جمعة الموفق
بما أن قصيدة النثر، ومن ثم مدرسة ما بعد الحداثة قد فتحت أبوابا لامتناهية للتأويل، فإنه حري بالقراءة أن تنتهج أسلوبا أكثر حذرا، حذر الوقوع في الرتابة. ومحاولة كشف غايات النص، وهي محاولة تحيد بنا عن الهدف، أي هي بالأحرى خطأ مبكر نبني عليه القراءة. لا غاية واحدة للنص حسب مفهومنا للتأويل، ويظل الشاعر يبني نصه على نحو لا معياري كما يؤكد كوهين. أي هي انزياح. الشعر صنعة وفن، فنص الشاعر لا يقع تحت طائلة الفهم الواضح، فلغته ليست معيارية.
ورغم أني أميل، مدفوعا بحب صوفي، نحو الكشف؛ لذا، أؤكد لا قراءة واحدة حاسمة، بل قراءات لا نهائية.
فالصوفية نفسها تؤكد دائما أن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق! والكشف بمعناه الصوفي هو تجربة ارتقاء وتلقٍ، وأضيف مكابدة، وشرطها المحبة.
إن لم تكن صاحب ذوق، فلن ينكشف لك النص، إن لم تراود النص، إن لم تقع في حبائله، لن يكشف لك سره؛ والسر في الصوفية هو فيض إلهي يستحيل كتمانه، وعادة ما يقود للشطح، والشطح، كما نعرف فيه رعونة. والنص الشعري العالي هو فيض الشاعر.
سأكتفي بهذه المقدمة الآن.
في مجموعته (رجل من حبر) يكتب العابد برمزية عالية ومثابرة في اللغة، لا اللغة فحسب، فالعابد يوظف حتى الفراغ، أي البياض نفسه، حيث يتجلى الحبر. والتجلي تعبير صوفي بامتياز، سأوفر جهدي وأدخل من خلال بنية نص واحد في المجموعة (امرأة على حافة سريري) وحسبي أن هذا النص يشكل روح المجموعة، تجلى فيه العابد بكلمة واحدة هي (هناك) الكلمة المفتاح، والسر، فهي من حيث البناء تؤدي غاية جمالية كنقش فريد يميز النص. لكن ربما اكتشفنا شيئا آخر، أقول لكن، لأن العابد قد يفاجئنا في النهاية النص!
وهي كلمة يضعها بعد فراغ طويل، أي بعيدة، تؤدي إلى ما بعدها، وإن أحببت فهي تكمل معنى ما قبلها، دورها المحوري في النص، وكأنها علامة ـ العابد عاشق دلالة، فحتى بحثه في قصيدة النثر كان سعيا للدلالة ـ أقول يضعها وحدها في النص، ترد هكذا:
لا ماء في عينيكِ/ لا حجرَ في يدي/ فكيف تبيض مواسمي/
وأنتِ هناك
على حافة/ سريري/ غيمةٌ نزقْ/لا تُمطر/ إلا إذا رميتُها/ بحجر
إن(هناك) في النص تعني البعد والقرب معا، فصل ووصل، فـ(هناك) اسم إشارة يدل على المكان البعيد هذا من حيث اللغة.
لكنه يقول / هناك على حافة سريري/ غيمة نزق/ لا تمطر/ إلا إذا رميتها/ بحجر. أي ليست بعيدة فهي عند حافة السرير.
وعندما نقرب كلمة(هناك) من (أنت)يمكننا أن نفهمها /فكيف تبيض مواسمي وأنت هناك. وعلى هذا المنوال يسير النص.
إن العابد يترك لنا حرية تحريك النص. أي يمنح القراءة مساحة ليس للتأويل فحسب، بل بالتحريك، أي التفاعل، وهو تفاعل واجب، إن فمهت روح النص، أليس هذا جميلا ومدهشا؟
أندهش من البناء، من معمار النص، فالعابد معماري مفتون بنصه، نصه الشديد الاتقان، يضع كل كلمة في مكانها، وليس ثمة كلمة زائدة، فهو يبدو كما لو أنه يشيد قصرا للروح، بناء يكون محل نظر الله.
والدهش الصوفي حسب تعبير الهروي هو: بهتةٌ تأخذ العبد، إذ فجأه ما يغلب عقله أو صبره أو علمه. وهذا يتحقق شعريا حين تأخذنا فجأة بهتة المعنى. ودهشة البنية في النص.
