سعد القرش
الطريق إلى اعتصام المثقفين، وإلى 30 يونيو 2013، مفروش بالنيات الحسنة. تلك أيامٌ أكثر براءة من ثورة 25 يناير. وليس ذنب المشاركين أنهم لا يتمتعون بدهاء معاوية، خاطف الرسالة حتى قد تبدو للمستشرق كأنها خطة أموية، لتمكين ابن أبي سفيان، والانتقام من آل البيت وشيطنتهم. كانت دولة قريش العميقة قد نهضت من الظل، ولم تتورع عن قتل أحفاد صاحب الرسالة. قتل بطعم الثأر، فيعبث يزيد بن معاوية برأس الإمام الحسين عليه السلام، وينكث بقضيب خيزران ثناياه، ويقول: «يوم بيوم بدر».
شهد شهر أبريل 2013 لقاءات تشاورية في المجلس الأعلى للثقافة. اللقاء الأخير انتهى بالاتفاق على اجتماع الساعة 11 ظهر الأربعاء 5 يونيو. مشروع اجتماع 5 يونيو هو الوحيد الذي أُعلن أن له جدول أعمال، عنوانه: «خطة عمل عاجلة لإنقاذ الثقافة المصرية». فجر ذلك اليوم اتصل بي السيناريست سيد فؤاد، للتأكيد على ضرورة حضوري، لأهمية جدول الأعمال. وقبل الساعة 11 بدقائق كلمني، وأنا في الدقي، وقلت: «بيني وبين المجلس دقائق». فقال: «صباح الخير، تعال الوزارة». سألته بانفعال: «حصل؟». وعلى بوابة الوزارة قابلني بهاء طاهر خارجا يبتسم، مستندا إلى ذراع حنان مطاوع. كان الموجودون في مبنى الوزارة حوالي خمسة وعشرين. تبينت عددهم حين راجعت التوقيعات على البيان الأول.
أعلنا بدء اعتصام، وجمعتنا غرفة اجتماع الوزير. أعطاني الفنان محمد عبلة مشروع بيان وطلب رأيي، ولم أعلق. قال إن الكتابة ليست مهنته، وأضاف: «اكتب أنت». حاولت الإيجاز قدر المستطاع، متجاوزا الانفعال الشخصي، وضغط الوقت وهتافات وشتائم تهبط علينا من الأبواب والنوافذ، تصبّها حناجر رافضي الاعتصام، ومكبر صوت محمول فوق منصة أقيمت على عجل. وكتبتُ:
«يعلن المثقفون والأدباء والفنانون المعتصمون بمكتب وزير الثقافة رفضهم للوزير الذي فرضته الفاشية الدينية الحاكمة، والذي بدأ فعلا في خطة تجريف الثقافة الوطنية، ويؤكدون أنهم لن يقبلوا بوجود وزير لا يلبي طموح المثقفين وتطلعاتهم للرقي بالثقافة اللائقة بالثورة العظيمة التي بدأت موجتها الأولى يوم 25 يناير 2011، حتى تحقق أهدافها وفي مقدمتها بناء الدولة الوطنية.
ويعلن المعتصمون استمرارهم في الاعتصام حتى يتولى زمام أمر الثقافة من يتعهد ويؤمن بالحفاظ على قيم التنوع والمواطنة والثراء الذي كان سمة للثقافة المصرية على مر العصور.
الساعة 11 صباح الأربعاء 5 يونيو 2013».
استحسنوا البيان. وكان جلال الشرقاوي قد توقف، في النسخة الأولى للبيان، أمام عبارة «وقد أعلن (الوزير) البدء في تجريف الثقافة الوطنية»، قائلا: «أعلن ايه؟ هو بدأ فعلا، لازم تغيرها»، فاستبدلتُ بها الصيغة التي وردت في البيان. وقعتُ اسم بهاء طاهر، وتلاه حسب ترتيب الجلوس توقيع الحضور: أحمد شيحا، خالد يوسف، سيد حجاب، سعد القرش، سيد فؤاد، محمد عبلة، محمد العدل، أحمد نوار، محمد عبد الخالق، جلال الشرقاوي، محمد هاشم، محمود قابيل، حامد محمد سعيد، سهير المرشدي، منال محيي الدين، صنع الله إبراهيم، حنان مطاوع، سامح الصريطي، هالة خليل، مها عفت، عصام السيد، ناصر عبد المنعم، أحمد ماهر، محمد فاضل (وقع أيضا اسم فردوس عبد الحميد قبل وصولها). طلبت إلى الصريطي أن يكتب اسمه، بدلا من الفورمة.
وصل الشاعر أسامة عفيفي (والتقط هذه الصورة المصاحبة للمقال، ولعلها الصورة الوحيدة لبدء الاعتصام قبل قراءة البيان)، ثم جاء يوسف القعيد، وخالد صالح، وأحمد عبد العزيز، ورشا عبد المنعم، وفتحية العسال، وسكينة فؤاد، وخليل مرسي، وهاني مهنى. وبدأت وقائع الاعتصام، وفي أقل من دقيقة، قرأت سهير المرشدي البيان. هو البيان الوحيد الذي ظل مكتوبا بخط يدي، فلم يكن لدينا وقت ولا رفاهية كتابته على الكمبيوتر، رغم كرم موظفي الوزارة خصوصا الذين فصلهم الوزير علاء عبد العزيز.
