هذه النصوص الثلاثة تقدم لنا بالمقابل ثلاثة عوالم؛ الأول نتابع أحداثه المتلاحقة الراصدة للآني، وتبدو فيه المغامرات المثيرة حيلة لرصد رحلة المخطوط الروائي، من يد ليد.
والثاني عالم خفي، تقدمه الرواية عن تجربة رشيد الجوهري، بطلاه “كيان” و”سديم” اللذان يعيشان في مدينة تحت الأرض تبدو مثل يوتوبيا الظلام التي يسكنها الهاربون من عالم فوق الأرض أكثر ظلمة وظلما.
أما النص الثالث فهو مستشف من رحلة القراءة التي تتابع نصوصا موازية من الأدب السردي والشعري العربي والعالمي.
قد يظهر هذا النص الروائي ـ للوهلة الأولى ـ معقدا، بسبب تلك التوليفة، لكن فك شفرة تركيب فصوله تقودنا إلى قراءة ميسرة له، خاصة وأن المؤلف تعمد تقديم نص يعتمد على القراءة أكثر مما يركن إلى الاستدعاء السهل للنماذج السردية النمطية.
الرواية / المخطوط باعتبارها كائنا شاهدًا، ينمو وعيه وإدراكه بتشكله ونضجه، ربما بعيدا عن المؤلف نفسه، ستنقل لنا سيرة كاتبها رشيد الجوهري، التي تتماس مع سيرة المؤلف إبراهيم فرغلي نفسه. فلا ننسى أن فرغلي أمضى قسما من حياته مع أسرته صبيا وشابا في دولة خليجية عربية، وأنه سافر ليعيش فترة في مدينة ألمانية، وأنه ـ كذلك ـ يسمي مدونته على الإنترنت بالمخطوط، في تماس مع المخطوط / الراوية. وحين نتعمق في القراءة سندرك إنه لا يقدم تماسا وحسب مع شخصيته الحقيقية، بل ويستعرض اهتماماته القرائية، وهواياته الفنية، حتى أنه يستدعي نفسه أيضا.
ففي يوتوبيا الظلام التي هرب إليها الشعراء والفنانون والمفكرون، وما يمكن أن نعتبرهم النخبة التي تشكل مدينة فاضلة دعا إليها الفارابي، على خطى أفلاطون، نجد الحياة تحت الأرض مثل جسم كامل تام تتعاون أعضاؤه لتحقيق الحياة والمحافظة عليها، الكل يبحث عن الحرية، التي نقرأها على أكثر من هيئة، سواء كانت حرية الشعراء في إلقاء القصائد الحسية، وبعضها يمكن أن نقرأه ـ مثالا ـ في أحد نصوص شاكر لعيبي؛ بعنوان “الجسد المغتبط”، وصولا إلى حرية “نقار الزجاج”، وهو شخصية ابتكرها المؤلف لمن لم يعد يستطيع مواصلة الحياة دون أن يرتطم بالأبواب الزجاجية!
وللمصادفة تبدو شخصية الفارابي مثالية للحديث عن شخص ولد في مقاطعة فاراب (تركستان حاليا)، لأب (محمد بن طرخان) من قادة العسكر السامانيين، وقد درس في بغداد على يد معلمه المسيحي يوحنا بن حيلان ، قبل أن يحل مدينة حلب ليدرس الموسيقى ويتفقه في الرياضيات ويبحر بالفلسفة ويغرم بالعلوم ويشغل بالسفر. وما أقرب سيرة الفارابي ونصه بهذا الثلاثي المخطوط / الرواية/ الراوي.
في هذه المدينة السفلية، التي سما بها أهلها وحولتها أفكارهم إلى جمرة من نور، سنقرأ:
“استدعيت اللحظة التي بدأت فيها شرارة الأحداث. بدأ ذلك عقب قراءتي لنص بعنوان “أبناء الجبلاوي” لكاتب اسمه إبراهيم فرغلي، لم أكن سمعت عنه، تخيل في روايته تلك اختفاء كتب نجيب محفوظ من الوجود فجأة، بلا سبب معروف. وربط بين هذا الاختفاء الغامض وبين وقوع المدينة القاهرة في ظلام مريب نتيجة مرور أسراب من طيور لا يعرف أحد جنسا، ظلت تحلق أعلى المدينة حتى منعت عنها ضوء النهار، وتسببت في إظلام المدينة بشكل تام“.
