“أنا العالم” الصادرة عن الكتب خان لهانى عبد المريد، تجعل من ساردها يوسف عبد الجليل نموذجا للكاتب الذى تمثل سطوره ضرورة وجودية، وإلا داهمه هذا الشعور القاهر بالوحدة والخواء، ورغم أن سرده ليس مرتبا، ورغم أنه يضع قدما فى الواقع، وأخرى فى الأسطورة، ورغم أنه يحقق امتزاجا بين البشر وكل الكائنات من النعناع والياسمين الى القطط، إلا أن هذه العين / عين الكاتب والفنان، هى التى تعطى للحياة ألوانها، وهى التى تجعلها محتملة وممكنة، بل إنها هى التى تحول العادى الى استثنائى، وجدير بالتأمل، وتحوّل الغرابة الى ألفة.
جاءت تجربة هانى عبد المريد ناضجة، ومحلّقة فى الخيال. أجاد ارتداء قتاع بطله المؤرق بهاجسين: أحدهما أنه مضطرب عصبيا، يطلب منه الطبيب أن يكتب خواطره وخيالاته على الورق، و الهاجس الثانى سؤال قديم لجده، الذى طالما حلم بأن يخرج من العائلة شاعر واحد، وهى عائلة تقتات على المجاز والكناية فى حواراتها العادية. بناء الرواية يحمله صوت يوسف الذى يقدم لنا قصة عائلته ممتزجا فيها الواقع بالأسطورة: الجد الأكبر الذى ترك قريته الأصلية عندما فقدت فصل الربيع، الجدة التى تداوى كل الأمراض بالطقوس والطب الشعبى، والده عبد الجليل الترزى الفنان، أمه غالية التى تنتهى الى العيش فى حظيرة القطط، أخوته الذين يولدون مختلفين، عمه قادر الذى صنع عالما خاصا ومتحفا من الزواحف، حبيبته ريم التى يحتويها الياسمين، ولم ينس يوسف أن يصنع أسطورته الخاصة: ولد بعينين مختلفتى الألوان، إحداهما بلون البحر، والثانية بلون الأشجار، ينتظر دوما أن ينهار فوقه العالم، يكتب القصص، ويحب ريم، ولا يمتلك إلا الكتابة فى مواجهة الوحدة.
ولكن صوتا آخر يتداخل فى السرد، إنه الرقيب الذى يطارد يوسف، وبعد أن يقنعه بأن ينشر قصته فى جريدة، يحوّل النشر الى دليل إدانة، يفتش فى ضميره ونواياه، بدعوى حماية شخصيات الرواية، وحفظ حقوقهم، من مؤلف يتحكم فى مصائرهم كيفما شاء. بهذه الحرية فى السرد، ومن خلال تدفق الحكى الذى يجمع بين رؤية يوسف لأسرته، وللمحيطين به، وتسجيله لبعض المشاهد المربكة الأقرب الى الكوابيس، وكتابته لقصة قصيرة بديعة بعنوان “تقربا للصحراء”، ثم دخول الرقيب على الخط، تتحدد تقريبا خطوط الحكاية وأطرافها: الفنان يعيد بناء العالم من جديد، وفقا لخياله ورؤيته، لا حياة له إلا بملهمة الياسمين، فى مواجهة رقيب يطارده طوال الوقت. يتركنا السرد معلّقين بين اضطراب يعجب الطبيب، فيطلب من صاحب الكتابة أن يواصلها، وبين فكرة مولد شاعر أخيرا فى العائلة، ربما يكون هو يوسف نفسه.
ما أن تفرغ من الرواية حتى تكتشف اللعبة البارعة، وحتى تدرك أن الإنحياز للحكاء ولأساطيره، ولاختلافه عن الآخرين، الإنحياز لتلك العيون المختلفة ليوسف التى صنعت كل هذا السرد المفعم بالخيال، سؤال الرواية الأهم هو: كيف يمكن أن تكون الحياة لو لم يكتب يوسف حكايته مهما كانت نظرة الآخرين له؟ كيف يمكن أن يعيش الإنسان بلا حكايات وخيال؟ الكتابة وحدها تجعل من العادى أسطورة، وهى التى تجعلنا نطرح الأسئلة، مثلما كان يوسف يسأل فى كل مرة عن سبب حبه لريم، التى لم تعد مجرد فتاة، وإنما صارت ملهمة، أصبحت عنوانا على الخيال، وعلى المكافأة التى يحصل عليها الحكاء والسارد.
كان يمكن لعبد الجليل أن يكون فنانا، ولكنه قنع بأن يكون ترزيا، فأخذ يفلسف حياته، ويقدم لأطفاله مشاهد من مسرحية اشترك فيها، لم يكن ممكنا أن يتم تقديم التحية لفن الحكى وللخيال، لولا هذه الحرية التى أتاحت لهانى عبد المريد أن يقدم الواقع وكأنه أسطورة لا تتكرر، وأن يقدم الأسطورة باعتبارها واقعا حدث بالفعل. هنا نجاح الكاتب المحورى، وهنا أيضا نجاح يوسف الذى جذب طبيبه الى جانبه، فانحاز الى الحكاية، ونسى علاجا مفترضا لمريضه.
قرر يوسف ببساطة أن يكمل قصته رغم الرقيب، اكتشف أنه يكتب لكى يبدد وحدته، وأن يكتب حتى لا ينتهى العالم. يتمسك يوسف فى النهاية بألا يكون قليل الحيلة ، فى مواجهة الرقيب القصير، يرفض يوسف أن تكون ريم مجرد وهم، كما حاول أن يقنعه الرقيب بذلك، لا يستمع حتى الى نداءات الطبيب، يتحد ياسمين ريم مع نعناع يوسف، يعيش الخيال، ويهزم الرقيب، ويصنع السارد أخيرا أسطورته الخاصة، بعد أن صنع أساطير الأسلاف، وأساطير العائلة.
أتوقع لهذه الرواية البديعة أن تحصد الجوائز، وأن تقيم جسورا قوية مع قارئها بخيالها الخصب، وبشخصياتها التى لا تنسى.هذه رواية عن الكتابة كخلاص وكعلاج من الوحدة، كتبت بخيال جامح مدهش،تقول الحكايات لنا إن الحياة سجن كبير، والإنسان كائن مثير للرثاء بدون خيال، بدون ريم ، وبدون تلك الأساطير المتصلة من الأجداد الى الأحفاد . هانى عبد المريد صوت خاص ومتفرد، يكتب مثل بطله بدون خوف أو حسابات، فاز هانى من قبل بجائزتى ساويرس عن رواية “كيرياليسون” وعن مجموعته القصصية “أساطير الأولين”، لا شك عندى فى أن “أنا العالم” لا تقل عنهما نضجا وبراعة وجمالا.