لماذا (هناك) هي روح النص؟
لنضع النص، أولا، على البياض، ونقرأ بتمهل، أو لنشاهد النص، المشاهدة هي إحدى مقامات التصوف، عشر مقاطع، لا تفوتوا قراءة النص، سيفوتكم عين الجمال وماؤه!
(1)
لا ماء في عينيكِ/ لا حجرَ في يدي/ فكيف تبيض مواسمي
وأنتِ هناك
على حافة/ سريري/ غيمةٌ نزقْ/ لا تُمطر/ إلا إذا رميتُها/ بحجر
(2)
شاسعٌ/ هذا السرير من دونك/ يسكنه جنُّ الوحدةْ/ وتعلو فيه همهمات/ الصمتْ/ وأنا أضعْتُ جرار الحبّ/ أمدّ يدي
إلى حيثما أنتِ هناك
على حافة/ سريري/ غيمةٌ/ مسكونة باشتهاء الحجرْ/
(3)
لا زيتَ في عينيكِ/ لا نار/ في يدي/ فكيف نوقد عشقنا؟ / وماذا نطعمُ/ عصافيره؟ / ونحن غرقى في عتمتنا/ فتعالي/ ليس في القنديل زيت
وما من رغيف/ لم يعد لنا عشّ/ يبدّد برد شتاءاتنا/ كلّما بال الليل/ على أعناق العشبْ/ باردٌ/ هذا السريرْ/ وأنا عارياً/ أقتطع أصابعي
كي أطعمها لأفراخ النار/ وأمدّ عينيّ/ إلى حيثما أنتِ/ هناك
على حافة/ سريري/ زيتونة/ لا تُضيء/ إلا إذا ضربتُها/ بفأسْ.
(4)
لا حبر في عينيكِ/ لا قلم/ في يدي/ فكيف أقيّد هذا الشعر/ وهو يسير متخفيّاً/ على بياض ورقتي/ ذئبَ تيهٍ/ وشيطاناً من حبر
كيف أقتفي حوافر القصيدةْ/ وهي تمشي/ إلى حيثما أنتِ هناك
على حافة/ سريري/ دواة عَرقْ/ منذورة لانتصاب القلمْ.
(5)
لا نبيذَ في عينيكِ/ لا كأس/ في يدي/ فكيف سننسى خيباتنا؟ / كيف أطفئ قلبي؟ / مشتعلاً/ بزيت الذكرياتْ/ كيف/ أتلو ابتهالات عشقنا/ من غير سُكرْ/ كيف/ يُسرى بي إلى الآنْ/ وأنا هنا/ على هذا السريرْ/ أسرد تاريخه/ أبحثُ عنك في حكاياته
أسأل أنفاسك/ فتُشير إليك هناك
على حافة/ سريري/ كرمة معصيةْ/ تهفو/ إلى شفاه الكأس
(6)
أنا هنا وأنتِ هنا/ على حافة/ سريري/ فكيف انهمرت هناك
أغاني مطرٍ/ وغزالة عشق/ كيف انهمرت هناك
نزوة حبرٍ/ ونبيذاً مشتعلاً في كأسْ/ أنا هنا وأنت هنا هـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــناك
(7)
لا خطى خلف الباب/ لا صهيل عند النافذة/ فكيف تسرّب هذا الشتاء/ إلى عينيّْ/ يدحرج الماء/ ويجرّ غيومه/ نحو حقولي
وأنا بذاكرة حطّاب قديمْ/ عرفتُ النار/ كمنتُ لها/ وصدتُ عصافيرها/ أنا صانع الأعشاش/ وواهب الدفء/ كيف/ أجابه كلّ هذا الشتاء
من غير حضن؟ / ولا طعام في الجراب/ لا زيت في الفتيلة/ كيف/ أهزم البرد؟ / وأنتِ هناك
على حافّة/ سريري/ امرأة من قشّ/ يغويها عود ثقاب/ على الضفّة الأخرى/ من/ العالم.
