أحمد أولاد عيسى
لم يدر صديقي ابن “خاشي عيشتة” المسكين أن حرف “رائه” المعطوبة ستغدو من حروف العلة مع أبي، الوالد، الإمام الصارم، المربي المعلم، المقتدر المقدر لآيات الله المبثوثة في الكون المنشور، والمفسرة في الكتاب المسطور.
كان ابن الخالة المسكين “أمْحاضريا” عند أبي، يكبرني سنا بعقد من الزمان. وكنت رفيقه الذي يلازمه في الكتّاب وفي حلق اللعب، أثناء فرص الراحة. لم أكن أحظى بأي حظوة عند أبي وقت التعلم. ولا كانه هو الآخر رغم صداقته لي وصداقة أمه الأرملة لأمي المغلوبة.. بل إن المسكين كان، كأنما يستزيد من غلظة الوالد فيزيده منها لعطب طفيف في مخارج الحروف، وبالذات حرف “الراء” الذي كان يخرج على لسانه، كما لو أنه في حالة موت سريري، يأتي بين “الرّاء” الممتلئة حياة، وبين ما يشبهها مشبعة موتا لعطب في النطق.. إذ كان ينطقها “مغينة” (نسبة الى حرف الغين) ولست راء مشددة مفخمة.. وكان ذلك يثير حفيظة الوالد، رحمه الله، إذ رآه تحريفا لآيات القرآن الكريم، المحكم التنزيل السليم.
ولذا، قرر الوالد أن ينهى عن هذا المنكر، فجلس أمامنا، وبيده أسلحته المثيرة للرعب، قضيب من شجر الزيتون المباركة، مصقول بعناية بالغة. قد لازمه لسنين طويلة حتى كنا نخال أنها جزء من متن ساعده المتينة. قرر إذن، أن يعالج ما أعتقده “علة” في الخلقة، تستوجب المعالجة من الأساس. أمرنا بأن نصمت فصمتنا، وأن نسكن فسكن فينا الصمت فكنا أشبه بكائنات بلا أرواح. ساد صمت رهيب المكان ـ و ظللنا، إليه بأبصارنا خاشعين زمانا.. كان للوالد هيبة المعلم الذي لا ترد له كلمة. وكانت هيبته مستمدة من شخصه ومن سلطة علمه وقرآنه.
بصوته الجهوري نادى على ابن الخالة “عيشتة” أن أقبل فأقبل. وكان المسكين حين سمع النداء باسمه كاد أن يقع من طوله. نظرنا تجاهه حائرين متسائلين: ما الذي يجري معه؟ ما الجرم الذي اقترفه؟ فاليوم ليس يوم استظهار لمتن اللوحة. فلأي غاية يناديه؟
تقدم ابن الخالة الصفوف حتى بلغ مجلس الوالد فأمره أن يجالسه الركبة بالركبة ففعل. ثم أمره أن يفتح فاهه فأطاع. وأمره أن يخرج لسانه فانصاع. كان أشبه بميت أمام مغسله، يقلب حيث شاء وكيفما شاء، والمسكين لا يدري ما يجري معه. نظر الوالد في قلب الفم واللسان مندلقة لعابه من طول المدة التي ابقاه خارج “عرينه”. تمعن الوالد في اللسان طويلا ثم قال بنبرة الواثق:
-” هنا مكمن العلة يا بني.”
ثم، من جيب جلبابه، أخرج منديلا ناصع البياض بيمينه.. وشد على جبهة المسكين بيسراه. ثم أمره بإبقاء عينيه مغمضتين لا يفتحهما إلا بعد يأذن له، فامتثل للأمر.
وفجأة، أمسك الوالد لسان الصبي فجذبه بكل ما أوتي من قوة. صرخ المسكين صرخة تقطعت لها نياط قلوبنا الرقيقة، وخلناه أن قد صار الآن – أي اللسان- قطعة بين بيد والدي..
وأغمي على ابن الخالة “عيشتة”.
ثم غاب عن حلق الحفظ لشهور تزيد عن الستة، كان خلالها يقتات على السوائل، يكتفي من الطعام ما كان ساخنا، ولبنا سائغا تحلبه أمه المحتسبة الصابرة، من عنزة تدره بسخاء. كانت أوداج المسكين قد غدت منتفخة: لسان متورم، وحنك منقبض، وبلعوم ولوزتان منسددة من شدة الانطباق. كان في محنة عظيمة لم يشهد مثلها مخلوق على الاطلاق. وكانت الخالة، في مصابها صابرة محتسبة، لا تشكو ولا تشتكي، ولا تظهر تبرما من الوالد أو الوالدة. وكان كلما سألاها عنه أجابت:
ـ الحمد لله. سيجتازها بإذن الله.
وانصرمت الشهور الستة. فعاد المسكين الى حلقة القرآن بأمر من والدته الخالة “عيشتة”. دخل حاملا لوحته، فجاء يجلس الى جواري كالمعتاد.
انتبه الوالد لحضوره فأومأ إلينا بيديه أن أصمتوا فصمتنا. ثم نادى عليه أن أقبل فأقبل. وأمره أن يجلس بركبتيه الى ركبتيه ففعل. وقال له:
قل: رّاء.
قال: “رّاء”. خرجت من لسانه سالمة قوية، مشددة رخيمة. لا غنة فيها ولا علة.
قال الوالد وقد علته ابتسامة عريضة:
– الآن صار لسانك بلا علة، جديرا بآيات الله المبينة..
ملاحظة: هذا الرجل ابن الخالة “عيشتة” صار فيما بعد حافظا للقرآن الكريم، وإطارا تربويا بوزارة التربية والتعليم. اضطلع بمهام تدريس الرياضيات ثم مفتش لها حتى تقاعده..
رحم الله الجميع..
………………..
*كاتب من المغرب