إحراق بريتانيكا

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

جوليان باجيني     ترجمة: أحمد شافعى

لا ينبغي لمتحضر أن يحرق كتابا. ولقد كتب الشاعر الألماني "هاينرش هاينه" قبل قرن من ظهور النازية يقول إنهم "يبدءون بإحراق الكتب، لينتهوا بالبشر". إحراق الكتب دنس، إحراق الكتب تابو أول من يلتزم به هم الكتاب أنفسهم. فما هذا الذي كنت أفعله إذن في حقل بـ سومريست لحظة أشعلت عود ثقاب تحت أجزاء الموسوعة البريطانية الاثنين والثلاثين؟

في دفاعي عن نفسي أقول إن ذلك كان أقرب إلى طقس جنائزي منه إلى إحراق، فلقد كانت الكتب ميتة فعلا، نال منها العفن بعد سنوات من الإهمال. ولو أنني كنت معترفا بجريمة فهي أنني تركتها تتردى إلى تلك الحالة، لا أنني أنهيت شقاءها بعد طول انتظار.

 

كانت نهاية مخزية، بطيئة، متأخرةـ لمجموعة عزيزة طالما احتلت موضع الإعجاب. ولا أعتقد أن أحدا يحترم فكرة التعلم كان يمكن أن يشاهد احتراقها بغير أن يتراكم فيه الألم العميق والإحساس بالمسئولية الشخصية عن هلاكها والإحساس بالذنب فوق إحساس أكيد بالوجع. ولكن شأن أي جنازة، كان ذلك اللهب في جوهره علامة احترام، فبدلا من رمي الموسوعة، أردت أن أنتهز الفرصة لأتبين ما الذي كانت تمثله مثل هذه الكتب لأصحابها، وكيف تغير ذلك بمرور الزمن. وكلما كنت أزداد تفكيرا، كانت الصورة تزداد غموضا.

أوضح إهانة تنطوي عليها مسألة الإحراق هي إهانة كل الآباء الذين ضحوا ـ مثل أبويّ أنا ـ بالكثير من أجل تعليم أبنائهم. لقد كانت الموسوعة البريطانية في العالم ما قبل الرقمي استثمارا باهظا، لا يتسنى الحصول عليها مرة واحدة إلا لقليل من أسر الطبقتين العاملة والوسطى. في أيام ما قبل الاقتراض اليسير، كان أغلب الناس يشترون نسخهم من الباعة الجائلين بالتقسيط المريح، ويستمر دفع الأقساط أسبوعيا أو شهريا على مدار سنين. ولم يكن ذلك يجري بسهولة. فالشراء بالتقسيط المريح كان وسية تدخر للحصول على مشتريات البيت الكبيرة كطاقم للجلوس من ثلاث قطع، أو سجادة للأرضية كلها. ومن ثم فإنفاق مبلغ كبير كهذا على الكتب كان التزاما خطيرا من شأنه أن يحول موارد البيت بعيدا عن سلع أخرى مرغوبة.

فلماذا كان يفعل الآباء هذا؟ لو ظننا أن وجود الموسوعات في غرف المعيشة كان مصدر اعتزاز منشؤه أنها رموز قيمة لتطوير الذات معنويا وللتعلم المحض، فنحن رومانتيكيون بلا أمل. أغلب الأسر التي كانت توقع عقود “ثمن جزء في الشهر” كانت تشتري بالفعل وعدا بحياة أفضل لأبنائها، وذلك ما دأبت إعلانات الموسوعة على ترويجه وتكراره بلا تعب. وذلك ما لخصه لسنوات وسنوات شعارٌ بسيطٌ من كلمتين كان يتصدر منشورا دعائيا: “امتياز بريتانيكا”. وامتياز بريتانيكا هذا هو ما كانت توضحه إعلانات الموسوعة في الجريدة والمجلة، فأحد هذه الإعلانات ـ ويرجع إلى عام 1983 ـ يقول إنه “ليس سرا أن نجاح طفلك في الحياة يعتمد على درجاته في المدرسة. لذلك ينبغي أن توفري لطفلك من أدوات النجاح قدر ما تستطيعين. وبصفة خاصة، موسوعة جيدة”. وإعلانات التليفزيون أيضا كانت تكرر نثل هذا الكلام. ففي إعلان تليفزيوني يرجع إلى منتصف الثمانينيات يظهر تلميذ باسل يسير بجد تحت المطر في معطف مطر أصفر. ويقول الراوي “ما أبعد المسافة التي يضطر أن يقطعها أطفالكم حينما يحتاجون معلومة على وجه السرعة! يحدّث المسكين نفسه قائلا ’لا بد أن ألحق المكتبة قبل أن تغلق’”، ويستمر الراوي “ماذا لو أن لديه بريتانيكا في البيت؟”.

