إحساس قابل للكسر

علي حزين
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

على حزين

 يضع يده على فمه، يكلمها، ترفع رأسها تجاه حقيبتها الزرقاء وهي ترد عليه، يبتلع ريقه، يضغط على نظارته، يُثبتها، يواصل كلامه، تومئ برأسها، وتبتسم، فيضع قدمه في وجه الجالس أمامه،  يمد يده، يشير، يهمس في أُذنها بكلمة، فتضحك.. ينتشي، وينبسط، وينتشر الدم في وجهه.. أما أنا يمتقع وجهي، ويفور الدم في عروقي، مغتاظاً.. نظرت إليها، فابتسمت، وألقت ببصرها على الأرض، وشردت، هنيهة، وأناملها تضرب علي ساعة معصمها، يعود الجالس بجوارها يسُّر إليها حديثاً آخر، ترجع إليه البصر، فاتراً، فيتمكن من جلسته، يسترخى على مقعده..

همّمّت أثب عليه، أركله، أصفعه، ألقى به من نافذة القطار، حتى تنطفئ النار التي شبت بداخلي، ويهدئ بركان الغضب الذي تفجر بداخلي واشتعل، منذ رأيتهما معاً، يتحدثان، ويضحكان.. تمنيت لو أن الأرض تنشق فتبلعهما، أو تنزل عليهما صاعقة من السماء، أو أني لم أرهما..  نظرت إليها ثانية، فهربت، وألقت عينيها من النافذة، ولاذت بالصمت..

فتحت أجندتي السمراء.. قرأت.. الاسم “….” العنوان “…..”.. تاريخ أول لقاء كان بيننا “…. ” رقم الهاتف “……”  

“هنا رأيتها، أول مرةٍ، في نفس المكان، صدفة، والسماء كانت تشتي علينا، لن أنسي هذا اليوم ما حييت.. كانت صدفة جميلة، حين رأيتها تغير كل شيء، وتغير في ثنية، جلست بجوارها، مرتبكاً، مرتعشاً، ولا أدري ماذا أقول، وكنت أنتفض من الخوف، ومن شدة البرد.. لكن دار بيننا حوار.. لا أدري كيف بدأ، أو كيف انتهى، فقط، أحسست حينها بشيء غريب راح يتسلل بداخلي، وشعور جميل راح يغزوني، وأيقنت حينها أنها نصفي الآخر الذي طالما بحثت عنه، فقد رأيت فيها إنسانة بمعنى الكلمة، إنسانة مختلفة تماماً، وبكل المقاييس، عن الآتي عرفتهنّ، أنا لا أنكر، في البداية شدني جمالها الأخاذ، الهادي، والهدوء الذي كان يملأ وجهها البلوري المشّرب بالحمرة، وأدبها الجم “،……

تضحك، بصوت عالِ، انتبهتُ، وألتفتْ أحد المارة، والتفتُ، تعاود الضحك، وهي تضرب كفها بكفه.. يتألق وجهها.. يبرق.. تلمع عيناها، وشعرها الأصفر الذهبي يعبث به الهواء،….

“أبوها رجل فاضل، وقور، كان حديثه معي دائماً ينم عن عقلية متزنة، ورأى راجح، وكنتُ أستمع إليه، بأدب، وأنا أسترق النظرات إليها، من حينِ لآخر، حتى لا يشك في الأمر “..

نظرت إليها، فارتبكت، وراحت تسكن شعرها بيديها البضّ، فوق راسها، وخلف أُذنيها الجميلة، أمسكت قلمي.. تلفتُ عن يميني.. فتحت صفحةً بيضاء.. وكتبت فيها أقول :

“آه، لو تأتى ألان، لو تأتي في تلك اللحظة، أُستاذي الفاضل، لتريني ما تصنع فتاتك.. ؟؟!!!

حين تسمع، وترى، بأم رأسك، كتفه في كتفها، وعيناه في عينها، وهما يتهامسان، ويضحكان، ترى ماذا أنت فاعل، وقد رأيت ما رأيت.. وسمعت ما سمعت.. وهي تجلس مع رجلِ غريب، غيري، لا أعرفه، وقد التصقت، الأكتاف، والأرداف، والساق بالساق، وأنت الرجل الوقور الفاضل، الرشيد.. هه.. هه.. لقد أكلت مخي بالفضيلة، والشرف، وكدت تجعلني مجذوب مثلك، جعلت منك شيخاً، وصرت لك مريداً، تسألني، ولا أسألك، وتعترض على، ولا استطيع الرد، وأُسلم لك في كل شيء تقوله.. وأؤمن به، ولا أعترض، وأعلم أنك كاذب، مخادع.. وعندما أراك قادماً، أقوم إجلالاً، وإكباراً لك، وحباً، وكرامة، وأُؤثرك بمقعدي، لتجلس عليه وتتربع.. وأنا علي رأسك، أقف، أخدمك، وأقيك الزحام، وحر الشمس المحرقة في الصيف، وبرد الشتاء.. لكني الآن أعترف بأن ما فعلته قديماً معك، ليس من أجلك.. بل كان من أجل فتاتك تلك المستهترة.. ال………..”.. والتي تقطع الآن كل حبال الوصل، والود، وتقلع كل ما زرعته في رأسي من مسلمات جنونك.. فسمح الآن لي أن أقول لك، بملء فمي، ولا اخجل “طظ ” فيك.. نعم أقولها لك أنت، فقد كفرت بك، وبشرفك الذي تدعيه، وفضيلتك المزعومة.. فإن فتاتك هذه اختارت لك مريداً آخر غيري، وحبيباً آخر لا أعرفه أنا ولا أنت، ربما يكُن أبر مني لك، يحافظ عهدك، ويتبعك، ولا يعصي لك أمراً، أو يسألك عن شيء، حتى تحدث له منه ذكرى..

وإن مرقت من يديك، فلا يضيق صدرك مني زرعا، ولا تحزن، واطمئن، فلن تدعك فتاتك بدون مريدين، وأتباع كُثُّر، يطرقون بابك، ويطلبون رضاك، ويرجون فتاتك.. أما أنا من اليوم، كفرت بك، ونفضت يدي، وطهرت، وألقيتُ عهودك كاملة في المرحاض، اليوم وبعد ما رأيت، وسمعت، تبرأت منك، ومنها، وبرئت، فلتقل أنت ما تشاء، ولتضحك هي لمن تشاء، وعلي من تشاء، فهذا شأنها، وشأنك  “……….

تنتهي الصفحة.. أقفل الأجندة ببطء.. وارفع راسه لفوق.. أتمطى.. أشعر براحة غريبة.. وبهدوء يسكن روحي.. وسعادة غريبة راحة  تملأ نفسي.. وقد هدأ بركان الغضب بداخلي، وسكن…..

رميت عليها نظرة أخيرة، باردة.. وهو لم يزال يهمس لها، وهي تضحك، وتنظر إليَّ، وقد وضعت يدها على فمها، والقطار يقترب من المحطة، يهدئ من سرعته..

أنهض.. أُنزل حقيبتي السمراء.. أتمشى في ردهة القطار.. بتؤدة.. ولا ألتفت.. أُغادرهما.. ترن في أذني ضحكة مفتعلة.. أضحك  في نفسه.. أُقفز جاكيت الجلد.. والقطار يدخل المحطة.. وأنا آخذ طريقي إلى الباب.. والرصيف يعج بالركاب.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال