أَتَيْنا مُتَأَخِّرِينَ إِلى الحَياةِ

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مروان ياسين الدليمي

١-

لَم أُدرِكْ مَتى حَدَثَ هَذا

وَكَيفَ انْفَلَتَتِ الأَيّامُ مِن يَدي

كَـمَن يَسكُبُ ماءً فِي الظَّلامِ.

 

لَم أَلمَحِ الطَّريقَ

لَم أَشُمَّ رائِحَةَ الوَداعِ

لَم أَسمَعْ صَريرَ البابِ

وَهُو يُغلَقُ عَلى أَعوامٍ كامِلَةٍ

كانَت لي.

ثُمَّ لَم تَعُدْ.

 

كَأَنَّنا خَرَجْنا مِن مَشهَدٍ

وَبَقِيَتْ فيهِ أَرواحُنا

تُلَوِّحُ مِن بَعيدٍ بِأَيادٍ شَفّافَةٍ

تَبحَثُ عَنِ المَعنى

وَلا تَجِدُه.

 

كُنّا نَظُنُّ أَنَّ لَدَيْنا وَقتاً

لَكِنَّ الوَقتَ لا يُعطى

الوَقتُ يُؤخَذُ بِبُطْءٍ

بِهُدوءٍ قاتِلٍ

كَالمَوتِ وَهُوَ يَتَقَدَّمُ حافِياً

يَمشِي عَلى أَطْرافِ أَحلامِنا

وَلا يُصدِرُ صَوتاً.

 

كُلُّ ما تَشَبَّثْنا بِهِ تَفَتَّتَ

تَهَشَّمَ كَما الفَخّارِ اليابِسِ

مَنسِيًّا فِي زاوِيَةِ الضَّوءِ.

 

الحَياةُ القَديمَةُ

الَّتي ضَمَّدْناها بِعَزائِمِنا

انكَسَرَتْ.

وَلَم تَصرُخْ.

 

٢ –

وَالآنَ،

ما الَّذِي تَبَقّى؟

لا شَيءَ سِوى فَراغاتِنا.

فَراغاتٌ تَتَّسِعُ كُلَّ يَومٍ

وَتَبتَلِعُنا بِبُطءٍ.

 

هَل تَرى

كَيْفَ أَصبَحْنا أَشباحًا لِأَيّامِنا

نَمُرُّ عَلى عَتَباتِ الأَحلامِ

لَكِنَّنا لا نَعيشُ فيها

فَقَط نُراقِبُها مِن بَعيدٍ

كَمَا يُراقِبُ السّائِرُ ظِلَّهُ فِي مِرآةٍ مُهَشَّمَةٍ  ؟ .

 

كُلُّ شَيءٍ يَتَلاشَى

وَكُلُّ لَحظَةٍ تُصبِحُ أَثَرًا

أَثَرًا قَلِقًا يَتَنَقَّلُ بَيْنَ أَطيافِ الذِّكرياتِ

وَيُخبِرُنا بِصَوتٍ مُنخَفِضٍ:

“لَن تَعودوا كَما كُنتُم،حَتّى لَوِ استَمَرَّ الزَّمانُ.”

 

تِلكَ البِلادُ الَّتي حَلِمْنا بِها

لَم نَرَ مِنْها شَيئًا

أَعْجَزَنا الزَّمانُ

أَم نَحنُ مَن عَجَزْنا ؟

بَيْنَما تَبقَى الصُّوَرُ فِي رُؤوسِنا

مُلَوَّنَةً بِأَمَلٍ أَصبَحَ شاحِبًا.

 

العُمرُ يَصرُخُ فِي آذانِنا لَكِنَّنا لا نَسمَع

أَصبَحْنا مُعتادِينَ عَلى الخَوفِ

مِن كُلِّ خُطوَةٍ تَقتَرِبُ مِنَ الهَاوِيَةِ.

 

الزَّمَنُ،

ذلِكَ العَدُوُّ الصّامِتُ

يَمضِي فِي طَريقِهِ

وَنَحنُ،

نَقِفُ مُتَفَرِّجِينَ

عَلى ما تَبَقّى مِن أَحلامِنا

الَّتي لَن تَكتَمِلَ أَبَدًا.

 

3 –

ها نَحنُ،

وقفْنا فِي مُنتَصَفِ الطَّريقِ

بَينَما يَظَلُّ الزَّمَنُ يَمضِي مِثلَ نَهرٍ يَتَساقَطُ مِنَ الجِبالِ

يَحمِلُ مَعَهُ غُبارَ الأَيّامِ الَّتي اهتَزَّتْ فِي أَعيُنِنا

يَغرَقُ فِي سُكونٍ لا يَرحَمُ.