لا عجب إذن أن كان كثير من الآباء يقطعون ـ بإحساس عال بالواجب ـ قسيمة الشراء المنشورة في المجلة مراعين أن يلتزموا بالثقوب المتتالية. كيف لهم أن ينكروا على أبنائهم حقهم في بريتانيكا في البيت؟ لم يكن بوسع أحد مقاومة الرسالة التي كانت قوتها بطريقة ما دليلا على نبل طموح كثير من أسر الطبقة العاملة في أن يعيش أبناؤها حياة أفضل. ولكنها من ناحية أخرى كانت مثالا مألوفا تماما على ثقافة الاستهلاك القادرة على بيع سلع غير واقعية في مقابل الكثير من النقد. صحيح أن نجاح الطفل في الحياة يعتمد على درجاته في المدرسة، ولكن الدرجات نفسها أكثر اعتمادا على الخلفية الاجتماعية والثقافة المهيمنة على بيته من اعتمادها على أدوات التعلم. والموسوعات التي تبقى جزءا من الأساس غير كافية لأن تجعل الطفل أكثر شطارة، ولا هي ضرورية إن حضر التعلم والتساؤل والنقاش في البيت الذي يعيش فيه الطفل حياته اليومية.

الحقيقة المؤسفة هي أن أغلب هذه الأسر التي أرهقت ميزانياتها حتى النهاية لاقتناء هذه الموسوعة كانت لتحسن صنعا إن هي أنفقت نصف هذا الثمن أو أقل في الحصول على كتب ذات بداية ووسط ونهاية يستطيع أطفالها أن يقرأوها فعلا. ففي كثير من البيوت، كانت الموسوعة تعادل من حيث الوزن والحجم كل ما في البيت من كتب أخرى أو أكثر. وفي حين كانت الموسوعة هي موضع الإعجاب الأكبر والتقدير الأعلى، إلا أنها كانت الأقل قراءة وسط ما في المكتبة المنزلية ككل. من المؤكد طبعا أنه كان يأتي بين الحين والآخر من يقول “اكشف عن هذا في الموسوعة” أو يلجأ أحد إلى الموسوعة بحثا عن معلومة تتملص منه. ولكنه في أغلب الحالات ما كان يجد هذه المعلومة. وأنا واثق أنني لست الوحيد الذي لم يفهم فهما حقيقيا الفارق والعلاقة بين الموسوعة الكبيرة (الماكرو) المكونة من سبعة عشر مجلدا، والموسوعة الصغيرة (الميكرو) المكونة من اثني عشر مجلدا، ومجلدي الفهرست، ومجلد البروبديا [الحاوي للمواضيع الواردة في الموسوعة مرتبة ألفبائيا]. كانت محاولة العثور على أي شيء تجعلني أشعر بالحيرة والتيه كأنني طفل يسأل عن هجاء كلمة فيطلب منه البحث عنها في القاموس، وكيف له أن يجدها في القاموس إلا إذا كان يعرف هجاءها في المقام الأول؟ لا عجب إذن أن يكون القليل جدا من الأربعة والأربعين مليون كلمة التي تتكون منها بريتانيكا هو الذي وجد من يقرؤه، وأن يكون أغلب الثلاثين ألف صفحة لم تفتح من الأصل. ولا عجب أن تكون هذه الأسفار قد بقيت تجمع الغبار، لأننا لم نكن نعرف كيف نستخدمها.

امتياز بريتانيكا لم يكن وهميا وحسب، ولكنه كان انعكاسا لمقدرة اقتصاد السوق على أن يحوِّل شيئا جيدا في ذاته، إلى مجرد وسيلة لغاية. ولقد كان تسويق برتانيكا ذا بصيرة مسبقة في هذا الصدد. واليوم، تقدم الأسر تضحيات مالية مماثلة لإلحاق أبنائها بالجامعة لدراسة كورسات إما أنها مهنية بصورة واضحة أو أنها تعد بآفاق وظيفية أفضل. وهكذا يكون مفتاح الترويج للتعليم العالي ليس هو التعليم من أجل التعليم، بل الشعار المتكرر القائل بأن الجامعيين أعلى أجورا من غير الجامعيين: بزيادة سنوية تبلغ 12000 استرليني في أنجلترا و17000 دولار في أمريكا. لدرجة أن تعمد أقسام الفلسفة الجليلة ـ كقسم الفلسفة في جامعة ستيرلنج ـ إلى أن توضح للمتقدمين للدراسة أن نسبة تشغيل خريجي الفلسفة قد ارتفعت في السنوات الأخيرة. والمؤسف أن هذه الأقسام تفعل هذا في الوقت الذي تشير فيه تقارير صحفية تشير إلى غياب تام لمهارات التفكير النقدي المفترض تدريسها في أقسام الفلسفة.