8
لا خطى خلف الباب/ لا وميض عند النافذة/ فكيف/ أمطرت غرفتي/ كلّ هذا الشعر؟ / كيف/ انهمرت القصائد/ وجعاً وخيبةْ؟
وأنا بذاكرة فلّاحٍ قديم/ غنيّتُ للماء/ ولاحقتُ الغيوم/ ركضتُ خلفها مثل صبيّ/ ورميتها بالحجارةْ/ أنا حارث البياض
ومالئ جراره بنطف الحبر/ كيف/ أجابه كل هذا الشعر؟ / وليس في يديّ/ غير فأس ودواة/ وأنت هناك
على حافّة/ سريري/ تُهرّبين البياض/ إلى شاعرٍ آخر/ على الضفّة الأخرى/ من/ العالم
(9)
لا خطى خلف الباب/ لا ليل عند النافذة/ فكيف ضجّت غرفتي/ بالنقيقْ؟ / ومن أين فاض/ ريق الظلام؟ / وأنا بذاكرة ملّاح قديم
صنعتُ القوافي/ تحسّستُ خوف القصيدة/ وهي تجري/ على لجّة العشق/ حملتُ فيها من كلّ قلبين/ اثنين/ أنا وأنتِ/ أنتِ وأنا
وغنيّتُ/ للريحِ مثل ملّاح خبير/ يعرف نزق الماء/ وشبق السفينة/ كيف/ أجابه كلّ هذه العتمة؟ / وما عاد في القلب/ شغف
وحيداً/ أنظر إليكِ هناك
على حافّة/ سريري/ ضفدع مطفأ العينين/ يتبع قلبه/ ويجْدفُ/ نحو الضفّة الأخرى/ من/ العالم.
(10)
لا خطى خلف الباب/ لا طَرْق على النافذة/ لكنّي/ أرى ظلّاً يصعد الحائط/ يتكوّر مثل نبيّ داخل كهفه/ يمسكُ بطرف أحلامه/ ويرتجف
كأنه وتر/ وأنا بذاكرة حالمٍ قديمْ/ صحبتُ اللهب/ راقبتُه/ وهو يمدُّ عنقه إلى أعلى/ وينظرُ إليّ/ بعين/ واحدة/ مثل ديك/ صعدتُ السلالم
لألمس أحلامي/ ماريتُ قامتي على الحائط/ وأنصتُ بعينيّ/ إلى وحْي الزوايا/ كيف/ أقبض على نبيّ الظلّ؟ / وهو يتسرّب/ كلّما اتجهتُ نحو الحائط
إلى حيثما أنتِ هنا
على الضفّة الأخرى/ من/ العالم.
في آخر النص يستبدل الشاعر كلمة (هنا) بكلمة (هناك) محافظا، في نفس الوقت على المسافة،
إلى حيثما أنتِ هنا
على الضفّة الأخرى/ من/ العالم.
فتصير هنا هناك، كما يشير في المقطع السادس (أنا هنا وأنت هنا هناك)
أي نحن هنا ونحن هناك على حافة السرير. لكنها على الضفة الأخرى من العالم. أي هي مجرد حلم.
نعرف، من عنوان المجموعة، أنه رجل من حبر، إن محاولة فهم النص تنطوي على مخاطرة، مخاطرة أن ينغلق النص، فلا يبقى لك إلا الخذلان، يضيء النص، يتفتح مثل وردة؛ كلما وهبت له نفسك.
لماذا اسم الإشارة هو روح النص؟
أيجب أن أوضح أكثر، وأثرثر أمام البهاء، ألا تكفي الإشارة؟ فالإشارة هي لغة التصوف.
وعلى مستوى آخر
يبدأ النص بـ لا ماء في عينيك
وتستمر المقاطع مبتدية بـ لا باستثناء المقطع الثاني لأنه يحدد لنا ماهية السرير فهو شاسع، ويسكنه جن الوحدة، وتعلو فيه همهمات الصمت، رغم أن الشاعر يستخدم مفردات عنف، وهي مفردات لا تخرج عن الشعرية، ليجبر المرأة/ الغيمة على المطر، فهي، كما يوضح لنا، مسكونة باشتهاء الحجر. ثم يعود للغة العنف دون أن يتخلى عن شعريته: زيتونة لا تضيء إلا إذا ضربتها بفأس. استحضار كلمات مثل الحجر والفأس والضرب، هي كلمات رغم تعسفيتها فهو لا يستعملها، لأنه يخبرنا: لا حجر في يدي. كما يقول في مفتتح المقطع الأول.
