أن تخلق قانوناً صارماً للتعاطف

أن تخلق قانوناً صارماً للتعاطف
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لا يرجع اختياري لقصة (وفاة موظف) لـ (أنطون تشيخوف) إلى ما تتمتع به من شهرة طاغية في تاريخ القصة القصيرة عامةً، وفي تاريخ (تشيخوف) بشكل خاص ـ رغم أنه من الطبيعي عدم إهمال قصة تمتلك هذه المكانة البارزة عند تفحّص ذاكرة القصة القصيرة .. طموحي هنا يتجاوز الوقوف عند حد التذكير بالدوافع التي ساهمت في حصول (وفاة موظف) على هذا الخلود إلى الكشف عن المكوّن الكاريكاتوري الخاص بي، المضاد للحالة الكاريكاتورية المعروفة لهذه القصة.

لا يرجع اختياري لقصة (وفاة موظف) لـ (أنطون تشيخوف) إلى ما تتمتع به من شهرة طاغية في تاريخ القصة القصيرة عامةً، وفي تاريخ (تشيخوف) بشكل خاص ـ رغم أنه من الطبيعي عدم إهمال قصة تمتلك هذه المكانة البارزة عند تفحّص ذاكرة القصة القصيرة .. طموحي هنا يتجاوز الوقوف عند حد التذكير بالدوافع التي ساهمت في حصول (وفاة موظف) على هذا الخلود إلى الكشف عن المكوّن الكاريكاتوري الخاص بي، المضاد للحالة الكاريكاتورية المعروفة لهذه القصة.

كانت (وفاة موظف) من ضمن القراءات المبكرة جداً التي بدأت من خلالها التعرّف على البصمات القصصية للآخرين، ولم يخطو تأثيرها حينئذ خارج المساحة الدلالية التقليدية التي جعلت منها درساً حتمياً في العبودية .. لكن قراءتها الآن تقطع بحسم أي خيط محتمل للتعاطف بيني وبين (تشرفياكوف) بل على العكس تجذبني نحو نوع من الانحياز لـ (بريزجالوف) .. بعد سنوات طويلة من القراءة الأولى لم يتبق عندي من صورة الموظف أكثر من المبالغة التي رآها (تشيخوف) جديرة بعصره، بينما تحوّلت الشفقة القديمة إلى الجهة المناقضة ـ حيث لا ينبغي أن يحدث ذلك وفقاً للمعنى السائد ـ أي إلى الجنرال .. ما هو المبرر الذي يقف وراء اكتشاف منطق غير عدائي في ردود الأفعال المتطورة عند (بريزجالوف) تجاه ما أصبح سلوكاً سخيفاً ومهيناً لـ (تشرفياكوف)؟ .. هل هو الفهم المختلف لما يُسمى بـ (العبودية)؟ أم الفكرة المغايرة عن الدعابة الكاريكاتورية؟ .. إن القاريء لا يحتاج لجرعة زائدة من التروّي المحايد حتى يتساءل ما الذي كان يمكن أن يفعله الجنرال أكثر من هذا كي يثبت للموظف عدم الاستياء من عطسته؟، وما الذي كان ينقص الموظف حتى يقتنع بذلك؟ .. هذا الاتجاه من التساؤل لم يكن غائباً عن (تشيخوف)، كما لم يكن غائباً عنه أيضاً أن المبالغة تفسدها حتماً مثل هذه الأسئلة .. المغالاة غير المعقولة التي تحاول أن تخلق قانوناً صارماً للتعاطف .. في أفضل الأحوال ربما لم يكن يرغب في أن يُتخذ موقف سلبي من الجنرال، ولكنني لا أتصور أن رهانه الأساسي في القصة كان مركزاً على الدفاع عن مسالمته أمام سماجة الموظف .. قد يكون الدليل على ذلك مثلاً ما كتبه (ضياء نافع) في موقع (كتابات):

(ان اساس هذه القصة يكمن في نكتة كانت تتردد في اوساط المسرحيين الروس آنذاك , وهي ان احدهم اراد ان يسخر من رجل متنفٌذ كان موجودا في احد المسارح  فوطأ على قدمه وكأنما حدث هذا بشكل عفوي, واعتذر منه, واستمر بزيارته والاعتذار منه يوميا, وفي نهاية المطاف غضب هذا الرجل وفهم ان هذا العمل كان متعمدا للسخرية منه وطرد الفاعل شرٌ طردة. وهناك حادث آخر سمعه تشيخوف عندما كان في مدينته تاغنروغ ( حيث ولد وانهى المدرسة ثم انتقل للدراسة في جامعة موسكو), وخلاصة هذا الحادث هو انتحار موظف عندما احالوه الى المحكمة بتهمة ( خرق الانضباط) , اي الاساءة الى موظف اعلى منه , وقد حاول ذلك الموظف ان يعتذر – ولعدة مرات – ولكن دون جدوى, وهكذا وجدوه وقد شنق نفسه منتحرا).