يريدنا إبراهيم فرغلي بهذا الاقتباس، أن ينسينا مؤلف الرواية، ليُرجّح نظرتنا إلى النص باعتباره حكاية رواية تتحدث عن نفسها. ولكن ـ وهو الأهم ـ تتحدث عن روايات العالم كله، ليس فقط في الاقتباسات التي شملت تدوين صفحات من “دون كيشوت”، ثربانتس، و”عشيق الليدي تشاترلي” ، د. هـ. لورانس، و”الأشجار واغتيال مرزوق”، عبد الرحمن منيف، و”الخبز الحافي” ، محمد شكري، ولكن كذلك في تقديم “آراء نقدية” عن رواية أكثر مثل “روبنسون كروزو، دانييل ديفوي، و”الجريمة والهقاب، ديستوفسكي، وغيرهما مما أتاحت مهنة النساخين لصاحبها من إعادة قراءة تلك النصوص وسواها.
بالنسبة لي، تبدو رواية إبراهيم فرغلي “معبد أنامل الحرير” نصا مكتوبا في غرف الغواصات، تلك الغرف “الآمنة” الواقعة في مساحة انتقالية، بين مياه بحر هائج قد يقطف الحياة، وفضاء نظام صارم ربما يئد الحياة، وهنا أنت بين اختيارين، أحلاهما مر، فإما تختار يوتوبيا الظلام التي تضع لها نظاما على هواك، وإن بدا فوضويا، لا يربطك فيه بالحياة الحقيقية سوى حبل سري قد ينقطع يومًا ما، وإما ترضخ لنظام النهار بكل سوءاته:
“فكرتُ جديا أن الحل الوحيد يتمثل في الهروب من الأنفاق والعودة إلى مدينة الظلام، من أجل التمتع بالإضاءة الطبيعية، واستنشاق هواء طبيعي. عندما قلتُ ذلك لسديم، ابتسمت كمن يكبح ضحكة. نظرت إليها مندهشا، متصورا أنها تسخر من فكرة أنني أريد الهرب من الاكتئاب لألقي بنفسي في يد جماعات الزومبي التي تعيش في مدينة الظلام، لكنها لاحقا فسرت لي وهي تتساءل:
ـ هوا إيه يا “كيان”؟ هيا البلد دي فيها هوا؟ البلد متنيلة، غرقانة في العوادم والتراب والمجاري، ده غير تلوث العقول. غباء في غباء خلى البلد كلها ضلمة.
_ ضلمة؟
ـ إنت ما سمعتش إن حكيم الزمان، سخام البرك، زعيم الندامة بتاعك بقى يضلم البلد من الساعة 10 بالليل علشان ما حدش يمشي في الشارع بالليل؟
_ أهو كلام بنسمعه. هوَّا حد فينا هنا بقى عارف إيه اللي بيحصل فوق؟“
الحياة في في غرف الغواصات، بين يوتوبيا الظلام، بالأنفاق السرية، ومدينة الظلام، تحت إمرة الجماعات المتطرفة، تبدو فرصة التقاط الأنفاس، والاستعداد البدني والتقني للتنقل بين حياتين مرهقتين، لأن هناك من يقف ضد التنوير، هنا وهناك، مثل محاولة وأد مشروع إعادة نسخ الكتب بواسطة المتكتم، وكانت مشروعا نبيلا يؤكد على يقظة المدينة ، لكن نسخ هذه الكتب، دون إتاحتها، سيظل مشروعا نخبويا، كما تقرره إحدى الشخصيات، وهذه الفكرة الأخيرة، هي لب ما تناقشه الرواية، ثقافة النخبة، التي شكلت وعي بعض أبطال رواية “معبد أنامل الحرير” ومدى فائدتها، وبالأحرى جديتها، في نفع العموم من الجمهور العادي. لكن الأبطال الآخرين، القادمين من الشمال (مثل الفتاة الألمانية يوديت ابنة مدينة شتوتجارت) والجنوب (مثل الفتاة الإثيوبية ميهريت ابنة إحدى القرى الفقيرة البعيدة عن أديس أبابا).