كان الوزير قد أنهى ندب كل من الدكتورة إيناس عبد الدايم من رئاسة دار الأوبرا، والدكتور أحمد مجاهد من رئاسة الهيئة العامة للكتاب. وعقب بدء الاجتماع مباشرة، جمعت توقيعات أخرى خارج البوابة. وطُرح سؤال: هل وجود الذين أنهى الوزير ندبهم يُضعف الاعتصام؟ اتفقنا على أن وجودهم يجعل الأمر كأنه شخصي، ويقلل من الثقل الرمزي للاعتصام. ثم جاءت إيناس عبد الدايم، وتفهمت هذا التحفظ بذكاء، وخرجت.
لم يكن الاعتصام سلوكا معصوما ولا مقدسا. رفضه البعض من مؤيدي 25 يناير غير الموافقين على سياسة الوزير الإخواني. قال لي الناقد السينمائي سمير فريد إنه يرفض فكرة احتلال المباني. نفيت وجود احتلال. الاحتلال يقترن بالقوة، أما الاعتصام فيؤيده موظفو الوزارة أنفسهم، وهم يقومون بحماية المعتصمين.
وما لبث الاعتصمام أن تحول إلى حضان طروادة، والتحقت به وجوه نظام مبارك، وبعضهم كان معاديا للثورة. فقدت حماستي للحضور في الأيام التالية، وأبديت استنكاري، وناقشتُ كثيرين، فقالوا: «وايه يعني؟». كتبت في صفحتي على الفيسبوك أنني حزين، وفي فمي ماء، وأن المعارك النبيلة لا بدّ أن تخاض بوسائل من النوع نفسه، فجاءتني النصائح: «في ما بعد، مش وقته». ثم اُخترعت أساطير وبطولات بعضها ينسب إلى رجال فاروق حسني. وفي مساء اليوم التالي لخلع محمد مرسي ستقول لي سيدة بفخر، في مقهى ريش، إنها من الذين «اقتحموا الوزارة». ولم أرها في اليوم الأول، وربما الثاني. ابتسمتُ، وهي ظنت أنني أستحسن الكلام. كنا في مقام يجمع متناقضين.. البيرة والجاتوه.
بعد قراءة البيان الأول خرجنا وهتفنا: «تحيا مصر»، والحشود في الشارع تزداد عددا، وهتافات الداخل والشارع تتجاوب، وتعلو على سباب الشتامين. لولا احتشاد الشباب أمام البوابة، وتشكيلهم دروعا، ما نجح الاعتصام وهو يدخل لحظات اختباره الأولى. وسهرنا حتى الصباح، وبهدوء مضت الليلة الأولى. منذ كم سنة لم أشهد الشروق في القاهرة. وكنا نطل على النيل والشجر والشمس تستأذن، وسألني أحمد طه النقر: «فيه أجمل من كده؟».
توالت الاجتماعات. حرائق من كلام يعاد إنتاجه بألسنة آخرين، يحضرون للمرة الأولى، ويناقشون ما نوقش أمس. وفي الأيام التالية تغيرت الوجوه، وصار الشارع أجمل في المساء وسط الأهالي، بعيدا عن أضواء تصاحب استعراض من يريد توثيق اسمه وصورته في سجل الاعتصام. كان الشارع اختبارا لمن يفضلون الظل، ويستأنسون بزحام لا يعرفون فيه أحدا، ولا يعرفهم أحد، ولا يتباهون بأنهم «اقتحموا».
كشف الاعتصام عورة مثقفين يجيدون ركوب الموجات، من الثورة إلى الاعتصام. لم أعد أدخل، وأغناني الشارع الذي حقق للفنانين التشكيليين والموسيقيين وراقصي الباليه والمطربين ما حلموا به، هدم الحائط الرابع الفاصل بين الجمهور وفنانين معتصمين مسالمين، لا يملكون إلا مواهب يعرضونها ليلا أمام الوزارة. للمرة الأولى عرض باليه «زوربا» في الشارع، أعادت تقديمه فرقة باليه أوبرا القاهرة. في الشارع كان الفنان في قلب المشهد، تحت الشمس، يقتسم الحلم والأغنية والأسفلت مع جمهور يصفق ويشارك ويرى الإبداع لحظة ولادته، وفي تجلياته المتجددة حين يعاد إنتاجه في سياق تفاعلي.
في صخب الاعتصام، لا انتباه إلى عقل يخطط، ويستعد للانقضاض والإزاحة. لا تفكير في الخطوة التالية. وفي قضية المصائر التراجيدية يسهل الانتقال من غزوة بدر، إلى فتح مكة. دخل أبو سفيان وزوجته آكلة كبد حمزة وابنهما معاوية دينا لم يتوقفوا عن حربه. استعان معاوية بدهاء عمرو. ومن العبث التاريخي تكفير أحفاد النبي، وأسر الطالبيين وقتلهم. النبلاء طيبيون، والدهاة يمثلون بجثة الحقيقة.
………………………………..
(“الأهرام” 23 / 6 / 2023)