في هاتين الحادثتين ـ بافتراض صحة هذا الأساس ـ لا وجود للغرابة .. تعمّد السخرية في الحادثة الأولى، والانتحار في الحادثة الثانية .. لكن الغرابة تكمن في مواصلة الاعتذار دون رغبة في التهكم بل بإيمان حقيقي بالذنب، وبالطبع تكمن كذلك في أن تموت نتيجة لهذا دون أن تُنهي حياتك بنفسك .. هذا هو المشهد الكاريكاتوري الذي شيّده (تشيخوف)، وإذا كانت غرابته لا تتمنى بالفعل الإجابة على الاستفهامات الرصينة ـ وهذا حقها بالتأكيد ـ فبالضرورة لن يكون بوسعها في المقابل أن تحرم التعاطف داخل القصة من تبديل مساره مع مرور الزمن.

هناك ما لا يجب أن نغفله في (وفاة موظف) .. كأنها رسالة تتجاوز التاريخ والدعابة والشفقة، وتهدم في نفس الوقت الأسوار المحتملة حول تعريف العبودية .. (تشيخوف) يريد أن يبقى موت (تشرفياكوف) أمام عيوننا دائماً .. ليس لأنه انتحر أو فقد حياته فوق كنبة، بل للتذكير بكافة النهايات المذلة المشابهة، التي تتم في الخفاء داخل كل منا، ونحن لانزال على قيد الحياة.

وفاة موظف

أنطون تشيخوف

ذات مساء رائع كان إيفان ديمتريفيتش تشرفياكوف، الموظف الذي لا يقل روعة، جالسا في الصف الثاني من مقاعد الصالة ، يتطلع في المنظار إلى ” أجراس كورنيفيل” . وراح يتطلع وهو يشعر بنفسه في قمة المتعة . وفجأة … وكثيرا ما تقابلنا “وفجأة” هذه في القصص .والكتاب على حق، فما أحفل الحياة بالمفاجآت ! فجأة تقلص وجهه ، وزاغ بصره ، واحتبست أنفاسه .. وحول عينيه عن المنظار وانحنى و … أتش !!! عطس كما ترون . والعطس ليس محظورا على أحد في أي مكان . إذ يعطس الفلاحون ورجال الشرطة ، بل وحتى أحيانا المستشارون السريون . الجميع يعطس ، ولم يشعر تشرفياكوف بأي حرج ، ومسح أنفه بمنديله ، وكشخص مهذب نظر حوله ليرى ما إذا كان قد أزعج أحدا بعطسه . وعلى الفور أحس بالحرج . فقد رأى العجوز الجالس أمامه في الصف الأول يمسح صلعته ورقبته بقفازه بعناية ويدمدم بشيء ما . وعرف تشرفياكوف في شخص العجوز الجنرال بريزجالوف الذي يعمل في مصلحة السكك الحديدية . وقال تشرفياكوف لنفسه : ” لقد بللته