ربما كان هناك زمان لم يكن فيه بائعو الموسوعة مجرد باعة لحلم الثراء، بل باعة وعد بحياة عقلية أكثر ثراء. ففي عام 1958، كان السؤال الرفيع المطروح على مشتري الموسوعة المحتملين هو “أيهما أهم لطفلك … حجم بيته أم حجم عقله؟”. وسواء كان ذلك ـ أم لم يكن ـ مجرد وسيلة ملتوية لإقناع الآباء بتوجيه أموالهم إلى شركة موسوعة بريتانيكا، فإن الإعلانات اللاحقة هي التي جاءت بالفوائد التعليمية الملموسة لتضعها تدريجيا في الصدارة، إذ تبنت اللغة الجوفاء المتبعة عالميا في الإعلان عن الكتب وهي أن الكتب مفيدة لزيادة الدرجات مما يفيد بدوره في طريق النجاح في الحياة. وليس يخفى على أحد ما المقصود بـ “النجاح” في هذا المقام: فما هو إلا الوظائف الأعلى أجرا، والبيوت الأكبر حجما، والدخول الأكبر. ومن ثم لا تكون الكتب جزءا أصيلا من الحياة الطيبة بل محض “أدوات للنجاح”. وقد تكون موسوعة بريتانيكا مثلت في يوم من الأيام ذلك الحلم المثالي القائل بأننا بسعينا إلى اكتساب المعرفة قد نرفع من مستوياتنا ونعيش حياة أفضل من حياة من سبقونا. ولكن ما لم يتحدد ذلك بفهم إنساني لماهية الحياة الأفضل، يبقى الحلم ضحلا، يبقى حلما بمجرد المزيد من المال والوضع الأعلى والممتلكات الأكثر لمعانا.

ولو أن امتياز بريتانيكا هذا كان يقوم على أي أساس، فقد نالت الإنترنت منه. لقد كانت الموسوعات حتى في عزها نادرة الاستخدام، نظرا لصعوبة اللجوء إليها، وعلاوة على ذلك سرعان ما أصبحت عتيقة الطراز وقد صارت المعلومات متوفرة لمن يمد يده. ثم إن الشقق والمنازل الصغيرة لم تعد قادرة على توفير مساحة لمكتبة تستوعب تلك الأعمال البائدة. وذلك ما جعلني أنقل موسوعتي إلى قبو إلى أن يتم العثور لها على بيت جديد. وهنا كانت المفاجأة: فالبيوت المرحبة بالتبني لم يعد لها وجود. فلا المدارس أرادتها ولا المكتبات. ولم تقبل بها متاجر الكتب المستعملة. والإعلانات المبوبة قوبلت بالصمت. وشأن الحانات الصغيرة ومتاجر الكتب المستقلة، كان الجميع يتظاهرون بمحبتهم للموسوعة واحتفائهم بها، لكن المستعدين لمساندتها كاوا يقلون يوما بعد يوم. وإذا بالقبو المؤقت يصبح مقام سنوات، وابتدأ العفن يعمل أنيابه.

 في الوقت الذي بدأ فيه العفن يدب في أوصال موسوعتي، كان يدب أيضا في مؤسسة إنتاج الموسوعة ورقيا. ففي 2012، أحنت بريتانيكا رأسها لما لا فرار منه، وبدأت الإيقاف المرحلي لنسختها الورقية. فما كان من ذلك إلا أن رفع من قيمة ندرة الموسوعة، فإذا بالطبعة الأخيرة الفاخرة من الموسوعة المكونة من اثنين وثلاثين مجلدا تبدأ مبيعاتها بسعر 2495 استرليني. ومنذ ذلك الحين ظهرت طبعة أخيرة أخيرة أخرى من الموسوعة، وهذه جاءت مغلفة بجلد مراكشي وأتيح منها عشر نسخ فقط بسعر 9999 استرليني.

