إبراهيم فرغلي قديس الكلمات، الباحث دائمًا عن الوجوه الغائبة في طرف الحكاية. مسيرته الكتابي244ة اتسعت لمساحة واسعة من التجريب، ما بين كتابة القصة والرواية وتدوين الرحلات والتحقيقات الصحافية. صدرت له مجموعة من الأعمال الأدبية الهامة منها: ابتسامات القديسين، كهف الفراشات، أشباح الحواس، مداد الحوار، باتجاه المآقي، أبناء الجبلاوي وشامات الحسن. عن علاقته بالأديب الراحل نجيب محفوظ والتداخل الكتابي بينهما كان لـنا معه هذا الحوار.
هل وجدت في إهمال أعمال نجيب محفوظ نموذجًا للفوضى الثقافية للمجتمع المصري؟
– لم أقصد الرمز أو الإشارة إلى الفوضى الثقافية فقط، بل وإلى والأمية الأبجدية التي بلغت حدًا مرعبًا في مجتمع يفترض أنه بدأ طريقه للمدنية، وتأسيس قيم الحداثة قبل قرن من الزمان، كما قصدت الإشارة إلى الأمية الثقافية، والاستهتار بالقيم الجوهرية الأصيلة للثقافة المصرية الممتدة من مصر الفرعونية القديمة كأحد أبرز وأقدم الحضارات الإنسانية، وأحد أهم مناهل العلوم والمعرفة وقوانين بناء الحياة، التي أدى إهمالها والتفريط فيها إلى مظاهر التخلف والتراجع المزري لدور المصري في جميع المجالات.
وإشارة إلى إهمال تراث محفوظ على مستوى الواقع، فقد اكتشفت أن الكثيرين يتصورون أنهم يعرفون محفوظ، لأنهم شاهدوا الأفلام التي أخذت عن أعماله، بينما تلك الأفلام في الحقيقة، على رغم إتقانها، لا ترقى للتعبير عن مزايا السرد ولا الأفكار الفلسفية التي يتبناها السرد المحفوظي، حتى لو أصبح ينتمي إلى الكلاسيكية، وهي في الوقت نفسه رد على الكتاب الحداثيين، الذين يبتسمون لك ابتسامة صفراء حين تذكر محفوظ كأنك ذكرت اسم مدرس ابتدائي فاشل، فالأكيد أن هذه الابتسامات الصفراء ومنجز أصحابها لا يمكن أن يواجه قوة أعمال محفوظ، التي أظنها ستعيش طويلا وسيعاد اكتشافها كل فترة، لأنها في تقديري أصيلة ولها قوة الكلاسيكيات العابرة للزمن.
عنوان “أبناء الجبلاوي” يشير إلى إحدى شخصيات “أولاد حارتنا”.. هل ترى أن الجبلاوي هو عراب محفوظ خلال مسرته الأدبية؟
– إلى حد بعيد، وأظن أن محفوظ استخدم النموذج الذي يمثله “الجبلاوي”، كصانع الأقدار، أو الأب، أو رمز السيطرة، أو رمز السلطة، فهو في تقديري السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية، وهو عاشور الناجي في الحرافيش، وهو أيضا الجد في قلب الليل.
كيف أثر الأسلوب المحفوظي في تقنية السرد لديك خصوصًا الأدوات؟
– محفوظ له تأثير قوي عليّ في مستويات عديدة، فقد اكتشفت أن العالم الذي ولجته مع محفوظ أضاف إليّ مفهوم متعة القراءة واختبار تجارب الحياة، وفهم التاريخ بشكل مختلف، والتعرف على تنوع ورؤى الطبقات الاجتماعية بعضها لبعض، واكتشاف زوايا الأفكار المتحررة في مجتمع تقليدي، إضافة إلى التعرف على مشاعر أخرى غير الحس الرومانسي المراهق، الذي كان الفرد يبحث عنه في روايات جورجي زيدان التاريخية. أذكر أن قراءتي للثلاثية، كانت تستغرق وقتي كله، وكنت أعود من المدرسة لأتابع القراءة بشغف قبل الذهاب إلى درس من الدروس، والعودة بسرعة لمتابعة القراءة بولع واستغراق. ولم أزل حتى اللحظة أتأثر لفكرة انكسار السيد أحمد عبدالجواد.
كنت أبكي ليس تأثرًا لموت فهمي بقدر ما كان ذلك تمثلا لانكسار رجل مثل السيد أحمد عبدالجواد، عرفت حزنًا حقيقيًا وتمثلته بقوة ولفترة، وأحسست كيف أن الإنسان يتعرض لحدث كهذا، فينكسر قلبه ولا يعود إلى ما كانه من قبل أبدًا.
