نهلة عبد السلام
وما أكثر الغرقى، الملفوظين لا من أوطانهم فقط بل ومن ذويهم قبلاً، ثمة رحيل يحفظ ما بقى من ود مزعوم، الكل يلقى بنفسه إلى الماء دون الأخذ فى الإعتبار لأى من أسباب النجاة، ربما لا يرغبون بها أصلاً، أو تتساوى لديهم جثة سائرة مع أخرى طافية، “لكن تلك الروايات تم تعديلها بعد أن تناقلت الأخبار المحلية ما يؤكد أن فرقة من قوات الجمارك وحماية الحدود الأمريكية قد أطلقت النار على المركب”.. أمريكا الجنة كما يخيل لنا بلا استثناء لواحدة من ولاياتها ولا شبرمن أرضها، تصفعنا ميرال الطحاوى بتقسيم فج يباعد ما بين (الشمس المشرقة) حى المنكوبين حيث (سرة الأرض) المتخمة بالبشر فيما يطلقون عليها خزان الخراء، و(الجنة الأبدية) حيث المنعمين، وبينهما يقف على الأعراف قاطنى (هضبة سنام الجمل)، تجاورهم (حديقة الأرواح) المكان الرسمى لإعلان الإنسحاب من الحياة، ووحدها المقابر المضمون معها أختام القبول “تنام المقابر متجاورة لا يكترث أهلها بالهويات التى انحدروا منها، تتراص القبور إلى جانب بعضها متساوية وعارية وفقيرة وسط نباتات الصبار العملاقة”.
نعم الخباز.. “تتعدد الصور لكنها عادة ما تكون الضحية”
تعرض ميرال الطحاوى العالم الذى جاءت منه (نعم) بتفاصيل متقنة حد تصور نبرة صوت الشخوص .. تعبيرات وجوههم وحركات أجسادهم، خلفيات نشأتهم التى جعلتهم على ما هم عليه، مهزومين وكبرهم يدفعهم لإكمال مباراة نتائجها معلنة منذ وطأوا الملعب.
الريسة.. ربة البهجة
زوجة الأب ومن بيدها الحل والعقد “تدير(الريسة) عالمها بروح ذكورية خالصة، اكتسبتها بمرور الوقت وبمساعدة ملامحها الحادة، ونبرات صوتها الخشنة، وموهبتها فى توظيف الألفاظ والإشارات الجنسية فى مواجهة خصومها المحتملين”، وهو درس (نعم) الأول فى إدارة عالمها الذى إنهار مع تشوه جانب من وجهها فى طفولتها، حينها لم يكترث أحد لعمق ألمها ومع طمره تحول إلى طاقة غضب كامنة “تملك (نعم) فى لحظات غضبها شهية للتفحش، وقدرة على مواجهة الألم بتلك الروح العدوانية التى تتحول إلى سعار من الغضب، تحب (نعم الخباز) اللحظات التى تلى معاركها، تشعر أنها تحررت من كل ما يثقلها من غضب”.
وثمة عزاء فى مرافقة من يؤكدون لها أن التعاسة قدر لا يخصها وحدها “تعرف (نعم الخباز) الكثير من نساء الحي، تعرف كيف تصنع أصدقاءها، وفى الحقيقة تختارهم بعناية لملء فراغ روحها بتفاصيل حياتهم التراجيدية، تلك التفاصيل التى تؤنسها وتطمئنها أن ذلك الشقاء مقسوم ومحتوم ولا يخصها وحدها”، لذا وجدت ضالتها فى (فاطيما) “تحب (نعم الخباز) صديقتها الصومالية (فاطيما) التى تشاركها أحزانها وتشعر معها بروعة القدر الذى يعاقب الناس بأشكال عادلة لا يتدخل فيها الجمال كنعمة محضة، فعلى الرغم من جمال (فاطيما) فقد كان زوجها يخونها مع كل من عرف من النساء”.