يجمع إبراهيم فرغلي تلابيب الحكايات لكل هؤلاء الذين يعيشون في غرف الغواصات، سواء كانت النخبة الهاربة من مدينة الظلام إلأى يوتوبيا الظلام، أو الفتاة الألمانية الهاربة بين أساطير الفراعنة إلى حقيقة العمل، أو الإثيوبية الهاربة من أتون جحيم الحروب الأقليمية والعادات التقليدية إلى الهجرة غير الشرعية التي جمعتها مع قاسم. هذه الحكايات المتشرذمة تمثل معادلا موضوعيا لتشرذم الحياة التي يخوضها العالم المعاصر بحثا عن خلاص يبدو بعيدا عن أفق النظر.
لكن الجحيم الحقيقي يبدو لي بأزمة الهوية المستلبة في ذلك المشهد الذي جمع رشيد الجوهري بصديقته الألمانية يوديت…
“انتهى الأمر في النهاية إلى أن تقول له يوديت إنها بالفعل لم تعد قادرة على مواصلة العلاقة ، وإنها تشك في أنه كان يجمِّل نفسه في صورة العلماني المتحرر، بينما هو شخص تقليدي ومحافظ … قالت له:
ـ رشيد . أنا حقا أكاد أجزم أنني لا أعرفك؟ لست نفس الشخص الذي عرفته.
ـ كيف هل ظهرت لي قرون الشياطين.
ـ راقب نفسك؟ ألا ترى كيف أصبحت ساخطا وغاضبا طوال الوقت ، بل ومستفزا؟
ـ لم يتغير شيء. مجرد أنني أصبحت أكثر وعيا بهويتي الحقيقية.
– هويتك الحقيقية؟ ماذا تقول؟ وماذا عن المصريين القدماء؟ الذي علمتني عنهم كل شيء تقريبا منذ رأيتك لأول مرة أمام أحد آثارهم الخالدة ، وحتى اليوم؟ ألا يشكل هؤلاء هويتك الحقيقية؟
ـ لقد اهتدت مصر للدين الحقيقي منذ دخول الإسلام.
تقصد غزو العرب لمصر؟
أنا لا أقبل بهذه الإهانة.“
لم تنتهِ الرواية / المخطوط. لكن النهاية تأتي في تذييل بعنوان سفينة للأشباح، يعترف كاتبه بأنه ليس رشيد الجوهري، وأنه كان مجرد واحد من رواد ذلك البحر الذي بدأت أحداث الرواية فيه، وأنه قد سمع عن سفينة تصدر منها أصوات دعا الجميع لتسميتها بسفينة ألأشباح، فاستعان بصديقين له؛ “قنديل البحر”، و”العاصفة”، للوصول إليها بعد بحث مضن، ومطاردة شاقة. وإذا كان رشيد الجوهري قد توقف في مخطوطه عند جزء استعداد النساء في مدينة الظلام لمظاهرة الأجساد المتعرية إلا من نصوص الحرية، فإننا نتابع المشهد بعد الصعود إلى سفينة ألأشباح حيث يفتح البحارة غرفة بها فتخرج مئات الفتيات العاريات! وقد عثر المغامر على المخطوط الذي يحمل عنوان “المتكتم” وبدا صوت من الأعماق يقول :انشرني؟ وقد اختفى الجميع ولم يبق سوى “قنديل البحر”، و”العاصفة”، وحتى ينجو من المصير الغامض للآخرين، قام بنشر الرواية المخطوط ، لتطبع في لبنان، وتصدر عن “منشورات ضفاف” و”منشورات الاختلاف” في 527 صفحة من القطع المتوسط، هذا العام، 2015.