أما الجانب التقني فقد جاء متأخرا، في إعادة القراءة في فترة الجامعة، فحين بدأت الكتابة كتبت قصة محفوظية تماما، وأدركت أن صياغته الأدبية تمثل فهمي لمعنى السرد، وكان عليّ أن أمر بخبرات عديدة وطويلة لهضم أسلوبه وأساليب أخرى قبل أن أتمثل أسلوبي الخاص، لكني أحببت أن أكشف للقارئ في الوقت نفسه خصوصا في روايتي “أبناء الجبلاوي” مدى قوة بناء العبارة المحفوظية، ومدى قوتها التعبيرية لأنها مبنية بخيال روائي دارس للفلسفة، وقد طعمت متن “أبناء الجبلاوي” بتلك الفقرات من نصوصه من أجل ذلك.
هل يُمكن القول بأن “أبناء الجبلاوي” محاولة للثورة على الأنماط الكتابية التقليدية وليست مجرد احتجاج على أوضاع ثقافية قائمة؟
– بالتأكيد، هي محاولة للثورة على الأساليب التقليدية، وأظنني أحاول باستمرار كتابة أعمال تجريبية لهذا السبب، منذ “كهف الفراشات” التي تبنت سردا مزدوجا متوازيا بين عالمين خيالي وواقعي، أو في “ابتسامات القديسين” التي اتخذت من سرد “شبح ميت” مركزا للسرد، وصولا إلى “أبناء الجبلاوي” التي اتخذت من تعدد أصوات السرد وأمزجة الساردين وسيلة لإيجاد طريقة تعبير سردية مختلفة، كلها تحاول أن تقول إن طريق الرواية لا يزال طويلا وبعيدا، ويحتاج إلى الكثير من التجريب، تماما كما هو شأن حالتنا الثقافية التي تشوبها مظاهر تخلف كبير، لأسباب عديدة بينها تكوين المثقف نفسه وليس فقط مشكلات المؤسسة، وقد تجلى ذلك في انتقاد وسخرية “كاتب الكاشف” في الرواية لمن يسميهم كتابا.
قراءة نصّ “أبناء الجبلاوي” يذكرنا برواية “العمى” لجوزيه سراماجو حيث أصيب المجتمع بوباء العمى والجهل بعد أن ضيع تراثًا عظيمًا. فهل قصدت ذلك؟
– قرأت “العمى” بعد انتهائي من “أبناء الجبلاوي”، وكنت قرأت لساراماجو آنذاك روايته العظيمة “كل الأسماء” فقط، وعلى الرغم من انبهاري بها، فلم أكن توصلت بعد لتيمة ساراماجو في خلق عوالم رمزية كما فعل في “العمى” ثم في “الطوف الحجري” مثلا. فكرة اختفاء كتب محفوظ جاءتني قبل فترة من كتابتها أساسا. ولا أزال أذكر اللحظة التي برقت في ذهني، لكني لست متأكدا من الملهم، قد تكون عبارة في فيلم أو جملة في مقال أو رواية. لكن على مستوى المضمون معك حق تماما، فهذا هو المقصود بالضبط، وفي الرواية بالفعل إحساس بهذا العمى، بهذا الجهل الذي تصفه رادوبيس في رحلتها المتخيلة مع كبريا للبحث عن كتب محفوظ، حيث تشير إلى مواضع هذا العمى البعيدة كل البعد عما تمثله هي كرمز لتراث مصر الفرعونية صاحبة الحضارة العريقة.
واجه نجيب محفوظ مشكلة خاصة مع النقاد تتعلق بتوظيف الإيروسية في أعماله الأدبية.. هل أردت أن تطرح نفس الإشكالية من خلال مرآة النقاد؟
– أظن أن أعمال محفوظ بالفعل قد وظفت الجنس بشكل جيد جدا، مقارنة بتاريخ كتابة نصوصه أي توقيت كتابتها، وقد مرت على القارئ مرورا كريما، ولم يلتفت إليها إلا بعض النقاد المحافظين الذين فسروا “أولاد حارتنا” تفسيرا دينيا، وأرادوا أن يفتشوا عما يدعم وجهة نظرهم الأخلاقية والأيديولوجية في نصوص الرجل، ليظهروه ككاتب ينشر ما يسمونه “الرذيلة”. لكني أظن أنه أحد أهم من تعاملوا مع موضوع الجنس. كنت أرى أنه إذا كان الكتاب الكلاسيكيين بلغوا هذه الدرجة من الجرأة في التعامل مع الجنس، فليس أقل من التعامل معه بشكل أكثر جرأة في نصوصي، خصوصا وأنا أتصور أن الجنس بالفعل يمثل مفتاحا مهما لفهم النوازع والسلوك والاختيارات البشرية.