جعفر الخباز.. سابح فى مقام الريسة
تاركاً لها الزمام تتصرف كيفما تشاء “قضى (الخباز) نصف حياته فى الباحة الخلفية لهذا المسجد الذى تتعهده إحدى الفرق الصوفية، تلك التى يرخص أفرادها كل أنواع المغيبات كالحشيش والأفيون، على اعتبار أن تلك المغيبات تعين العبد على الانفصال النسبى عن الوجود، أو تطلق طاقاته الروحية”، حتى بناته كان معنى بالتخلص منهم نهائيًا مع تزويجهن، بغض النظر عما ستكون عليه حياتهن مع أزواجهن، وكأنه يبتكر لون جديد من الوأد لا يحرمه شرع أو يجرمه قانون “(جعفر الخباز) بدوره كان قصير النفس فى المفاوضات فهو لا يسأل عن المهر أو ترتيبات الزواج، فقط يتفقد المؤخر الذى يجعله تعجيزيًا ويضمن بذلك قدرة نسيبه الجديد على تدبير أمر عروسه فى بيته لبقية أيام عمرها، فمتى خرجت البنت من بيته فمن الأفضل أن تظل حيثما ذهبت، وألا تفكر مجرد تفكير فى العودة إلى بيت أبيها إلا لمجرد الزيارة”.
أمر الله.. وقضاؤه
“أنت ونصيبك يا نعم.. الله يكتب لك الخير يا بنتي مطرح ما تروحي” أول وآخر ما قاله (جعفر الخباز) لابنته حين أوصلها إلى بيت (أمر الله) وهى دون الثامنة، “لم تكن (أمرالله) تصلي ولا تسبح ولم يتناقل الناس عن كرامتها سوى أنها تأكل مال النبي، لكنها مع ذلك تضع اسم الله فى كل جملة” تدليس مردوده مضمون مع الزبون، تطعيم الحوار بما ينم عن تدين يلجم عقل المتلقى، يستحى حتى من التشكيك فى مصداقية الأمر، ومن ثم أفضت الصفقة إلى ملازمة (نعم) السيدة (ذات الأوجاع) التى تكالب عليها وجع المرض مع وجع هجران الأولاد، فكانت تأشيرة ولوج (نعم) عالم لا تستحى فيه من إعلان غربتها.
نجوى.. لم يصبها الدور
فى الحب شاهد وأحيانًا مشارك فى الأحداث، أما الحبيبة فدائمًا وأبدًا بطلة تتمتع بمواصفات لم تتسنى لها، البدانة والسمرة مع قصر القامة والروح المنهكة من مشاعر الرفض لرفقتها.. العبور من خلالها إلى أنثى أخرى وكأنها لا تنتمى إلى صنف النساء.
بداية من (يوسف الأزهرى) استاذ التاريخ والاجتماع والدراسات الاسلامية وركضه خلف (زهرة) تلميذته التى أحالت ليله نهار، وتُوجت القصة بتعينها معيدة والتخلص من الشاهدة الوحيدة على نزقهما، فكانت البعثة حيث ألتقت (جون) الرجل الوحيد الذى نعتها بالجميلة فتأكد لها سكره “قلت لك إن تلك المدينة تقتلني، إنها باردة وحقيرة، قال (جون) ذلك فعرفت أنه مخمور تمامًا، كان يردد تلك الجملة كثيرًا إذا كان مخمورًا، تأكدت من ذلك بعد أن لوح لها قائلاً:اذهبي أيتها الفتاة الجميلة، كان أول رجل يقول لها ذلك، لابد أنه كان مخمورًا تمامًا ليستطيع قول تلك الجملة، كانت تعرف أنه يقولها ليطيب خاطرها فابتسمت بطمأنينة”، فحتى (نعم) ملكت ما مكنها من الإيقاع بـ (أحمد الوكيل) بينما هى زهدها حتى رجل بمثل حال (محمود الخليلي) فأنكر بمجرد مجالستها فكرة الزواج.
