ثمة طبقات عديدة هنا في بنية الحكاية، التي قد تذكرنا إلى حدٍ ما بفكرة العلبة الروسية التي تحدّث عنها ماريو بارجاس يوسا في كتابه: رسائل إلى روائي شاب… نحن نبدأ من فتاة بسيطة لها أب متزمت دينياً يفرض عليها وشقيقتها حياة أقرب إلى السجن، لكن حتى في إطار هذا السجن توجد فرص لنوافذ يمكن من خلالها معانقة أبعاد أخرى للعالم، وهنا يظهر جهاز الكمبيوتر والانترنت، ومتابعة هذه الفتاة على مدى أيام لمدونة شاب سوري يقيم في مصر للدراسة، حيث ينشر حلقات حكايته مع جاره الشاب المعاق، والرقصة التي جمعتهما معاً. رقصة النقص والشغف، ما يحيل إلى العنوان الجانبي لروايتنا هذه بالمناسبة: من سيرة النقص والشغف (ولو أن الشغف والنقص كانت لتصبح أسهل على الأذن من وجهة نظر أُذني)…. النقص من جانب الضحية، ذي العاهة، الجار المصري، موضع الدراسة علاء السيرجاني، الذي يشبه حيوان ابن آوى وقد تخيلته قريباً لوجه كافكا بوجهه المثلث وعينيه الكبيرتين وأذنيه البارزتين. وفي المقابل هناك الشغف، من جانب اللاعب، شامي، الذي اعتاد من صباه جمع العينات الإنسانية واللعب بها ومعها. مع تتابع الأحداث لا يفوت أحمد مجدي همّام أن يبادل المواقع في هذه الرقصة الثنائية، فالنقص والعاهة ليست شيئاً قاصراً على علاء الذي يعاني صعوبات كبيرة في النطق، بل ثمة عاهة أخرى لدى صاحبنا الشامي، تتمثل ربما في الرغبة في التلصص على حيوات الآخرين واقتحامها والتدخل في مساراتها. يتحوّل الشغف لديه إلى نقصٍ آخر يسعى لإشباع ذاته بامتصاص دماء الآخرين. إنه الروائي في أبسط وأنقى حالاته: صياد أرواح. ومن ناحيته يتكشف علاء السرجاني، صاحب العاهة الجبّار، عن وجهٍ آخر قرب النهاية، وجه لعلّه هو من كان يستخدم صاحبنا الشامي ويتغاضى عن تلصصه عليه، لكي يستعين به في كسر شرنقته ويتعكز عليه في عملية اقتحام العالم الخارجي الذي يصل به حدّ السفر إلى سورية والإقامة هناك وحده لأسبوع والتقاء فتاة عراقية كان قد تعرّف بها على الانترنت، واصطادها باللغة الأدبية الجميلة، وهي مفارقة أخرى طريفة بالنسبة لشخص لا يمكنه التحدث بطلاقة.
من العسير تلخيص أحداث أية رواية جيدة دو ن اختزالات مخلة أو اجتزاءات خطيرة. اللعبة السردية في أوجاع ابن آوى متعددة الطبقات، فالفتاة بسيطة الحال التي تتابع حلقات مدونة العاهات، لا يقتصر دورها على القراءة والاندهاش، بل تدخل بحياتها وأحلامها وأسرارها إلى اللعبة، حيث تجد – بمساعدة شقيقتها – توازايات بين حياتها وحياة علاء السرجاني، وتتعاطف معه وتحلم بالارتباط به، بل وتجد تقاطعات حقيقية بينها وبين حياة علاء حين تلجأ أمه إلى شيخ في أبو أتاتا لعلاجه من حالته، هذا الشيخ هو والدها نفسه. حتى الصفحات القليلة في النهاية نبقى معلقين بين احتمالات عديدة، منها أن تتعرف هذه الفتاة بعلاء السرجاني وتتزوجه مثلاً، وتكون مدونة شامي هي همزة الوصل التي جمعت بينهما. لكن النهاية تكون أبسط وأقل غرابةً من ذلك بكثير، فعفاف تتزوج زواجاً تقليديا ومتوقعا للغاية. بعد أن يكون علاء السرجاني قد طرد شامي خارج حياته شرد طردة.
يرسم مجدي همام شخصياته بضربات فرشاة محكمة وواضحة، حتى الشخصيات الثانوية، مثل أميمة شقيقة عفاف، لها حضورها وتميزها. كما أنه يتحرك على بساط الحكي بحرية جغرافية هائلة وممتدة، فشخصياته تتجوّل بين المحافظات والدول والقارات بحرية ومعرفة دون افتعال أو استهانة بالتفاصيل. تخوّفت في الجزء الخاص بيوميات علاء السرجاني في سوريا أن يؤكد السرد على الجانب السياحي والتفاصيل المباشرة للرحلة ووصف الأماكن وخلافه، لكن بوضع المواقف المناسبة في المواضع المناسبة من السرد تخلّص هذا الجزء من طابعه السياحي تماماً. في بداية العمل أخذتنا مدونة شامي إلى خلفية تاريخية لعائلة مدام جيهان، والدة علاء، منذ الحقبة الملكية، ولم أجد أي ضرورة لهذا الجزء الذي طال وكثرت شخصياته وتشابكت خطوطه دون داعٍ. بما أن بؤرة السرد هو علاء صاحب العاهة، ومراقبه شامي الشغوف باصطياد الأرواح، فإن تلك الخلفية لم تلعب دوراً فعّالاً أكثر من كونها خلفية للوحة يمكن الاستغناء عنها ببساطة. من ناحية أخرفرضت على النص بعض المصادفات المستبعدة للغاية، مثل سفر شهباء – فتاة الانترنت – إلى سوريا في نفس توقيت زواج شقيقة شامي وسفر علاء معه إلى هناك. الحياة بالطبع مليئة بمصادفات شبيهة، ولكن مرور السرد عليها دون وقفة دهشة وكأنها أمر وارد الحدوث هو ما جعلها ناتئة قليلاً.
في نهاية المطاف هذه رواية ممتعة، مكتوبة بقلم قادر ووعي سردي يقظ وطريف. تلعب حكايتها ما بين العاهات الواضحة على كلٍ منا بطريقة أو بأخرى، وبين تلك العاهات الأخرى الأسوأ كثيراً، وهي التي يمكن سترها، بل وتحويلها عن طبيعتها لتصير أزياء تنكرية، لتتخذ مثلاً صيغة شغف نهم لا يهدأ ولا يشبع، شغف شيطاني بامتلاك أرواح الآخرين بين صفحاتنا، شغف لا يبتعد كثيراً عن هوس الروائي الذي سيقتات على نفسه إن لم يجد ما يقتات عليه.