 

ماذا يَبقى لَنا ،

وَأَحلامُنا تَكادُ تَذوبُ مِثلَ الثَّلجِ ؟.

 

أَلَمْ تُلاحِظْ ؟

كَيفَ أَنَّ جُرحَ الزَّمَنِ يَتَّسِعُ

كَما لَو كانَ فَمًا مَفتوحًا فِي وَجهِ السَّماءِ

يَنتَظِرُ أَنْ يَبتَلِعَنا جَميعًا.

وَكَيفَ أَنَّ الوُعودَ الَّتي قُطِعَتْ عَلى شاطِئِ الذّاكِرَةِ

تَتَلاشَى كَأَنَّها دُخانٌ

يَتَناثَرُ فِي الرِّياحِ.

 

لَم نَعُدْ نَملِكُ شَيئًا لِنَخسَرَهُ

لَقَدْ فَرَّتْ مِنَّا الحَياةُ كَما يَفِرُّ الماءُ مِن بَينِ الأَصابِعِ

كَقطرَةٍ تَنزَلِقُ عَن حافَّةِ غَيمَةٍ قَديمَةٍ

تَسقُطُ فِي بَحرٍ لا يَعرِفُ السُّكونَ.

 

أَرضُنا الَّتي سارَتْ عَلى خُطى أَقدامِنا

تَعوِي بَينَ شُقوقِها أَصْواتُ الرِّياحِ

وَكُلُّ شَيءٍ فيها يُذَكِّرُنا بِحُطامِ ما كُنّا عَلَيهِ.

 

هَل تَعلَمْ

نَحنُ الآنَ مُجَرَّدُ بَقايا صُوَرٍ

رَمادٌ بَينَ أَصابِعِ الزَّمَنِ،

نَعيشُ عَلى أَطيافِ أَمكنَةٍ لَم نَصِلْ إِلَيها

وَأَزمِنَةٍ لَم نَكُن نَعرِفُها إِلّا فِي أَحلامِنا المَفقودَةِ ؟ .

 

نُحاوِلُ أَنْ نَلتَقِطَ أَجزاءَ ما تَبَقّى

لَكِنَّها تَتَناثَرُ كَالرِّمالِ بَينَ عُيونِنا

كُلَّما اقتَرَبْنا مِنْها

ابتَعَدَتْ

كَما لَو كانَتِ السَّرابَ الَّذي طالَما سَعَيْنا خَلفَهُ

وَنَحنُ نَعلَمُ أَنَّهُ لا يُوجَدُ.

 

٤ –

كُلَّما نَظَرْنا إِلى الوَرَاءِ

نَرى ظِلالَنا تَتَناثَرُ فِي الطَّريقِ

كَمَا أَوراقِ شَجَرَةٍ فَقَدَتْ أَوراقَها

قَبْلَ أَنْ تَأتيَ الرِّيَاحُ.

 

الأَيّامُ كانَتْ أَرْواحًا ضائِعَةً

نَبحَثُ عَنْها فِي الزَّمانِ

لَكِنَّها تَسَلَّلَتْ مِن بَيْنِ أَصابِعِنا

كَمَا يَنزَلِقُ الضَّوْءُ عَبْرَ نافِذَةٍ مَكسورَةٍ.

 

هَل تَرى

كَيْفَ تَتَحَوَّلُ اللَّحَظاتُ إِلى بَقايا رائِحَةٍ

تَتَطايرُ فِي الهَوَاءِ

تَترُكُ خَلفَها ضَبابًا

مِنَ الكَلِماتِ غَيرِ المَسموعَةِ

مِنَ الوُعودِ الَّتي تَحَطَّمَتْ

قَبلَ أَنْ تَكتَمِلَ الصُّورَةُ  ؟ .

 

إِنَّنا نَسِيرُ عَلى حافَّةِ العُمرِ

كَمَنْ يَمشِي عَلى حَبْلٍ مُشَدودٍ

بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرضِ

بَيْنَ الأَمَلِ وَالمَوتِ.

كُلُّ خُطوَةٍ نَقومُ بِها

تَأْخُذُ مِنَّا شَيئًا صَغيرًا

حَتّى نَنتَهِيَ بِفَراغٍ لا حُدودَ لَهُ.