ألم تخش من تناول نجيب محفوظ في عمل روائي يتكئ على المتاهات السردية والتراكيب اللغوية التي تحتاج إلى قارئ مثقف؟
– أنا أستمتع بالكتابة وأعتبرها متاهة تقود إلى مغامرة ما، وبالتالي أظني أتوجه لقارئ يود الاستمتاع بقراءة نص ذكي يجد في القراءة مغامرة ما، ولا أستهدف القارئ الذي يبحث عن التسلية. وأظن أن الدرس الذي يتعلمه الكاتب المجيد أن النص الذي يعيش طويلا ينبغي أن يتمتع بما يجعله عابرا للزمن. أكتب وأنا أضع في اعتباري ما أظنه معايير للكتابة الجيدة وقد أشعر أنني أخفقت في تحقيقها، أو نجحت، وهذا هو ما أهتم به في أثناء الكتابة أكثر كثيرا من الانتباه لنوع القارئ المفترض. كما أن الكتابة أو الشخصيات أحيانا تفرض مسارا محددا لا يكون مقصودا في البداية، وكثيرا ما أمتثل لتلك الأصوات وأتماهى معها ملبيا رغباتها ولا يعنيني لاحقا تصنيف القارئ لتلك الرحلة، فبعض تلك الانطباعات في الحقيقة ما يقرأها الفرد في مواقع مثل Goodreads مخزية، ولن أقول تافهة فبعضها حتى لا يمتلك ترف التفاهة. ولو وضع الكاتب اعتبارا لمثل هؤلاء القراء لانتهى الأمر به بكتابة قصص تجارية رخيصة.
من خلال متابعتك لأعمال محفوظ منذ البداية هل ترى أن القراء اختزلوه في أعمال بعينها؟
–نعم فالبعض اختزل محفوظ في الأعمال التي تحولت إلى أفلام سينمائية حققت جماهيرية، خصوصا “بداية ونهاية” و”اللص والكلاب” والثلاثية و”زقاق المدق”. وبشكل أقل اهتماما “خان الخليلي”، وطبعا “أولاد حارتنا” التي لم تقرأ أيضا بالمعنى الواسع لمفهوم القراءة، بقدر ما اتخذ منها وسيلة لمهاجمته كرمز للكتاب العلمانيين بشكل عام.
وهناك اختزال نخبوي أيضا حيث يتوقف الكثير من كتاب الجيل الجديد أمام عمله “ميرامار”، بسبب شكله غير التقليدي، و”أصداء السيرة الذاتية” بوصفها نصا ينفتح على مصادر الحداثة أكثر بكثير من الأشكال التقليدية للكتابة.
هل ترى أن ثمة إشكالية بين الأدب الجماهيري والأدب النخبوي؟ وفي أي خانة يُمكننا أن نضع نجيب محفوظ؟
– نحن بشكل عام نحن لا نزال نحبو في فن الرواية، فبينما تجد في الغرب مئات الكتب في كل فرع من فروع الرواية: رواية الجريمة، الإيروتيكا، الخيال العلمي، المغامرات، القصص المصورة، الرعب، وكل من هذه التقسيمات توجد لها فروع، فإننا نريد أن نكتب كل شيء تحت عنوان رواية بلا تصنيف. وبسبب ذلك تغيب لدينا معرفة الاختلافات بين الأدب الجماهيري والأدب النخبوي. وتجد كتابا يريدون أن يكتبوا مزحا ومواقف طريفة يطلقون عليها قصصا أو روايات، بل ويتصورون أن هذا هو الأدب.
الأدب التخيلي الرصين الذي ينتمي إليه أدب محفوظ هو الشكل الشائع لدينا، لكن قلة الوعي الأدبي أدخلت أعمال إحسان عبد القدوس في نفس التصنيف على رغم أنه كان يكتب غالبا روايات اجتماعية رومانسية، كما أدخلت معه رواية مثل رواية “حمام الملاطيلي” لإسماعيل ولي الدين، بل وقارن البعض مبيعات كتبه بمبيعات “حمام الملاطيلي” على رغم أنها كانت رواية إثارة خفيفة جماهيرية.
هل من الممكن أن نرى عملا جديدا للمبدع إبراهيم فرغلي يقوم على التناصّ مع عمل لمحفوظ بخلاف أبناء الجبلاوي؟
– ربما، ليس لدي مشروع من هذا النوع حاليا، ولكن من يدري فأعماله في تقديري تمتلك حسا شموليا وفلسفيا يجعلها دائما قادرة على التناص مع واقعنا الراهن.