أهداني حبًّا.. حين تشتعل السياسة في قلب الرومانسية

أهداتي حبا
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عاطف محمد عبد المجيد

“السعادة أن تكون بجوار من تحب، تتنفس الهواء نفسه، وتشرق عليك الشمس نفسها، على الأرض نفسها التي ولدنا عليها ونموت فيها..رغم كل الظروف الصعبة التي يمر بها الوطن من محن إلا أنني لا أطيق الابتعاد عنه، ولا العمل خارج حدوده..ربما تصفني بالجنون والخيبة، ولكن هذا عشق قديم فتحت عليه عيوني، وتربى عليه وجداني، ولا أستطيع تنفس هواء غير هواء بلادي”. 

المقطع السابق من رواية “أهداني حبًّا” للكاتبة زينب عفيفي، والتي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة في مائة وست وستين صفحة.يبدو لمن يقرأ عنوان الرواية ” أهداني حبًّا ” أنه أمام رواية رومانسية يتربع الحب ملكًا على عرشها، لكن الحقيقة هي أننا أمام رواية تأتي السياسة والقضايا المجتمعية على متنها، فيما يطل الحب على هامشها، أو هكذا أرى، مما يجعلني أقول إن عفيفي قد نجحت وبامتياز في أن تخدع قارئها الذي سيقتني روايتها، آملا أن يعيش معها حالة رومانسية، بينما يكتشف بعد أن يصل إلى نقطتها الأخيرة أنه قرأ رواية سيطرت عليها السياسة: ” الحياة ليست سياسة طوال الوقت يا أحمد..هناك احتياجات نفسية واجتماعية، يعيش فيها الإنسان، ولكن أقدارنا اليومية دون أن ندري تُلقي بنا في قلب السياسة، وكأننا في حالة حمل دائم دون ولادة “.هنا نجد أنفسنا أمام ليلى بطلة الرواية وهي أيضًا الصوت الراوي في رواية عبارة عن رسالة تكتبها ليلى وتبوح بما في نفسها فيها لحبيبها أحمد خالد الذي لم تستطع أن تأخذ منه سوى ذكرى حب من جانب واحد، وستظل تعيش عليها بقية عمرها.

ثلاثة رجال

تعيش ليلى حياة التمزق والتشظي متأرجحةً بين ثلاثة رجال: أحمد خالد الذي أحبته حبًّا شديدًا ثم اختفى بشكل غريب ومات فجأة ولا أحد يدري ملابسات موته، ثم سليم ابن عمها الصعيدي والذي كان في حكم خطيبها، والذي مات أيضًا فجأة، وعمر عبد التواب الذي التقته في باريس، وكان يحبها منذ أيام الجامعة، ولم تكن تعلم بحبه لها: ” أعيش حالة تُحسد عليها أي امرأة: ثلاثة رجال في قلبي ولا أحد منكم له وجود حقيقي في حياتي، يا لي من امرأة تعيسة تصنع الوهم بمهارة ثم تكتشف أنها وحيدة “.إننا هنا في حضرة أنثى تشعر بخيبات شتى، مُرددةً لنفسها طوال الوقت أنْ ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، مستعيضةً بما يُسعد الروح عن الماديات والتواصل الجسدي الذي لم يتأتَ لها أن يتم مع من أحبت.في ” أهداني حبًّا ” تطرح زينب عفيفي عدة قضايا جوهرية، منها قضية قمع الحريات والتسلط والديكتاتورية التي تمارسها بعض الأنظمة: “لا أحد يستطيع أن يأخذك فجأة، ويزج بك في سجن موحش مظلم هكذا، إلا من كان له عقل مغلق وفكر متحجر، وفهم منغلق على أطماع ورغبات خفية..كانوا يرون في حشرات الفراش وصراصير الليل وفئران الجحور مأوى لتكميم الأفواه”.

إرهاب فكري

الرواية لا ترى كذلك أية جدوى من ترديد الشعارات الجوفاء التي ليس لها أي مردود على أرض الواقع: “شعاراتكم براقة ولكنها في حقيقتها جوفاء، ماذا تعني مطالباتكم بالحق في حياة كريمة، وملايين البشر يعيشون تحت خط الفقر”. 

الرواية ترصد كذلك حالة التغيير التي اكتست بها بعض الدول العربية التي اجتاحتها ثورات الربيع العربي.لقد اختلفت الحياة في هذه الدول بعد الثورات بالفعل: ” ما حدث منذ يناير 2011 في المنطقة كلها من تغيير شامل في الحياة وشعور الناس بأن أحلامهم على وشك التحقق، وأنهم سوف ينعمون بوضع أفضل، ثم يصطدمون بكل هذه الفوضى، وغياب الأمن والاستقرار أخافني وجعلني أرى أن الاستقرار سوف يحتاج إلى وقت طويل “.لقد توقع كثيرون تحقق مزيد من الديمقراطية والحريات، والارتقاء بالإنسان وتحسين معيشته، غير أن ما حدث كان شيئًا أخر: “لم يتغير شيء على الأرض، مات من مات، وأصيب من أصيب…وما زالت الشرطة على نهجها.لقد خلّفت الثورة ضحايا وأبرياء ومجرمين”. 