إنه ليس رئيسي بل غريب ، ومع ذلك فشيء محرج . ينبغي أن أعتذر “. وتنحنح تشرفياكوف ومال بجسده إلى الأمام وهمس في أذن الجنرال : – عفوا يا صاحب السعادة ، لقد بللتكم .. لم أقصد . – لا شيء ، لا شيء . – أستحلفكم بالله العفو . إنني .. لم أكن أريد ! – أوه ، اسكت من فضلك ! دعني أصغي ! وأحرج تشرفياكوف فابتسم ببلاهة وراح ينظر إلى المسرح ، كان ينظر ولكنه لم يعد يحس بالمتعة . لقد بدأ القلق يعذبه . وأثناء الاستراحة اقترب من يريزجالوف وتمشى قليلا بجواره ، وبعد أن تغلب على وجله دمدم : – لقد بللتكم يا صاحب السعادة .. اعذروني .. إنني لم أكن أقصد أن … فقال الجنرال : – أوه كفاك ! أنا قد نسيت وأنت ما زلت تتحدث عن نفس الأمر !.. وحرك شفته السفلى بنفاد صبر . وقال تشرفياكوف لنفسه وهو يتطلع إلى الجنرال بشك : ” يقول نسيت بينما الخبث يطل من عينيه . ولا يريد أن يتحدث . ينبغي أن أوضح له أنني لم أكن أرغب على الإطلاق .. وأن هذا قانون الطبيعة ، وإلا ظن أنني أردت أن أبصق عليه .. فإذا لم يظن الآن فسيظن فيما بعد ! …” . وعندما عاد تشرفياكوف إلى المنزل روى لزوجته ما بدر عنه من سوء تصرف . وخيل إليه أن زوجته نظرت إلى الأمر باستخفاف فقد جزعت فقط ، ولكنها اطمأنت عندما علمت أن بريزجالوف ” غريب ” . وقالت : – ومع ذلك اذهب إليه واعتذر وإلا ظن أنك لا تعرف كيف تتصرف في المجتمعات . – تلك هي المسألة ! لقد اعتذرت له، لكنه … كان غريبا .. لم يقل كلمة مفهومة واحدة ، ثم إنه لم يكن هناك متسع للحديث وفي اليوم التالي ارتدى تشرفياكوف حلة جديدة ، وقص شعره وذهب إلى بريزجالوف لتوضيح الأمر .. وعندما دخل غرفة استقبال الجنرال رأى هناك كثيرا من الزوار ورأى بينهم الجنرال نفسه الذي بدأ يستقبل الزوار . وبعد أن سأل عدة أشخاص رفع عينيه إلى تشرفياكو . فراح الموظف يشرح له : – بالأمس في ” أركاديا ” لو تذكرون يا صاحب السعادة عسطت و .. بللتكم عن غير قصد .. اعذر .. – يا للتفاهات .. الله يعلم ما هذا ! – وتوجه الجنرال إلى الزائر التالي – ماذا تريدون ؟ وفكر تشرفياكوف ووجهه يشحب: ” لا يريد أن يتحدث أذن فهو غاضب .. كلا لا يمكن أن أدع الأمر هكذا … سوف أشرح له …” وبعد أن انتهى الجنرال حديثه مع آخر زائر واتجه إلى الغرفة الداخلية ، خطا تشرفياكوف خلفه ودمدم : – يا صاحب السعادة ! إذا كنت أتجاسر على إزعاج سعادتكم فإنما من واقع الإحساس بالندم ! . لم أكن أقصد، كما تعلمون سعادتكم ! . – فقال الجنرال وهو يختفي خلف الباب : – إنك تسخر يا سيدي الكريم ! وفكر تشرفياكوف : ” أية سخرية يمكن أن تكون ؟ ليس هنا أية سخرية على الإطلاق ! جنرال ومع ذلك لا يستطيع أن يفهم ! إذا كان الأمر كذلك فلن أعتذر بعد لهذا المتغطرس . ليذهب إلى الشيطان ! سأكتب له رسالة ولكن لن آتي إليه . أقسم لن آتي ! “. هكذا فكر تشرفياكوف وهو عائد إلى المنزل . ولكنه لم يكتب للجنرال رسالة . فقد فكر ولم يستطع أن يدبج الرسالة . واضطر في اليوم التالي إلى الذهاب بنفسه لشرح الأمر .. ودمدم عندما رفع إليه الجنرال عينين متسائلتين : – جئت بالأمس فأزعجتكم يا صاحب السعادة ، لا لكي أسخر منكم كما تفضلتم سعادتكم فقلتم . بل كنت أعتذر لأني عطست فبللتكم … ولكنه لم يدر بخاطري أبدا أن أسخر وهل أجسر على السخرية ؟ فلو رحنا نسخر فلن يكون هناك احترام للشخصيات إذن … – وفجأة زأر الجنرال وقد أربد وارتعد : – اخرج من هنا !! فسأل تشرفياكوف هامسا وهو يذوب رعبا : – ماذا ؟ فردد الجنرال ودق بقدمه : – اخرج من هنا !! – وتمزق شيء ما في بطن تشرفياكوف . وتراجع إلى الباب وهو لا يرى ولا يسمع شيئا . وخرج إلى الشارع وهو يجرجر ساقيه .. وعندما وصل آليا إلى المنزل استلقى على الكنبة دون أن يخلع حلته … ومات.. .

مقالات من نفس القسم

رؤية العمى
كلاسيكيات القصة القصيرة
ممدوح رزق

رؤية العمى