ومع ذلك، لم يعد غرض الاحتياج الملح إلى المعلومة يبرر دفع هذه الثروة الصغيرة من أجل الحصول على بريتانيكا. ففي مقابل 1.99 دولار (6.99 استرليني) في الشهر، يمكنك أن تحصل على بريتانيكا أونلاين على جهاز الكمبيوتر، أو التابلت، أو التليفون. وكل من لا يرى في هذا تطورا حقيقيا، ما هو إلا شخص يسمح لرومانتيكية الورق أن تغلب قدرته على تقييم الأمور.

بهذا الاعتبار، كان اللهب الموسوعي الذي أضرمته رمزا لمنافع التدمير الخلاق. إن بريتانيكا تمثل زمنا كان الوصول إلى المعلومة فيه محدودا، ومرهونا إلى حد كبير بامتلاك المال. لقد كان بهاء المجموعة يرتبط ارتباطا عميقا بحقيقة أنها منتج ثمين مقصور على دائرة محدودة. ولعلنا سوف نفتقد رائحة الغلاف الجلدي، وصوت تقليب الصفحات الرقيقة، وثقل كل جزء من أجزائها الذي يقترب من كيلوين. ولكن لو أن ما “على” هذه الصفحات كان هو الأهم، فلعلنا ننتهي إلى أن هذه الخسائر تقل كثيرا أمام فوائد حرية أي فرد لديه وصلة إنترنت في الوصول إلى نفس هذا المحتوى بتكلفة زهيدة، أو بغير تكلفة على الإطلاق. فليس من الممكن لعالم من الكتب القيمة موصد إلا على أقلية محظوظة أن يكون أفضل من عالم تتاح فيه المعلومات عبر باب الإنترنت المفتوح.

وأهم من ذلك أن انتهاء عصر الموسوعة الورقية إشارة إلى انتهاء حقبة المعرفة المتكلسة حبيسة النصوص المستبدة التي لم تكن تتم مراجعتها إلا كل عقد من الزمن أو نحو ذلك. فعلى الرغم من أن الموسوعات كانت تظهر في طبعات عديدة، إلا أنها تنتمي إلى زمن كانت المعرفة فيه ملك حفنة من السلطات المستقرة التي لم تكن تقرر فقط ما هو صحيح، بل وما هو جدير بالبقاء من خلال السماح بإدراجه في الموسوعة. ولقد كانت ديمومة الغلاف الجلدي تشجعنا على نسيان الطبيعة الدينامية للمعرفة العلمية والأعراف الفنية والمذاهب الاقتصادية. لقد كنا جميعا نعرف أن كل كتاب مرجعي يكون قد باد وقدم قبل حتى أن يصدر، ولكن لم يكن لدينا بديل، وكانت تلك حقيقة مزعجة طاب لنا جميعا أن نتجاهلها.

ويرتبط بهذا الأمر تحول أشد غموضا، هو تدني احترام الخبراء. يصعب القطع بأي الأمرين أسوأ: الاحترام المفرط لنخبة ثقافية صغيرة أم ثرثرة فضاء الإنترنت التي يشعر كل فرد فيها لا بأن له الحق في إبداء رأيه وحسب بل وأن له الحق في أن يحظى بجمهور ممتن لرأيه هذا. مفاهيم من قبيل “صحافة المواطن”، “والوصول الحر ‘open access’ ” و”حشد المصادر  crowdsourcing ” لها جميعا وجاهتها، ولكن من الصعب منعها من الدنو إلى حالة الفوضى النسبية. من هذه الناحية، يكون التحول من المراجع المطبوعة إلى المراجع الرقمية مجرد مثال على تحول ثقافي أوسع وأعمق: كيف نجاري فقدان الإيمان في المعرفة المطلقة بدون أن نتدنى إلى ذاتية لا حقيقة فيها إلا الذي تهوي إليه أفئدة الناس؟ وبهذا المعنى، لا نكون قد استنبطنا كل ما يعنيه موت الموسوعة المطبوعة ـ بكل ما ترمز إليه ـ بالنسبة للمعرفة وللحقيقة. إن هناك من وجهة النظرة الفلسفية موقفا متماسكا فيما بين اليقين المطلق والنسبية المطلقة، ولكن هذا الموقف لم يجد مكانه إلى الآن في المجال العام.

