جمال فتحي
النافذة أو النوافذ هي في نظري كلمة السر في ديوان الشاعر محمود خير الله الصادر عن سلسلة الإبداع الشعري التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب والذي حمل عنوان ” الأيام حين تعبر خائفة” ..يقول: احصل على النافذة أولا/ وأنا أضمن لك أن القمر سيأتي لك صاغرا” ..ويقول في القصيدة نفسها:” أنا لا أملك من حطام الدنيا سوى عينين ونافذة” ..” لم يبق معي دائما وإلى النهاية سوى الشرفات”.. “بعض الشرفات تودع حياتها التليدة”..” أنا صديق النوافذ المفتوحة” كل ذلك الحضور بتجلياته وأشكاله التي اتخذتها نافذة خير الله في تلك القصيدة المعنونة بـ ” عاريا يتغطى بنافذة ” وكذلك الأشكال الأخرى التي اتخذتها نافذته في قصائد لاحقة أيضا كما في قوله” يشعر العالم باليتم حقا / لو لم ير رضيعا / يسقط حيا من النافذة” يعزز يقيني أن نافذة خير الله هي النافذة التي نستطيع أن نطل منها على عالمه الشعري الواسع والمطروح في ديوانه البديع ذو اللغة الرائقة وهي الكود السري وشفرة الديوان المخبوءة وسط السطور والكلمات والقصائد، ولكن لماذا أرى ” النافذة” بابا سحريا لسرداب تأويل محتمل لرؤية الشاعر في ديوانه؟ ببساطة لأن حضور ” النافذة أو الشرفة حضور مهيمن ومتعدد الوجوه .. بما يشعرك طوال الوقت أنك كقارئ لا تقرأ النصوص بقدر ما أنت تطل طوال الوقت على الشاعر وترى داخله من عوالم فسيحة ورؤى متشابكة عبر قصائده/ نوافذه المشرعة دائما وأبدا.. ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا إذا كانت قصيدة الشاعر أصلا هي نافذة بالنسبة له أولا يرى نفسه وذاته من خلالها ويطلع على عوالمه الداخلية بل ويكتشفها مدهوشا تماما مثل قارئه.. ويعزز أيضا ذلك اليقين السابق كما أشرت ذلك الحضور المتعدد للنافذة بحيث تغيب في كثير من الأوقات مفردة نافذة أو شرفة بشكل صريح ومباشر لكنك كقارئ لن تفارقك أبدا حالة المشاهدة وأجوائها طوال الوقت؛ فقد وضعك الشاعر إما تحت الشرفة أو أمامها أو مستغرقا في المشهد الذي تراه عبرها أو مستمتعا بنسيم يمر إلى خديك من خلالها ، فلا يمكن تصور مثلا أن “.. اليمامة/ تأتي كل ليلة مع عشيقها/ إلى حفرة في الجدار” إلا إذا قد شاهدتها عبر النافذة التي رسمها الشاعر في ذهنك حتى ولم يصرح بها،
إن القصيدة هي نافذة الشاعر التي يطل من خلالها داخليا على ذاته وربما ذواته المتعددة وخارجيا على العالم وسياقاته المختلفة وهي أيضا النافذة التي يطل منها القارئ على عوالم الشاعر ورؤاه، فقد رأينا عبر نوافذه الأقمار والنهر الذي يأتي والدموع التي هطلت والفتاة التي أطلت، وراقبنا تلويحات الوداع وانتظرنا الملاءات الندية حتى تجف، وصرخنا من أجل رضيع سقط حيا، وتابعنا القمر رغيفا أبيض يطلع كل ليلة كقرط في أذن الغيم وشعرنا بنشوة الرذاذ الخفيف.. وهكذا حتى أدركنا معه فعلا ارتباك أيامه وهي ” تعبر خائفه”.
وقد استطاع خير الله أن يطلعنا على الكثير من مفردات عالمه الواسع عبر لغة مقتصدة تسير كنهر واثق يحمل الكثير من انعكاسات خيال طازج وشاعرية لا تتوسل بغير الجمالي والإنساني بعيدا عن المكرور والمجاني.