 الرواية تضع يدها كذلك على الفجوة القائمة ما بين المسئولين الذين بيدهم مقاليد الأمور وبين البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة.كل ما يستطيع المسئولون فعله هو أن يُعبّئوا البسطاء، المطالبين بحقهم في الحياة، كدجاج مُقيّدي الأيدي في سيارات سوداء مغلقة النوافذ ولا يدري أحد أين يذهبون ولا متى يعودون”.

أيضًا تناقش الرواية قضية الإرهاب ولجوء بعض الجماعات الدينية إلى العنف الدموي والإرهاب الفكري، تلك الجماعات التي يطيع أفرادُها أميرهم طاعة عمياء، ولا يقبلون المناقشة أو التفكير المخالف.مثلما تسلط الرواية الضوء على هموم ومشكلات الأنثى في صعيد مصر من عدم مراعاة خصوصيتها، وإجبارها على أن تعيش حياة بعينها.كما تُبرز المساحة الشاسعة التي تفصل ما بين الحلم والواقع: الحُلم يرى سهولةَ تَحَقُّق أي شيء، فيما يؤكد الواقع، وبكل غلظة، أن له قوانينه الخاصة وتضاريسه التي تختلف تمامًا عن تضاريس الحلم.أيضًا تطرح الرواية قضية هجرة المصريين إلى الخارج نتيجة لسوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، بحثًا عن مناخ مناسب تدعمه الحرية والمساواة: ” لكن الأوضاع اختلفت في مصر، وصار العيش بها فيه كثير من المعاناة والضغوط اليومية..لكن لو كل واحد منا ترك بلده، لأن الأمور صارت صعبة، لأصبح البلد خاويًا”.                                        

ما بعد الثورات

في الرواية نجد حلمًا بالمدينة الفاضلة التي تختلف عن بقية المدن في مظهرها العمراني ومستواها الحضاري والسكاني والأداء الخدمي الحكومي والخاص..مدينة يُبنى أساسها على الإنسان نفسه، سواء أكان مسئولًا كبيرًا أم موظفًا عاديًّا.كما ترصد ظاهرة الفساد الذي استشرى في المجتمع بصوره المختلفة من رشوة وتوريث وترك كبار المخطئين طلقاء، رغم ما يرتكبونه من كوارث تضر بالمجتمع كله، والزج بالصغار في السجون مهما كان الجرم الذي ارتكبوه ضئيلا.يحدث هذا دون أن يستطيع أحد أن يقف ضد ممارسات الفاسدين الذين تسلحوا بالثروة والسلطة.هنا نجد كذلك مقارنة بين واقعين أحدهما نحياه فعليًّا وأخر نتوق إلى الوصول إليه والعيش فيه، أحدهما يمثل حياتنا هنا في هذا العالم النامي، والأخر يمثل التقدم العلمي والتكنولوجيا والفكر المتفتح والآفاق الرحبة والنظام الدقيق والجمال بكل لمساته.أيضًا ترى الرواية أن الإنسان مهما سافر وابتعد ووطأت قدماه بلدانًا أخرى دستورها الروعة والانضباط والمساواة والانفتاح، إلا أنه لن يستغني عن وطنه الذي ولد وعاش فيه سنوات وسنوات: ” لم يعد لي في مصر غير الذكريات الحزينة، ولكن حب بلدي سيظل في قلبي، ومهما تغربنا وسعدنا وعشنا في رغد العيش يظل الوطن وطنًا..لكن حين تضيق بنا الحياة لا نستطيع البقاء في حالة اختناق “. 

غير أن الرواية التي تعاني بطلتها من الخيبة وضياع الحلم في الاقتران بحبيب مات قبل الأوان، تدعونا لمواجهة العالم الخارجي، إذ بحجم قدرتنا على مواجهته يكون تخفيف الإحباط والإخفاق داخلنا.” أهداني حبًّا ” التي ترى أن ذكرياتنا هي حياتنا، وإن رفضنا الاعتراف بذلك تؤكد وجود الأمل في استمرار الحياة رغم ما فيها من منغصات، حتى وإن كان هذا وهمًا، فالأوهام لها جمالها البراق كنجوم السماء التي تطل علينا في الظلام، وتخبرنا سرًّا أن الأمل موجود، حتى ولو كان مجرد نجم بعيد في السماء.وبعد الإشارة إلى طزاجة السرد وحيوية المشهد الحواري الداخلي والخارجي، أرى أننا إزاء رواية تتحرك على دعامتين أساسيتين وهما الفكرة السياسية والمفردة الرومانسية واللتين خلقتا لنا معًا عالم رواية ترصد حال المجتمع العربي في عصر ما بعد الثورات.

 

مقالات من نفس القسم