أنماط الإنسان الخمسة

أنماط الإنسان الخمسة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ولدت جيزيلا كرافت في برلين (1936) وعاشت في فيمر بألمانيا، لها العديد من الأعمال المميزة في الشعر والنثر، إلى جانب ترجماتها المميزة من التركية إلى الألمانية. حصلت في عام 2009 عن ترجمتها لمختارات من الشاعر التركي ناظم حكمت على جائزة كريشتوف مارتن فيلاند أوبْرِسْتْزَر وتوفيت سنة 2010..

ولعل اسم الشاعرة أي “جيزيلا” واهتمامها بالترجمة من التركية يشيران إلى أن لها هي نفسها أصولا تركية، يضاف إلى ذلك عنوان القصيدة التي نقدمها لها هنا، والذي يحتوي إشارة إلى قرية لاليلي التي  تقع في منطقة شرق الأناضول من تركيا.

نشرت القصيدة التالية في عدد مارس 2010 من مجلة POETRY الأمريكية بترجمة لورا ليتشيم.

***

بيت من خمسة طوابق في لاليلي

واحدٌ في خرقةٍ نائم في الطريق

ومعدتُه خاويةٌ

ويتمنى الموت

 

واحد جالس مع أصحابه يشرب الشاي ويلعب النرد

وعقله خاو

ويتمنى الموت

 

واحد جالس في مقعد، معتدلا قبالة مكتب

وحسابه المصرفي خاو

ويتمنى الموت

 

واحد مستلق في سريره محملقا في البحر

والسرير بجواره خاو

ويتمنى الموت

 

واحد يطير والطعام في منقاره

وعشه خاو

ووحده هذا الواحد يقول

فلنحاول مرة أخرى

***

حسن، عندنا بيت من خمسة طوابق. هكذا أرادت الشاعرة أن تجمع بين أنماط الخمسة الراغبين في الموت في نسق واحد، كأنها تعطينا مبررا لتلفتها، وذلك ما لا يفعله الطائر، لا أعني الطائر الذي تشير إليها في مقطع قصيدتها الأخير، بل الطائر الذي ترونه واقفا على الشباك، يتلفت إلى ما حوله مرات ومرات، بطريقة لنا أن نعتبرها دالة على الحذر والترقب، أو على الرغبة في تجديد ما تراه عيناه كل لحظة. لن نفهم على أية حال ما الذي يحس به طائر. ولن نتوقف مع ذلك عن تصور ما يحس به، وما يدفعه إلى مختلف أفعاله. لن نتوقف عن التكهن بتصورات الكائنات المحيطة بنا، ومن ثم كتابة القصائد التي لن تعرفنا شيئا عن هذه الكائنات بقدر ما تعرفنا أشياء عن أنفسنا.

نعم، ما يقال عن الطائر في نهاية القصيدة يكشف بطبيعة الحال عن الشاعرة أكثر مما يكشف عن الطائر نفسه. وهكذا كل الحيوانات في كليلة ودمنة، وكل الفئران والقطط في أفلام الرسوم المتحركة، وكل الديناصورات في أفلام ستيفن سبيلبرج، وكل الكائنات الفضائية أحادية العيون أو القرون أو الذيول في السينما الأمريكية.

***

أربعة أنماط بشرية كلها تتمنى الموت. ونستخدم كلمة “النمط” ونحن نعرف بما لها من سمعة سيئة. ونعرف أن الشاعرة قد لا ترتاح كثيرا حين تعرف أن ثمة من يرى أنها تنظر إلى الناس فتختزلهم من أجل كتابة قصيدة. ولكن هذا ما تفعله.

لدينا في القصيدة نمط المتشرد الجائع، نمط التافه الجالس يلعب النرد في مقهى، نمط المفلس المدين، نمط العاشق المهجور. الأربعة لأسباب مختلفة يتمنون الموت. وليس بينهم من هو في فطنة القاتل الأول والأشهر “قابيل” الذي تعلم من الطائر كيف يكمل جريمته، أو “يواري سوأة أخيه”. ليس بين هؤلاء من يتعلم من الطائر الذي يعود إلى العش بالطعام وهو لا يدري أن عشه خلا من ساكنيه أو ساكنته أثناء غيابه. نعم عودته بالطعام في منقاره تعني أنه يتوقع وجود أحد، ولكن هذا الأحد أو أولئك الآحاد اختفوا ربما في بطن ثعبان أو أي مفترس آخر.

أنا شخصيا لا أعرف ما الذي سوف يفعله العصفور بالضبط؟ الشاعرة تقول إنه سيحاول مرة أخرى، لعلها تقصد أنه سيبحث عن عصفورة، ينجب منها عصافير، ليكون ثمة معنى لعودته بالطعام في منقاره من بعد.

حتى إذا كان هذا بالفعل ما سيفعله العصفور، فهو لا يعني شيئا، ما دمنا لا نعرف أي دافع هو الذي يحرك هذا العصفور. أهي الغريزة وحسب؟ وإن كان الأمر كذلك، فأنى لنا نحن البشر أن نحاكيه في هذا؟ نحن نعلم جيدا أن أحدا لا يغني عن أحد، وأن من يفقد أبناءه مثلا لن يعوضه عنهم أبناء آخرون.

صحيح أننا معشر البشر، كائنات ثقيلة لا أجنحة لها، كائنات لا تطير، ولا تزقزق، ولكن هذا لا يعني أننا أقل درجة من الطيور. نحن في حالات كثيرة لا نستطيع أن نتحرك بدافع من غرائزنا، فلنا عقول ومشاعر وذكريات تتدخل في اتخاذنا للقرارات. لذلك، من بين أنماط البشر الأربعة المطروحة في القصيدة، أنا شخصيا لا أصدق بوجود ذي العقل الخاوي، وحتى إذا افترضنا أنه موجود، وأنه على المقهى يلعب النرد ويشرب الشاي، فأنا لن أصدق أنه يتمنى الموت.

مقالات من نفس القسم