديد . يعتبر المنطقة إرثه ، مما يجعله يتدخل في شئون الاّخرين . فيلتقط بعينه ما يسعى حسبو و حمزة أبو نور إلى عمله في المنطقة من شراء المنازل و تهجير أهل الحي بايعاز من حمزة ابو نور زوج شفق ابراهيم الراغبة في استعادة أملاك جدها . مثلما كان خريشة شاهد على العصر هو ايضا ً شاهد و مشارك و في محاولة إفساد الذوق العام بموسيقى المهرجانات . بمعنى أدق هو نفسه دليل على الأنحدار الذي وصل إليه المجتمع .
أما المهندس عزيز بطرس فيني طليق السيدة شفق ابراهيم حفيدة بقطر الجاولي صاحب أراضي عزبة الوقف ( بين السرايات ) فهو ضحية الأب المُتعدد العلاقات النسائية و الخادم الأنيق المُتشدد ، فبدا كأنه بين طرفي مقص ، كل منهما يُشذب و يقص في شخصيته و فق أهواءه . و كنتيجة لتلك التربية الغير سوية يعتقد عزيز في المرأة بوصفها كائنا ً لتفريغ الشهوة وليس أكثر ، حتى نظرته لزوجته السابقة شفق قبل أن يتزوجا لم تخرج بعيدا ً عن هذا الإطار . يعود عزيز لمصر بعد سنوات من الغربة ، لينغمس في مشروعاته و يكاد ينسى زوجته ، لتتعقد العلاقة بينهما مع أزدياد حجم فكرتها المجنونة باستعادة اراضي جدها من الدولة . لنجد أن المشاكل المشتعلة بينهما ما هي ألا انعكاس للتغييرات و الأضطرابات التي تجري في المجتمع قبل بدء ثورة 25 يناير .
و كما ذكرنا أن الرواية ترصد معاناة الأقباط ، نأتي للفصل الذي يحكي فيه الأنبا الذي رفض ذكر اسمه فنجده يحكي عن شفق التي غيرت دينها و لجوء عزيز للكنيسة التي لم تنصفه . و حينما يسعى للزواج مرة أخرى بأعتبار أنه الان غير متزوج بعد اسلام زوجته السابقة و تزوجها من الداعية حمزة ابو النور ، ألا أن الكنيسة ترفض أيضا ً . المهم في هذا الفصل غير أنه يرصد مشاكل الاقباط حتى مع الكنيسة ألا أنه يلقى الضوء على العلاقة بين الأنبا – الذي يحكي الحكاية مُضيفا ً لها جانبا ً اخر – و البابا شنودة ( طبعا ً لم يتم الأفصاح عن اسمه ) . كل منهما مُتمسك بمبدأ مُخالف للأخر . الأنبا يدعو للتجديد و القبول بالطلاق ، والبابا يرفض كما اقتضت التعاليم الأولية للكنيسة .
شاندور عالم الأثار الالماني الذي يزور مصر للعمل كأستاذ زائر لفترة مؤقتة في كلية الأثار جامعة القاهرة . الذي بمجرد وصوله لمصر يقع ضحية عملية نصب مُتقنة . أسهب وجدي الكومي في وصف واقعة النصب التي تعرض لها شاندور أستغرقت حوالي ما يقرب من 30 صفحة بالأضافة لسرده عن زياراته للمناطق الأثرية . الحكي ممتع لكنه كان سيكون أكثر أمتاعا ً لو كان أقل بعض الشئ . يروي أيضا ً ذلك العالم المشكلة بين شفق و عزيز لكن من منظوره هو ، فينقشع الضباب شيئا ً فشيئا ً مما تتضح الصورة أكثر .
من أجمل شخصيات الرواية جوجو أو أيوب لويس مسيحة . هنا يكتمل الموزايكو ، نكتشف بعدا ً آخر للأزمة . جوجو الذي يهوى الموسيقى يرتيط بقصة حب مع دميانة التي تُختطف على يد زهران العضو في تنظيم خطف البنات المسيحيات و إجبارهن على الإسلام، لعل من أجمل مشاهد الرواية المشهد الخاص بثورة 25 يناير و جوجو مُمسك بالأوراق التي تحوي صور دميانة و تاريخ تغيبها . يقوم جوجو بالقاء الأوراق في الهواء فيلتقطها البعض ، لكنهم هذه المرة لا يمسحون بها عرقهم . عبر هذا الفصل يتضح سر عنوان الرواية ” إيقاع ” . نغوص مع جوجو مع فكرة هذه الموسيقى و بدايتها و طريقة أدائها .
التضاد الكامل الذي يُبرز المعني و يوضحه يتضح في شخصية زهران و الشخصية المضادة لها حمزة أبو نور . فنهاية زهران بعد ثورة 30 يونيو دامية تُشير إلى أن الضحايا دوما ً من الشباب أو المضحوك عليهم بأفكارعن قيادة و أستاذية العالم أفكار سيد قطب المُتطرفة، وعلى الجانب الاخر شخصية حمزة أبو نور الذي رغم سجنه ألا انه في زنزانة مُجهزة و يستدفئ ببطانية على عكس الضحايا الشباب الملقون في الاستاد أو الذين ذهبت أرواحهم سدى .
بوصول السرد إلى شفق إبراهيم نصل لأول و آخر المشكلة ، هنا تتضح خيوط اللعبة بالكامل ، وللحق نجح صاحب خنادق العذروات في جعل القارئ متشوق ليعرف المزيد عن هذه السيدة اللغز فجعلها في نهاية الرواية ليضمن استمرار القارئ في القراءة . شفق إبراهيم سيدة قبطية متزوجة من المهندس عزيز بطرس تجري وراء سراب استرداد اراضي جدها بقطر الجاولي بعد أن قرأت الوثيقة التاريخية التي أحتفظ بها جدها و تركها لها . تسرد شفق المفارقات التي تجري لها بوصفها مسيحية و تذكر بعضا ً من التاريخ قبل دخول العرب مصر . لنستنتج أن محاولات شفق استرداد بين السرايات ما هي ألا رمز لفكرة أعمق لاسترداد مصر أو يمكن أن نقول إعادة كتابة التاريخ . المشهد الخاص بتغيير شفق لدينها من اهم المشاهد ، الحيرة التي تنتابها مع دخولها الإسلام ، حتى يُصبح الدين بالنسبة لها أعتياد بعيدا ً عن كونها مُقتنعة به أم لا .
جاء مشهد النهاية مُعبرا ً للغاية أو من الممكن أن نقول أنه يتنبأ بعصر ما لا أدري إن كنا سنراه أم لا ، جوجو الذي يسافر إلي المانيا لعرض ذلك النوع من الموسيقى بُمساعدة شاندور ، في إشارة إلى عصر تتعاظم فيه موسيقى المهرجانات و انتشارها عالميا ً .
الرواية مُمتعة للغاية و تُمسك بتلابيب القارئ ، وتجعله ينجذب لعالمها الشديد الواقعية ، وإن كان جمالها لا يمنعني أن أهمس في أذن وجدي “أرجوك خفف من جرعة السياسة ، فالسياسة لعبة قذرة لا تلوث بها سردك الجميل” .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص وكاتب مصري