وتأتى رفيقة سكنها الأول (ياسمين العامرى) “لم يكن بوسع أحد إهانتها لأنها كانت أذكى، وأكثر ثقة، وتملك من قوة الشخصية ما تعجز (نجوى) عن امتلاكه”، لذلك أستنكرت إستماتتها فى إرضاء مشرفتها (هانا ميلر) رئيسة قسم الدراسات الشرق أوسطية “لذلك تعاملت مع (نجوى) باعتبارها كائنًا غير مرئي بالضرورة وغيرنافع فى كل الأحوال”، وهو ذات إنطباع (هانا) التى ما توددت إليها إلا لتعرف عن طبيعة علاقة (ياسمين) بـ (آذار رضا) استاذ علم الأديان المقارن فلربما أثبتت عليه تهمة التحرش “تعتقد (هانا)- وكان هذا صحيحًا- أن (نجوى) جاهلة وشبه أمية، وأنها غير قادرة على التحصيل الدراسي وأنها ستعجزعاجلاً أو آجلاً عن المواصلة.. وربما ستحمل حقائبها وتعود”، وهو ما تفكر فيه (نجوى) ولكن بعض الطرق اتجاه واحد “وكلما كان عليك أن تكتب الجمل الكاذبة عن الحياة التى يتخيلها الآخرون، أصبحت الحقيقة غائمة والعودة من حيث أتيت إعلانً لفشلك”.
سليم النجار.. كل الحكايات ممكنة
“ولم يستطع سوى أن يكون حارسًا لعقار متهالك، تركه ملاكه الذين انتقلوا بقدرة قادر إلى أعلى الجبل، رحلوا بعد أن شكلوا النموذج المثالي للمهاجرين الذين يستطيعون بعد نصف القرن من الجهد والعرق والتفاني فى اللهاث والتسلق، الوصول إلى تلك الجنة الأبدية” وإن كانت حبيبته (علياء الدوري) والتى تبدو كأميرات الحواديت عبرت من العراق وطنها إلى الجنة الأبدية مباشرة فى استثناء نادر من قاعدة تحتم المرور بأرض الشمس المشرقة.
(سليم النجار) الذى أحترف نسج الحكايات “لأن الحقيقة لا تزال في مكان ما فى ذاكرته لم يبح بها لأحد بعد، وأن كل ما يرويه هو تلك الأسطورة التي أراد صنعها لذاته، لتستر خيباته العميقة”، حتى صار ابن كل أرض (لاجئ) كما يقدم نفسه “تبدو تلك الأرض التى أُجبرت لسبب ما على تركها خلفك دائمًا جميلة وبعيدة وعصية على الاستعادة، تصبح زمنًا مقدسًا، أو حلمًا رومانتيكيًا لا يمكن تعويضه أو تجاوزه فى ذاكرتك”.
على النقيض تأتى (نعم) التى لم ينل منها الحنين، بل وتخلت عن صورتها القديمة كتعبيرعن إندماجها مع مجتمعها الجديد “وتعتقد أنها حقيقية وحرة.. مخلصة لصورتها الجديدة كمواطنة لقارة حضارية مكتشفة، بل نستطيع أن نقول إنها بهيئتها ابتكرت وأسست ذوقًا لطبقة اجتماعية بدأت تتنامى مع الوقت”.
أما (نجوى) فأختارت الهرب، بالتخلص من كل ما قد يفنى ما بقى لها من عمر.. فتوقفت عن الترقب والانتظار، ربما ساعدها النهاية المتفق عليها.. النهاية الموحدة والتى لا بديل عنها لكل الفارين “قررت أن ترحل فحملوها وتركوها خلفهم فى تلك المقابر الموحشة لترتاح أخيرًا بجانب من تحب ومن لا تحب”، تمامًا كما (ميمي دونج) الشابة الأفريقية الفاتنة والتى أمتهنت التبرع ببويضاتها، مطمئنة إلى أن البشر يتركون أطفالهم خلفهم بشكل من الأشكال، (ميمي) التى لم يعر أحد اهتمام لاختفاءها ومن بعدها العثور على جثتها إلى جوار عدد من جثث كلاب البحر النافقة فوق رمال الخليج.