ولابد أن نفطن، حتى وإن أخذتنا الدهشة إلى أن الشاعر يورد كلمات ويكررها دون أن يصيبنا الضجر، فكلمات مثل: قلم، وفأس، وانتصاب، حبر، ذئب، وماء، الضفة الأخرى، العالم، والتكرار ضرورة، تحمل الكلمات معانيها المتخفية فوق سطح النص، إن شئت ذهبت إلى تلك المعاني، وإن شئت بقيت على معناها الواضح والصريح، وفي أي المعنيين لن يغيب عنك الجمال
يعود الشاعر لـ لا في المقطع الثالث، لا زيت في عينيك، لا نار في يدي. وفي المقطع الرابع يقول: لا حبر في عينيك لا قلم في يدي
وفي المقطع الخامس تستمر لا، حيث يقول: لا نبيذ في عينيك، لا كأس في يدي. وفي المقطع السادس يتخلى عن لا ليقول لنا: أنا هنا وأنت هنا
ثم يعود في المقطع السابع ليقول هذه المرة: لا خطى خلف الباب/ لا صهيل عند النافذة/
ستتكرر لا، في المقطع الثامن والتاسع والعاشر مع تكرار: لا خطى خلف الباب/ لا وميض عند النافذة
في التاسع لا خطى خلف الباب لا ليل عند النافذة
وفي العاشر: لا خطى خلف الباب لا طرق على النافذة.
يضعنا الشاعر في الجو، في المكان، فلا نسمع حركة، لا عند الباب ولا عند النافذة، ولا نرى وميضا ولا حتى ليل.
ماذا عن المكان، الذي هو السرير الشاسع بدونها، وثمة، أيضا، الضفة الأخرى من العالم
شاعرنا وحيد في العتمة، صموت ممدد فوق سريره، يناجي طيفها الذي لا يجيء.
وعلى نحو آخر
يخصص الشاعر تسع مقاطع ليصف بها المرأة التي حافة سريره، فهي في المقطع الأول: غيمة لا تمطر.
وفي الثاني: مسكونة باشتهاء الحجر، وثالثا هي: زيتونة لا تضيء، ورابعا هي: دواة عرق منذورة لانتصاب القلم!
وخامسا هي: كرمة معصية تهفو إلى شفاه الكأس، وسادسا هي: نزوة حبر ونبيذا في كأس.
في المقطع السابع والثامن والتاسع يلفت انتباهنا بتكرار: الضفة الأخرى من العالم.
فهي: امرأة قش يغويها عود ثقاب على الضفة الأخرى من العالم.
وهي: تهربين البياض إلى شاعر آخر على الضفة الأخرى من العالم.
وهي: ضفدع مطفأ العينين يتبع قلبه نحو الضفة الأخرى من العالم.
وإذا كانت (هناك) هي روح النص؛ فالضفة الأخرى هي مأزق الشاعر، فامرأته يغويها عود ثقاب، لأنها من قش، وتهرب البياض لشاعر آخر، لماذا تفعل به ذلك، يجيبنا الشاعر بوضوح؛ لأنها ضفدع مطفأ العينين.
بينما في المقطع العاشر يعود إلى نفسه، إلى خياله، فيرى خياله ظلا يصعد الحائط، نسأل: من أين أتى باللهب؟ وهو يؤكد لنا في أول النص أنه يسكن العتمة، المقطع الأخير بمثابة رجوع إلى ذاكرة حالم، فهذا اللهب يوقد من شمعة الخيال، فيرى ظل نبي يتكور في كهفه، تغدو الغرفة الآن مجرد كهف، والكهف يستلزم الوحي والانصات للزوايا.
إن وصف الظل بنبي يرتجف مثل وتر؛ استدعته رعشة اللهب. وهذا تداع حر وجميل، له أثر لطيف.
يختم العابد نصه، بهذه الطريقة:
كلّما اتجهتُ نحو
الحائط
إلى حيثما أنتِ
هنا
على الضفّة الأخرى
من
العالم
نلاحظ أنه أضاف الحائط، وبذات المسافة، وكأن الحائط هو تجسيد لـ هناك، مشيرا إليها/ حيثما أنت هنا
وفي نفس الوقت هي الضفة الأخرى من العالم.
يتراءى لنا الشاعر فوق سريره، ممددا، ناظرا إليها على الحائط. الحائط هو تمثيل لهناك حيث ضفة العالم، وتمثيل لهنا من حيث أنها خيال، واو، فالحائط هو روح النص، وما (هناك) إلا إشارة للحائط الذي أرجأ البوح به حتى آخر النص.