محمد الفخراني
أُحبهما بالدرجة نفسها، وأشعر مع أىّ منهما بحالة الفرح التى أشعرها مع الأخرى، لكنى أقول هنا كلامًا لطيفًا للقصة، ليس دفاعًا عنها، فهى من الجمال بحيث لا تحتاج لمن يدافع عنها، كلامى أيضًا ليس فى مواجهة الرواية، فهى من الجمال بحيث لا يمكن كتابة شىء بمواجهتها، هما صديقتىَّ الجميلتين، وتُمثِّلان لى مع أشكال السرد الأخرى عالم “الكتابة”، والكتابة فكرة تُجمِّل العالم.
ما أقوله للقصة هنا، ببساطة، مثل أن تعرف شابة رائعة، وتريد أن تقول لها: “أنت رائعة”.
القصة شابة ذكية، جميلة، متمردة، لا تكبر فى العمر، ولأنها كذلك يدور حولها كلام كثير، كما أنها تُثير غيظ القلوب والعقول العجوز الخاملة، وكل مَنْ يتقدمون فى العمر، ولسوء حظ القصة، أو العكس، وربما لا يعنيها الأمر بالأساس (وهذا ما أُرجِّحه)، فإن الكل يتقدمون فى العمر، لذا، من الطبيعى ألا تنجو هذه الشابة الرائعة من الإشاعات، والكلام الساذج، غير اللطيف، لكنها لا تبالى بأىّ من هذا كله، وتظلُّ رغم كل شىء، سالمة، صامدة، هى تعرف أنها فى مكان خاص داخل كل قلب، تثق أنها قادرة على أن تخطف حياة كاملة فى طرفة عين، تخترع عالمًا بضحكة واحدة منها، والكل يعرف عنها ذلك، لذا فهى مرعبة، وجميلة، مرعبة حَدّ الجمال، جميلة حَدّ الرعب.
“أُكتب قصة حتى أراك”، يمكنك أن تقول هذه الجملة لأىّ كاتب، لن أسمِّيه اختبار “السهل الممتنع” (رغم المعنى الشائع، والمقصود من الجملة)، فهذا الاختبار ليس سهلاً، وقد يكون ممتنعًا جدًا.
لست مع ما يقال بأن أىّ كاتب يستطيع أن يكتب رواية، فهذ استخفاف بالرواية لا يليق.
وعندما أقول قصة، فأنا لا أقصد قصة جيدة، أو حتى رائعة، فهذا شائع، أقصد قصة مبتكرة.
لو لم ينجح كاتب فى كتابة قصة فإنها تتحوَّل على الفور إلى قنبلة تنفجر فى وجهه، يمكنك أن تلاحظ بسهولة أن كُتَّاب القصة الرائعين يبدون مكتملين، بغض النظر عن فكرة الكمال، فهى ليست موجودة، لكنه ذلك الإحساس بأن هذا الكاتب ليس فى حاجة لأن يكتب رواية، والأمثلة موجودة، لكن كاتب الرواية، ومهما كان بارعًا، يظل ناقصًا، ويظل إبداعه ناقصًا، حتى يكتب قصة مبهرة، ولو قصة واحدة، كأنها شهادة جدارته (ليس تقييمًا أو حُكمًا هنا، لكنها القصة مَنْ يخلق هذه الحالة)، للقصة سرّها فى هذه التفصيلة، ربما يظل هذا الكاتب، الذى بلا قصة، مشغولاً بشبح كونه لم يكتب قصة، وله الحق، بالفعل لن “يكتمل” إلا بها (عكس ما هو شائع أو يُشاع بأن القاص مشغول بعدم كتابته الرواية، قلت فى البداية أن هناك بعض الإشاعات حول القصة).
لا يمكنك العبث مع القصة، وإلا أطلقَتْ النار على رأسك، يا لصراحتها، جديتها، لعبها، وانعدام صبرها، جريئة، تكشف عن عيوبها على الفور، لا تخجل أن تفعل ذلك، الحقيقة، هى تحب أن تفعل، تستلذ وتنتقم بكشف عيوبها، وأنت، لو غَفَلْتَ عنها لحظة واحدة أطاحت بك عن الطريق.
القصة لعبة السَّحَرَة، لا يمارسها الحواة، هى لعبة كبيرة عليهم، لا يمارسها إلا السحرة الحقيقيين، القصة تكشف أىّ “حاوى”، أو لاعب غير أصيل، قلبها قاسٍ على الحواة، لا هوادة، قلبها رقيق مع السحرة، يضحك لهم، لديها كبريائها الخاص، غير متهافتة، إذا لم يعجبها أحد أو مكان غادرَتْه على الفور، لديها القدرة على الاختيار، لا تُقدِّم تنازلات، عصبية، لا تقبل أشباه الحلول، صعبة المراس والإرضاء، هى أكثر أشكال السرد توقًا للكمال، وتبغى الوصول إليه بأسرع وقت.
مثلما تتقدَّم الكثير من عناصر العالم فى العمر، وتشيخ ربما، بينما تظل عناصر أخرى شابة، حتى تُجدِّد حياته، فَرَحَه، وفتنته، تبقى القصة شابة كى تحمى بقية أشكال السرد من الفناء، هى المادة الخام للسرد، الرائع أنها أيضًا الشكل المتطور لجميع صور السرد.
والآن، تخيَّل العالم للحظة واحدة بلا قصة، هل تستطيع؟ من الأفضل حتى ألا تفكر فى هذا.
تبدو القصص الجميلة مثل قصص الحب العابرة، والتى فى الوقت نفسه لا يمكن نسيانها، قصص الليلة الواحدة، ومحطات السفر، والمرور بجوار شرفة أو نافذة فتحب فيها وجهًا لا تعرفه، تلك قصص الحب الخالص، بلا لوعة، ملل، ترهُّل، تضييع للوقت، أو عذابات، إنها حب خالص، قصة خالصة.
أَدخلُ مقهىً ليليًّا، فأجد القصة والرواية جالستين معًا، وبينهما القهوة، تسخران مما يدور عنهما من كلام لا يرقى لفتنتهما وجمالهما، أحيانًا أُلوِّح لهما من بعيد، ودائمًا أنضم إليهما، نقضى بعض الوقت فى كلام وألعاب، ثم نخرج ثلاثتنا، أنا والقصة والرواية، لنتسكَّع فى حكايات العالم، ونخترع له حكايات يتسكَّع هو فيها.
“القصة أم الرواية؟”، رهان خاسر، سؤال خاسر، لا أحد يفاضل بين قلبه ودقاته، بين عينه وبصره، لا حالم يفاضل بين أحلامه وطيرانه، خيالاته وأشواقه، هذا الرهان الساذج ينشغل به الجزء المُرابىِ من العالم، والأقل ذكاءً، أما الجزء الحالم، الحُرّ، فلا تعنيه هذه الرهانات الخاسرة، الجزء الحالم يُبدِع، يستمتع، ويُحلِّق قصةً ورواية.