نَغرَقُ فِي ضَبابِ الأَيّامِ

وَنَبحَثُ عَنْ أَنفُسِنا فِي مَتاهاتٍ لا مَخرَجَ لَها.

 

أَلَمْ تُلاحِظْ ،

كَيْفَ تَحَوَّلَتْ أَحْلامُنا إِلى غُبارٍ

كَمَا يَتَحَوَّلُ الفَجْرُ إِلى ظَلامٍ

حِينَ تَبتَلِعُ الشَّمسُ أَوْهامَنا ؟

وَكَيْفَ أَنَّ الأَيّامَ كانَتْ مُجَرَّدَ سَرابٍ

نَظُنُّ أَنَّنا نَمشِي نَحوَهُ

لَكِنَّنا دائِمًا نَعودُ إِلى نَفْسِ المَكانِ

نَعودُ إِلى البِدايَةِ

إِلى الفَراغِ الَّذي لَم نَملَأْهُ  ؟ . 

 

إِنَّنا نَموتُ فِي كُلِّ لَحظَةٍ

وَنَحيا فِي أُخْرَى

وَلَكِنَّنا لا نَعلَمُ مَتى سَيَكونُ آخِرُ نَفَسٍ

وَمَتى سَتَتَوَقَّفُ القُلوبُ عَنِ الخَفَقانِ.

 

نَحنُ تِلكَ الرِّياحُ الَّتي مَرَّتْ مِن دُونِ أَنْ تَترُكَ أَثَرًا

أَو رُبَّما تَرَكَتْ

وَلَكِنْ لا أَحَدَ يَراها.

 

إِنَّنا الزَّمانُ الَّذي فَقَدَ نَفسَهُ

فِي زَحمَةِ الأَيّامِ

يَختَفِي فِي الظِّلالِ

قَبْلَ أَنْ يَعرِفَ أَنَّهُ كانَ هُناكَ.

 

٥ –

لَكِنْ،

فِي كُلِّ هَذَا الانْكِسارِ

ثَمَّةَ شَرارَةٌ صَغِيرَةٌ لا تَزالُ تَحتَرِقُ

فِي عُمْقِ العَتْمَةِ.

 

رُبَّما لا تُنقِذُنا

لَكِنَّها تُذَكِّرُنا أَنَّنا كُنَّا هُناكَ

أَنَّنا صَرَخْنا

وَكَتَبْنا أَسماءَنا عَلى جُدرانِ الوَقتِ

بِحِبرٍ مِن وَجَعٍ وَعِنادٍ.

 

رُبَّما لا نَصِلُ إِلى البِلادِ

لَكِنَّنا حَمَلْنا خَريطَتَها فِي قُلوبِنا

حَفِظْنا أَسماءَ أَنهارٍ لَم نَرَها

وَرَسَمْنا السَّماءَ كَما حَلِمْنا بِها

زَرقاءَ ،

تَضحَكُ.

 

المَوتُ،

نَعَم ،

يَنتَظِرُنا عِندَ الزّاوِيَةِ

لَكِنَّنا لَم نَأتِ إِلَيهِ راكِعِينَ

جِئناهُ نَحمِلُ بَقايا حُلْمٍ

وَرَمادَ مَدينَةٍ كُنّا نَبنِيها فِي صُدورِنا

كُلَّ صَباحٍ

وَنُعيدُ تَرمِيمَها

كُلَّ مَساءٍ.

 

نَحنُ جِيلُ الخَسارَةِ

لَكِنَّنا أَيضًا جِيلُ المَعنَى

جِيلُ الأَثَرِ

جِيلُ الطِّينِ الَّذِي تَكَسَّرَ

ثُمَّ نَهَضَ مِن ذاتِهِ

حامِلًا شُقوقَهُ كَعَلاماتِ نُبُوءَةٍ.

 

الحَياةُ فَرَّتْ،

نَعَم،

لَكِنَّنا طارَدْناها حَتّى تُخُومِ المُستَحِيلِ

صَرَخْنا فِي وَجهِ الزَّمَنِ وَلَم يَسمَعْنا أَحَدٌ

لَكِنَّ الصَّدى  لا يَزالُ يَدورُ

يَدورُ فِي الأَعماقِ

يَرِنُّ كَجَرَسٍ قَدِيمٍ

يُذَكِّرُنا أَنَّنا كُنَّا هُناكَ

وَأَنَّ هَذا كانَ كُلَّ ما نَملِكُ:

أَنْ نَكونَ.

مقالات من نفس القسم