حسان الجودي
قبل ملايين السنين، لم يكن البعد الثالث ص متواجداً. كان هناك بعدان فقط س، ع.
وهما في سبيل التوضيح، يمكن أن يكونا طول المستطيل وعرضه. لم يكن للمستطيل سماكة حينها، لأنه لم يكن المحور ص موجوداً. ولو كان موجوداً، لأصبح المستطيل متوازي مستطيلات مثل علبة الكبريت.
إذاً كانت الأرض كرة مسطحة!
أعتذر، فهذا تعبير رياضي خاطئ. فالكرة لها ثلاثة أبعاد، والتسطيح صفة تطلق على (ما) له بعدان.
ولكن يمكن ببساطة القول أيضاً أن التسطيح صفة تطلق على ( من ) له بعدان. وهذا كان حقيقياً قبل ملايين السنين.
كانت النمور السيبيرية ذات الأنياب الطويلة القاطعة تعيش فوق سطح الأرض. كانت الأرض نحيفة مثل جريدة، وكانت تمتد طولاً وعرضاً في كل مكان.
وكانت تلك النمور النحيفة أيضاً تتجوّل كائناتٍ أفقيةً. لم تكن تستطيع القفز، او تسلق الأشجار، أو المرتفعات التي كانت غير موجودة في الواقع. حركتها كانت محدودة ببعدين أفقيين. وكذلك الحال مع الفيلة الضخمة.
حسناً هذا تعبير خاطئ! فلم تكن الفيلة ضخمة، نظراً لفقدان المحور ص. كانت فيلة مسطحة نحيفة كورقة كتاب، وكانت تتجول قطعاناً في السهول الأفقية. تتحاشى بغريزتها برك القطران التي كانت منتشرة حينها على سطح الأرض. وتنتقل باتجاه المسطحات المائية لتغسل أجسادها النحيفة وتشرب ماء ً مسطحاً هو الآخر، وكان ذلك يتم عبر الاستلقاء فوقه، ليمتص جلدها الماء عبر مساحة التصاقه به.
كذلك كانت الطيور لا تطير، وأين تطير دون فضاء؟
كانت هي الأخرى مسطحة جداً، تطوف على محور س ثم تنتقل إلى محور ع.
لقد كان أمراً عادياً. وحرص العجائز المتأقلمين مع ذلك، على نقل خبراتهم الغنية للشباب، حول العيش وفق القوانين الفيزيائية المتاحة، دون التفكير بوجود ظواهر جديدة، أو عوالم أخرى ثلاثية الأبعاد.
قطع الخبز كانت أشكالاً مسطحة، دوائر، مستطيلات، مربعات، متعددات الأضلاع، مثلثات.
الخضار والفواكه والأشجار كانت كذلك أيضاً مجرد تشكيلات في غاية النحافة، أو باستخدام الرياضيات، كانت سماكتها صفراً.
الأطفال كانوا يولدون مسطحين. وكانوا سعيدين بتلك الحياة التي ألفوها.
غير أن الفتى س34 لم يكن كذلك.
كان فتى كثير الشرود، مقلّ الكلام، لا يحب الاختلاط. وكان يفضل الخلوة إلى نفسه وقراءة الكتب. وما لبث أن اكتشف في نفسه موهبة الشعر، ذاع صيته كشاعر مسطّح مهم بعد سنوات. وأطلقوا عليه دودة الكتب. دأب الشاعر على قراءة جميع المخطوطات القديمة في الأرض المسطحة، فقد حلم يوماً بأشياء غريبة، لم يستطع عقله فهمها.
لقد رأى البعد الثالث، هو رأى في الحقيقة الأشجار المنتصبة، والجبال، والنجوم، والغزلان والأسود القافزة، رأى الينابيع التي تتدفق من الجبال، وأشرعة السفن التي تصطدم بها الرياح في المحيطات الشاسعة.
كتب عشرات القصائد عن حلمه الجميل. لم يفهم أحد قصائده، سخروا منه، وأطلقوا عليه لقب الشاعر المجنون.
لم يحصل على إجابات من الكتب. فقرر الرحيل بحثاً عن الإجابة التي تفسر أحلامه. انطلق بمركبته باتجاه حدود الارض المسطحة. سافر شهوراً في الفضاء الإقليدي ذي البعدين. تنفس الصعداء أخيراً حين بدأت تظهر له إشارات التحذير: لا تقترب! -خطر الموت. انتبه ! حيوانات متوحشة- كهرباء صاعقة- إشعاعات نووية.
حثّته تلك الإشارات على الانطلاق السريع، فهوى بعد لحظات، وعاين حينها البعد ص وأحس به. لقد وجد نفسه وهو يسقط من الأرض المسطحة، فوق أرض أخرى. تنتصب فيها الأشجار، وتطير الطيور، وانتبه وهو مستلق على العشب إلى تلك الشمس المضيئة البعيدة في أعالي السماء.
لقد رأى أحلامه القديمة مجدداً. أراد النهوض لاكتشاف هذه الارض، فلم يستطع. كان نحيفاً جداً، بدون سماكة تستطيع الانتصاب بجسده. واصل الاستلقاء، هبت ريح قوية، حملت الشاعر، وألقت به قرب فتاة تقرأ كتابها المدرسي تحت ظلال شجرة تين. دفع الفضول الفتاة لاكتشاف ما حملته الريح، فقرأت أجمل القصائد. وضعت الورقة في حضنها، ثم أخذت بها إغفاءة هنيئة. حملت الريحُ الشاعر مجدداً، فوجد نفسه ملتصقاً بجذع التينة.
شعرت التينة بالسعادة وهي تقرأ ما كتبه الشاعر، وشعرت بالرثاء لحال جسده النحيف. ضمته بعطف بالغ إلى جذعها، ثم عصرت فوقه حليب التين الأبيض، ثم لم تتركه مطلقاً.
وجد الشاعر بعدَه ص الضائع. صار شجرة تين كانت تحلم بالحرية. وربما من يدري!
صارت التينة شاعراً ليس لديه سوى الخيال.