ولأن هناك الكثير للغاية من المواضيع التي يثيرها هلاك بريتانيكا والعالم القديم الذي كانت تمثله، فقد أردت أن أحول مجلداتي المتعفنة إلى عمل فني تتجسد فيه هذه القضايا. وأول فكرة خطرت لي هي أن أجد مكانا عاما أستطيع أن أذهب إليه في يوم اجازة أسبوعية وهناك أمزق بحرص المجلدات واحدا بعد الآخر ثم أستخدم الأشرطة الناتجة في عمل صور مصغرة من الموسوعة التي مزقتها. وبتحويل الموسوعة من شيء ذي وظيفة إلى محض شيء رمزي أكون ربما قد حولتها إلى نفسها أكثر من ذي قبل. وتعرض كل نسخة في هذه الحالة في مزاد، ويتم تقييمها، ونرى إن كان هذا التحول قد زادها قيمة أم نال من قيمتها. ويتم تخصيص نصف العائد للفنان، ونصفه لأعمال الخير، وكل ذلك من خلال مزاد عبر الإنترنت. لقد هزمت الموسوعة المطبوعة أمام التكنولجيا، ولسوف تكون الإنترنت الآن هي وسيلة مولدها الجديد. ويقرر الجمهور من خلال التصويت الإلكتروني ما إذا كان ينبغي توجيه النصف الخيري إلى أقارب الموسوعة أم خصومها: إلى الكتب أم إلى أجهزة كمبيوتر يتم توجيهها إلى أفريقيا؟

ولا زلت معجبا بالفكرة ـ إعجابي بكثير من مشاريع الفن المفاهيمي ـ التي يكون قد تحقق من وصفها مثل ما كان يمكن تحقيقه من تنفيذها. ولكنني لم أستطع تنفيذها على أية حال، فبعد آخر مرة انتقلنا فيها إلى بيت جديد، لم يكن ثمة مساحة داخل البيت لتخزين الكتب. فوضعت جميعا في الحديقة في أكياس بلاستيكية تبين أنها ليست منيعة على الماء كما تصورنا، فلما فتحنا الصناديق، اكتشفنا كتبا مبتلة منتنة تكسوها طبقة من العفن. ومن ثم ما كان يمكن للعرض إلا أن يكون في غاية التواضع. كان يمكن أن أصور فيلما لإحراقها، فيكون محرقة جنائزية للبكاء من ناحية على كل ما كانت تمثله من إيجابيات ومُثل، واحتفالا بكل ما حل محلها من أشياء جيدة.

ومع ذلك، وبرغم جميع محاولاتي لتأطير عملية التدمير هذه بإطار إيجابي، بقيت غير قادر على خلخة إحساسي بأنني أرتكب خطأ. فلو أن في هذا الدنيا شيئا جديرا بالتقديس، فلا جدال في أنه الكتاب الذي يبقى ـ بعيدا عن جميع الابتكارات العملية الأخرى التي تغذينا وتكسونا وتدفئنا وتداوينا ـ هو أهم إبداع بشري على مر الزمان. ولكن التكنولجيا ترغمنا على إعادة تقييم الكلمة المكتوبة والصور التي تتخذها. ويبقى إحراق الكتب ـ عن حق ـ تابو مؤكدا، ولكن أخطار الرقابة تجاوزت مسألة التهديد بالتدمير المادي. فبطريقة أو بأخرى تظل المعلومات التي نحتاج إليها موجودة في مكان ما. والمشاكل التي تواجهنا هي مشاكل العثور عليها في أحراش البيانات متزايدة الكثافة، والتي لا تزال مساحات كاملة منها محجوبة من وراء أسيجة أمنية منيعة. والأشد شرا من هذا هو اعتماد وسائل الإعلام ذات الموارد المحدودة على المواجز الرسمية للتقارير اللانهائية، فتنحرف أعينها عن التفاصيل المهمة بسبب أيد خادعة.

لا أملك إلا أن أبكي زوال موسوعتي، ولكنني لا أبكي زوال المؤسسة. لقد تجاوزت الموسوعات تاريخ صلاحيتها كرموز للتقدير الذي نكنه للثقافة والتعلم. فالعالم يتغير، ولا بد للكتب والمجلات والتعليم أن يتغير معه. والحنين إلى الإصدارات البائدة لا نفع فيه ما لم يذكرنا بأشياء نقدرها بالفعل، ونريد أن نصطحبها معنا إلى العالم الجديد.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في السادس من مارس 2013 في آيون – ونشرت الترجمة في شرفات بتاريخ 12 مارس 2013

نقلا عن مدونة قراءات أحمد شافعى

الصورة بعدسة: جوليان باجيتى

مقالات من نفس القسم