هو واحد من الروائيين في العالم العربي قاد الثقافة في بلده لبنان زمنا طويلا، حتى قورن بإدوارد سعيد، كونه عندما تستمع له وهو يناقش يجمع بين الماضي والحاضر بخيال خصب، وقد يستفزك حينما يتناول بالتحليل الواقع السياسي المرير الذي تعيشه البلدان العربية، كتب اكثر من 16 كتابا منها 11 رواية، ويعد رائدا في جيله لعقود كثيرة حتى حط رحاله أستاذا في جامعة نيويورك العالمية المتميزة، ليدرّس فيها شهرا واحدا أما بقية العام فيقضيه في بيروت التي هي كل حياته كما يقول.
التقيت مع خوري في ربيع هذا العام قبيل توجهه للسفر الى بيروت، وتحدثنا عن روايته الأخيرة “كأنها نائمة”، التي ترجمت الى الإنكليزية مؤخرا، وصدرت عن دار آركيبيلاغو، للمترجمة وأستاذة الأدب العربي وتاريخ الشرق الأوسط الحديث بجامعة أكسفورد “مارلين بوث”، وعن حياته ككاتب وناشط سياسي وعن الربيع العربي، والذي توضح لي من خلال هذا الكم المعرفي والحياتي الذي يحمله، أن خوري من قدامى المحاربين والمناضلين السياسيين في بلاده، ودوره في منظمة التحرير الفلسطينية لا يخفى على أحد من اللبنانيين الذين يعرفون نضاله جيدا، وقال أنه لا يزال يتمتع بالحيوية ومعرفة ما يدور في شرقه العربي كما كان في أول شبابه ورواياته زاخرة بالحيوية والتحدي، واستقلاله السياسي منحه سلطة فريدة من نوعها مثل أدونيس الشاعر السوري العالمي، فهو منجذب بشكل كبير للتقاليد والأشكال الأدبية العربية، لكنه يعمل في كتاباته على كسر قواعدها التقليدية سواء بلغتها أو موضوعاتها.
عندما تحدثنا عن الوضع في سوريا، قال: إن قلقه زاد بشكل كبير لأن العنف قد يطال بلده لبنان بحكم الجيرة، وكأن ما يجري في سوريا يمكن أن يحدث في أي لحظة في لبنان، وردد قائلا: ( الجميع يخاف ذلك )، خوري لديه شقيقة تعيش في دمشق متزوجة من سوري، ويشعر كثيرا بالقلق تجاهها بعد توسع رقعة المعارك هناك، التي يمكن أن تصبح طائفية بعد دخول المتشددين إليها كما حدث في العراق حينها، ويمكن أن تقع سوريا فريسة لهذا النوع من الصراع الطائفي، خوري تذكر صفحة من صفحات معارك المعارضة في لبنان، وكيف عمل منذ سنوات بعيدة في الحركة الوطنية اللبنانية، التي ضمت حينها مسيحيي ومسلمي لبنان على السواء، الذين قاوموا الطائفية التي بدأت رقعتها بالإنتشار، في ظل برلمان منقسم عرقيا وتدخل سافر من لدن دول الجوار، للتأثير على القرار الوطني اللبناني ومحاولة تقسيمه، من هنا نحن المثقفين في كل مكان نحاول جعل تضامننا مع الشعب السوري خارج هذا الانقسام، الذي عاشه لبنان من قبل، وضد خطاب الطائفية بأكمله.
خوري وإن كان يتكلم معي باللغة الإنكليزية، إلا أن لكنته العربية واضحة وضوح شخصيته اللطيفة، وهو يرتدي نظارته التي كشفت عن مقدار ما تعانيه عيناه، اللتان أصيبتا بعمى مؤقت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، أما شعره الأبيض فهو يشي بالكثير من الهموم التي عانى منها، لكن صحته جيدة وهو المولود عام 1948 في حي الأشرفية شرق بيروت، في منطقة تدعى “الجبل الصغير”، وهذا الإسم سيكون أيضا بمثابة عنوان لرواية قادمة كما أخبرني. نشأته كانت في أحضان عائلة مسيحية أرثوذكسية متوسطة الحال، عشق جدته التي كانت تتمتع بثقافة جيدة، فكثيرا ما كانت تقرأ له الشعر، وحببت إليه كذلك قراءة النصوص الدينية من الإنجيل والقرآن الكريم، الذي يعترف بحفظه بعضا من أجزائه، وينظر لسفر أيوب على أنه تحفة دينية.
في عام 1967 شهد صعود الحركات المناهضة للإستعمار، وتابع أخبار الثورات التقدمية في أمريكا اللاتينية، وبسبب حرب الأيام الستة التي خلقت جيلا من اليساريين، فقد انضم الى حركة فتح نصرة للشعب الفلسطيني، الذي تدفق بالآلاف كلاجئين. لذا أصبحنا أمام كارثة حقيقية كما يقول، فكان لزاما علينا أن نرد وهذا ما حصل من صراع اسرائيلي فلسطيني عربي، وأنا فخور بتلك المشاركة، ربما لم أكن لأفعل ذلك لولا أن وجدنا أنفسنا أمام أمثلة قوية في فيتنام، وما قدمه جيفارا من نضال، ولم تكن هناك وسيلة أخرى غيرها. عواطفه لم تتراجع مع كل ما شهدته تلك العملية من تغيرات، ومن غير المرجح أن يحمل السلاح مرة ثانية كما فعل لفترة وجيزة كما يقول، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، التي استمرت من عام 1975 حتى عام 1990.
روايته “كأنها نائمة” تعكس موقفا متشككا تجاه القتال، فـ “منصور” وهو بطل الرواية لا يريد خوض المعركة، كونه سيخسرها لا محالة، ويعرض خوري للدروس المستفادة من الصعوبات التي لاقتها المقاومة خلال العقود الماضية، أما “ميليا” زوجته التي تحدت سلطة عائلتها المتدينة وتزوجت منه، وهو الفلسطيني من يافا قبل أن تنتقل للعيش معه في الناصرة قبل حدوث النكبة بقليل، فهي غير مهتمة بما يجري في الواقع السياسي، مع أنها تشعر بخطورة المرحلة وتحولاتها، وتخالطها نتيجة لتربيتها الدينية المتزمتة، أحاسيس جارفة بأن الجنين الذي تحمله بأحشائها سوف يقتل، وان مقتله سيكون قربانا وأضحية لتلك التحولات، كما يراودها شعور أن فلسطين على حافة الضياع، وتشكل أحلام “ميليا” مادة الرواية الأساسية وفضاءها الدرامي ومختبرها العميق، كما تمثل في الوقت نفسه نقطة افتراق والتقاء، افتراق عن الواقع العياني المباشر والتقاء مع أحلام الشعراء العرب الكبار، عبر حواراتها مع زوجها “منصور” المولع بالشعر
وتتعدد مستويات الحلم والواقع بين “ميليا” وأحلامها وزوجها والأشعار التي يحفظها، هما اللذان يعيشان في مدينة الناصرة، مدينة المسيح والمعجزات التي يتداخل فيها الواقع بالنبوءة.. كل ذلك في سرد متداخل ومعقد يفضي إلى “حقيقة” أن الإنسان يعيش حياته في عالمين متداخلين، عالم الواقع وعالم الخيال، وأن عليه أن يندمج في العالمين معا لكي يحقق التوازن المطلوب.
وأما توازن “ميليا” في هذا السياق، فيتحقق عبر إيمانها بما أخبرتها به جدتها، وهو أن الفرق بين الولادة والموت ضئيل جدا، وأن الشخص الحي عندما يحلم فإن بإمكانه أن يستيقظ من النوم، بينما يستمر الميت في حلمه إلى الأبد. وأحلام “ميليا” ليست أضغاثا، فهي تؤمن بأن أحلامها سوف تتحقق، وقد اختبرت هذه الحقيقة عندما كانت طفلة صغيرة، حيث اعتادت أن تخبر أسرتها بأحلامها، فكان يعتري أهلها الخوف والتوجس من تحقق أحلام الفتاة، التي كانت تتنبأ فعلا بما يمكن أن يحدث لاحقا.
قال عنه الكاتب العراقي “سيمون أنطون” زميله في جامعة نيويورك، الذي قدمه في احتفال صدور الرواية قائلا: (كتابات إلياس خوري لا تزال تشكل للكثيرين منا بوصلة للوصول الى أرض الواقع، هذه الأرض التي ظلت مجهولة المعنى سنوات طويلة، فهو يزعزع الاستقرار السردي من الداخل ليعطيه أبعادا أخرى تجريبية).
بعدها تحدث خوري عن الرواية التي انتهى منها قبل سنوات قائلا: (إن “ميليا” تبدو لي كما لو كانت لشخص ما يعيش معي، وكان من حسن حظي أن أحبها فقد علمتني الكثير عن الحياة والأدب)، هنا انحنت امرأة كانت تقف الى جواره لتسأله عما إذا كان يتحدث عن شخص حقيقي قال:
– لا، ولكنها تبدو لي بهذه الصورة التي أتخيلها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعقوب سيلفرمان
صحفي أمريكى
نقلا عن: صحيفة الديلي بيست – 13 أغسطس 2012 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